بسبب الثأر: يدرسون متنكرين في الجوف.. وفي مارب محرومون من مواصلة التعليم.. قتلوه ثأراً قبل أن يحل واجب الرياضيات في شبوة

بسبب الثأر: يدرسون متنكرين في الجوف.. وفي مارب محرومون من مواصلة التعليم.. قتلوه ثأراً قبل أن يحل واجب الرياضيات في شبوة

يدرسون متنكرين!
 
الجوف - مبخوت محمد


حين قرر الشاب «سالم أحمد» الالتحاق بجامعة صنعاء عقب تخرجه من الثانوية نهاية 2004، كان يدرك تماماً أن تنفيذ قراره يتطلب منه اكتساب مهارة التنكر والاختفاء!
بعد مضي ثلاث سنوات أثبت عاشق العلم ابن محافظة الجوف، أنه يمتلك إرادة صلبة وقدرة فائقة على استشعار الأخطار والنجاة منها؛ والآن هو على مشارف المستوى الرابع في قسم التاريخ بكلية التربية بجامعة صنعاء.
 مطلع العام 2005 قصد 20 شاباً من أبناء مديرية الزاهر بمحافظة الجوف من خريجي الثانوية التوجه صوب جامعة صنعاء، كان سالم أحدهم.
بعد انقضاء 3 سنوات عاد 17 منهم إلى مناطقهم استجابة لداعي القبيلة والاصطفاف ضمن مسلحين آخرين يترصدون للأخذ بالثأر، فيما بقى «سالم» وآخران.
«نتلقى اتصالات من أقاربنا في الجوف أن الصلح انتهى بين قبيلتنا والقبيلة الخصم. وان الطرف الآخر قتل فلان وأبناء قبيلتنا أخذوا بالثأر وقتلوا واحد منهم»، قال سالم لـ«النداء».
 وأضاف: «كثير من زملائي تركوا دراستهم قبل امتحانات المستوى الاول وعادوا إلى الجوف استجابة لحروب الثأر، ولكن الحقيقة أننا خلقنا وحروب الثأر موجودة، فما هو ذنبنا لندفع الثمن».
تزود سالم وأصدقاءه بحس أمني عالي ومنذ أول يوم دراسي لهم في جامعة صنعاء اختاروا سكنهم في المناطق النائية (أطراف العاصمة) حتى لا تصلهم عيارات بندقيات الخصم.
وخلال الأشهر الثالثة الأولى في عامهم الدراسي الأول تحملوا أعباء اختيارهم لموطن السكن الخالي من خدمات الكهرباء. الشمع وحدها وسيلة لقراءة المقررات الدراسية.
المنطقة النائية لم تكن كافية وفق حسابات الحس الأمني الذي ظل يدفعهم إلى تغيير سكنهم كل خمسة أشهر في إطار المناطق النائية أطراف أمانة العاصمة.
وفقاً ل «سالم» (27 عاماً) بعد السنة الدراسية الأولى بدأ العد التنازلي لمجموعة الشباب وصار العدد يتناقض بشكل مستمر، ولم يبق منهم سوى 3. في كثير من المرات كان عاشق العلم يذهب إلى الجامعة حاملاً مسدس، يضطر إلى وضعه تحت أحد الصناديق الكبيرة (كنتيره) قبل دخول قاعة المحاضرات.
 ويتذكر «سالم» موقفاً ما يزال يؤرقه حتى الآن أكد أنه لم يسبق أن أفصح به لأحد: «استعرت مسدساً من أحد الزملاء وكنت آخذه معي أثناء فترة إمتحانات المستوى الثاني وقبل دخول القاعة أذهب إلى جوار صندوق كبير في طرف الساحة وأجلس بجواره وأتكئ بظهري عليها وبحركة خفيفة أضع المسدس تحت الصندوق «وعندما أخرج من القاعة اخذه».
ظل سالم يكرر هذه الطريقة حتى آخر امتحان «خرجت من القاعة ورحت آخذ المسدس، لكن كانت يد لص سبقت وأخذته». «جمعت فلوس واشتريت مسدس وجبته بدل المسدس المسروق».
 لا يتردد سالم أثناء حديثه مع «النداء» في صب لعفاته على الثأر ومشاكله إذ يصف هذه الظاهرة بالجبروتية. وقال: هي التي تجبرنا على الاختفاء والتنكر وتحول أيامنا إلى قلق وترقب للموت أو لخبر مميت.
يتعطش أبناء الجوف للتعليم، لكن الأعراف القبلية، ستواصل إجهاض أحلامهم ما دامت السلطات تتنصل عن مسؤوليتها وترفض إحلال قانون الدولة بدلاً من القانون القبلي.
يتفق احمد محمد شطيف مع سالم ويعتبر خريج المعهد العالي للمعلمين (الشوكاني) الثأر تحدياً وعائقاً أمام راغبي التعليم في محافظة الجوف.
وقال: «كثير من أبناء المحافظة يتسربون من الجامعة استجابة لحروب الثأر بدوافع اعراف قبلية، وكثير منهم يلجأون لنظام الانتساب في الدراسة الجامعية كي يبقى وسط أبناء قبيلته لوجود نزاعات بينها وقبيلة أخرى».
لكن نصيب المنتسبين في التفوق لا يتعدى 5٪_.
 يصف «شطيف» حياة طلاب الجوف الدارسين في جامعات المحافظات الأخرى بالمقرفة وقال: «يعتمدن نظام سري في تنقلاتهم.. وسكنهم لا يعلم به أحد، فضلاً عن التنكر بملابس تأخذ طابعاً غير محلي». وزاد: «يعيشون في كابوس اسمه الثأر».
«شطيف» في نهاية حديثه لـ«النداء» شدد على نشر مناشدة من شباب الجوف وكل منطقة تشهد نزاعات ثأر، ناشد رئيس الجمهورية والدولة بكل مكوناتها والمنظمات والمثقفين والسياسين، العمل على مساعدة هذه المناطق والقضاء على ظاهرة الثأر التي لا تعيق تعليم الشباب فقط حد قوله، بل والتنمية والتطور وارتقاء الوعي علاوة على الدماء المراقة.
الطالب غانم حسن -مديرية الخلق - المعهد العالي للتوجيه والارشاد، قال: إن قبول النتائج السلبية للثأر كثيرة جعلت الطلاب يكتفون بدراسة الثانوية والاعدادية وأضاف: كان قراري لمواصلة الجامعة مخاطرة وحاول الأهل منعي بسبب المشاكل القائمة وكانت لنا الكثير من الصعوبات في الانتقال من الجوف وإليه وكانت تأتي الأخبار إلينا ونحن مشغولون وكثرة الأخبار أصبح الذهن مشتت والتركيز قليل، وكان تخرجي يعني بالنسبة لي ولأهلي حياة من جديد.
فيما صالح طاهر، خريج المعهد العالي، يقول: تم قبولنا في عام 98/99. وبعد شهرين من بداية الترم الأول، وقعت حوادث في البلاد وسافرنا الجوف دون أن نحضر الاختبارات وبعدها حاولنا المواصلة وفي ظروف صعبة فلا فهم ولا استيعاب ولا أمن وكان السلاح لا يفارقنا حتى الاحزمة وقاعات الدراسة. وكان الحذر واليقظة موجودة في كل الأوقات ويلاحظ أثناء الدخول والخروج من بوابة المعهد.
 ونطالب كل المعنيين والمنظمات العمل على إنقاذ مايمكن إنقاذه فالجهل دمرنا والثأر يعذبنا.
 

***
 
 
محرومون من مواصلة التعليم.. بسبب الثأر!!

 مارب - علي الغليسي
أكثر من ثلاثين طالباً يدرسون في مكتب جامعة العلوم والتكنولوجيا بمحافظة مأرب بنظام التعليم عن بعد حرموا من الالتحاق بامتحانات الترم الأول بسبب الثأر، وكل يوم يقتربون فيه نحو الامتحانات النهائية تزداد حسرتهم على أن عاماً دراسياً كل كاملاً سينتهي لم يدخل ضمن رصيدهم الجامعي.
مأساة الثأر تكمن في أنه حرب على كل جميل وكل أمر إيجابي فالرصاصات الآثمة تغتال البراءة وتحرق الزهور قبل أن تتفتح وغرامات المجهود الحربي لا تستثني الفقراء ولا ترحم الأيتام وكما يقال (الغرم بكى اليتيم).
لكن أن يصل الأمر إلى حرمان الشباب من حقهم في التعليم فتلك مأساة بحد ذاتها كون الجهل يكرس من المأساة وقلة الوعي توقد نيران الحروب.
صحيفة النداء ومأرب برس، في إطار حملة جمعيات المستقبل والسلام والإخاء (إلا التعليم)، في مأرب والجوف وشبوة قامتنا بالنزول الميداني إلى قبائل (الجدعان) في نطاقهم الجغرافي (رغوان- مدغل- الجزر) كونهم الطرف الأكثر تضرراً من قضايا الثارات وتفصل أبنائها مساحات واسعة عن التأهيل الأكاديمي بسبب الثأر والحروب القبلية.
 
محاربة الثأر تحتاج تكاتف المجتمع
الشيخ/ ناجي بن عبد الله شرهان الذي استضاف ديوانه لقاءاًَ موسعاً ضم قيادة جمعية المستقبل بمأرب وعدد من الشخصيات الاجتماعية وعدد من الطلاب المحرومين من مواصلة التعليم بسبب الثارات، قال إن مبادرة جمعية المستقبل المتعلقة بتهجير الطلاب وتجريم المساس بهم خطوة إيجابية في طريق القضاء على الثارات الذي تعترضه صعوبات وعوائق متعددة مشيراً إلى أن الثارات والفوضى تمثل تهديداً حقيقياً لكيان المجتمع الأمر الذي يتطلب تكثيف الجهود ولترسيخ الأمن والأمان الأمر الذي من شأنه يسهم في التنمية وإذا لم تتضافر جهود أبناء المجتمع في هذا الإطار فإن واقعنا سيراوح مكانة واعتبر التعليم أهم المجالات التي ينبغي الاهتمام بها والتركيز عليها وحماية طلابه من الثارات القبلية وذلك حتى ينشأ جيل متعلم وواع يقوم بدوره في الحد من الثارات والنزاعات القبلية.
أما الشيخ/ أحمد الباشا بن زبع الذي قطع مسافة طويلة لحضور ذلك اللقاء، فقد اعتبر أن مبادرة الصلح العام التي أعلنها رئيس الجمهورية في العام 2004م بمحافظة مأرب هيأت جواً مناسباًِ وأتاحت فرصة للتواصل بين قبائل المحافظة الذين أبدوا تفاعلاً منقطع النظر مع تلك المبادرة معرباً عن أسفه من عدم استمرار الصلح العام الذي كان محدداً بعامين ونصف العام، وذلك يرجع إلى أن كثيرين حول الرئيس لم يعجبهم الصلح بين القبائل ووقفوا عائقاً أمام عدم تمديد سنوات الصلح أو مبادرة أخرى، داعياً الرئيس إلى المبادرة وإلى إعلان صلح جديد لأن الناس سيستجيبون له أكثر من غيره واقترح في ذات السياق على أبناء الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر أن يقوموا بالتنسيق مع رئيس الجمهورية لضمان استجابة كافة القبائل لدعوة الصلح العام الذي حددوه بسنة عقب وفاة والدهم.
وأعلن الباشا عن مباركته لمبادرة الجمعية وتوقع أن تحظى بقبول واسع بين كافة القبائل المتنازعة مشدداً على ضرورة قيام الجمعية بتكثيف الزيارات والالتقاء بالأطراف ذات العلاقة والاستمرار في حملة التوعية متمنياً للجمعية التوفيق والنجاح في مهمتها الصعبة ومبادرتها المهمة.
شهادة الثانوية تكفي!!
الطلاب الذين حضروا ذلك اللقاء جميعهم يحمل رغبة جامحة لمواصلة التعليم والتأهيل الأكاديمي، وصارت الشهادة الجامعية بالنسبة لهم حلماً بعيد المنال وأثناء حديثهم عن معاناتهم اختلطت مشاعر الحسرة بتنهيدات كان يدفعها حرص شديد على العلم فالطالب علي فرحان عتيق وزميله محمد ناجي شرهان اللذين حصلا على الشهادة الثانوية في العام 2000م لم يخفيا ندمهما على سنين العمر التي انقضت دون أن يواصلا مشوارهما التعليمي وهاجما بشدة الظروف التي حرمتها التعليم والعوائق التي وقفت في طريقهما وكان (الثأر) العائق الأكبر.
أما الطالب عامر مبخوت الصفري الذي أنهى تعليمه الثانوي العام الماضي قال أنه كانت لديه رغبة وحرص شديد على الالتحاق بكلية التربية والآداب والعلوم بمأرب لكن حبسه حابس زملائه، نظراً لخوفه من أن يكون هدفاً لرصاصات الثأر عند انتقاله إلى المدنية لمواصلة التعليم الجامعي مما جعله يكتفي بالشهادة الثانوية.
الثأر يحول بينهم والبكالوريوس:
يقول علي مبخوت محمد الصفري أنه تقدم في العام 2004م للالتحاق بكلية الشرطة في العاصمة صنعاء واستطاع أن يتجاوز تعقيدات القبول في الكلية وأصبح في عداد المقبولين غير أن ما تعرض له زميله صالح ناجي كعلان في عام التخرج من استهداف في شارع تعز الذي قتل على خلفية قضية ثأر جعله يتوقف عن مواصلة الدراسة وذلك بعد أن استعرض سيرة زميله الذي تحول إلى ضحية من ضحايا الثأر قبل أن يحتفل مع زملائه بالتخرج من الكلية بعد أن كان يفصله عن ذلك عدة أشهر فقط.
أما الأخ/ عبد الله ناجي صالح مسمار الذي حصل على شهادة الدبلوم وقام بالتسجيل في جامعة العلوم بصنعاء في العام 2004م بغرض الحصول على البكالوريوس لازال محروماً من البكالوريوس حتى اليوم بعد أن توقف في فترة الامتحان من ذات العام بسبب الثارات القبلية.
المصير ذاته واجه كل من محمد علي شيبان وناجي فرحه صالح عتيق اللذين سجلا في المعهد العالي لإعداد المعملين بمأرب عام 2000م ليتخصصا في مادة الإنجليزي واجتازا امتحانات الترم الأول بنجاح غير أن الثأر وقف أمامهما مع بداية امتحانات الترم الثاني وحبسهما في منازلهم ولم يستطيع الوصول إلى مدينة مأرب حتى لا يكونا هدفاً لرصاصات الثأر وعلى إثر ذلك قررا الإحجام عن مواصلة التعليم بشكل نهائي.
الباشا سعيد زبع قال انه درس في المعهد الفني والمهني بمحافظة مأرب ولم يستمر في تلك الدراسة بسبب الثارات وقرر الانتقال إلى المركز الفني للتدريب والتصنيع بصنعاء وهو مركز مهني متخصص يمنح شهادة الدبلوم بعد ثلاث دورات وأشار إلى أنه اجتاز امتحانات دورتين بنجاح، لكن النجاح لم يكتب له في الحصول على الدبلوم بعد انتهاء فترة الصلح بين قبيلته وقبيلة أخرى أثناء فترة الدورة الثالثة من الدبلوم.
نظرة المستقبل
تلك نماذج قليلة ليس إلا وتحتفظ مديريات مأرب بنماذج أخرى مشابهة وينتظر أولئك الطلاب مع زملائهم الذين أتيحت لهم الفرصة للدراسة أن يتم تحريرهم من زنزانة الثأر المظلمة ويترقبون وكلهم أمل أن تجد مبادرة جمعية المستقبل طريقها إلى حيز التنفيذ ليتمكنوا من مواصلة تعليمهم في أمان وسلام.
طلاب (الجدعان) الذين استمعنا إلى معاناتهم يصرخون نريد أن نتعلم ويعلنون تضامنهم مع شعار (إلا التعليم) في الوقت الذي كان طلاب التعليم الأساسي يستمعون إلى كل تلك الأحاديث ويرسمون في مخيلاتهم صورة مستقبل قاتم ينتظر مشوارهم التعليمي ليس من نور فيه سوى شهادة الثانوية العامة.
خروج المبادرة إلى النور أمر ممكن مع مرور الأيام غير أن الثلاثين طالباً الذين يدرسون بمكتب جامعة العلوم بمأرب ينتظرون حلولاً آنية ليتمكنوا من الالتحاق بالامتحانات النهائية حتى لا يجدوا أنفسهم محرومين من عام دراسي كامل مضى من أعمارهم ولم يضاف إلى رصيد دراستهم الجامعية.
 
 
***
 
 
قتلوه ثأراً قبل أن يحل واجب الرياضيات
 
 شبوة - شفيع العبد

قرع جرس المدرسة معلناً نهاية يوم دراسي شاق، ووصل صوته إلى الفصول التي تعج بالطلاب والمدرسين. لملم الجميع كراساتهم وكتبهم وأقلامهم ووضعوها على عجل في حقائبهم. تدافع الجميع نحو الباب إلا هو. مشى على مهل، سعيدا بيومه وبما ناله من معلومات. كان تفكيره منصبا على حل الواجب الذي كلفهم به مدرس الرياضيات، ثم مذاكرة ما أعطي لهم من دروس خلال اليوم. قبل ذلك كان ذهنه مشغولا بالسيارة التي سيستقلها عائداً إلى البيت. انتظر زهاء الساعة أمام باب المدرسة إلى أن أكرمه القدر بسيارة، استقلها عائداً إلى المنزل مشغولاً بالواجب والمذاكرة. لم يكن يفكر في وجبة الغداء وكيف ستكون. هل سيأكل "رز وصانونة" أم أن هناك سمكا أو دجاجا؟
وصل إلى البيت وتناول غداءه. ألقى جسده على فراش أكلته السنون، ليرتاح قليلاً بعد العودة لجو الدراسة. فجأة طلب منه الأب الذهاب إلى مكان ما. خرج ملبياً طلب أبيه، الذي يحبه كثيراً. أنهى المهمة. وبينما هو عائد تلقى جسده رصاصات كانت قادمة من بندقية شخص بينه وبين أبيه خلاف على أرض. سقط صريعاً قبل أن يحل واجب الرياضيات.
 سجين وقتيل
لم يكن يدور بخلده أن زيارته لأخيه السجين على ذمة قضية جنائية ستكون هي اللحظات الأخيرة التي يراه فيها. منذ شهرين لم يتمكن من زيارته أو رؤيته بسبب انشغاله بالامتحانات، حيث أوقف كل حركاته وسكناته وسخرها للكتب والكراريس، بهدف التفوق وإكمال الثانوية العامة والانتقال إلى كلية الطب، الحلم الذي يراوده، كان يشتاق لارتداء البدلة البيضاء، يتمنى أن يكون طبيباً يخفف آلام الناس ويعيد الابتسامة إلى شفاههم. لم يكن يفكر في التجارة والربح من المهنة كما هو حال كثير ممن أسموهم ملائكة رحمة. كانت أحلامه أكبر من جسده النحيل.
تحدث مع أخيه السجين طويلاً، حدثه عن الامتحانات وتوقعاته للنتيجة، قص عليه حكاية زميله الذي حرموه من امتحان الانجليزي بعد أن اكتشفوه قد كتب "براشيم" على أكمام قميصه. حدثه عن حلمه، وكشف له عن رغبته في خروجه من السجن ليكون سنداً له في رحلة البحث عن الحلم.
أخوه المسجون على خلفية ارتكابه جريمة قتل، كان يدرك ان عقوبة الإعدام أقرب إليه من كل شيء، ومع هذا لم يحبط أخاه، وشد من أزره.
طال الحديث بينهما. لم يشعرا بالوقت إلا على صوت عسكري: "انتهت الزيارة!". توادعا بحرارة خففتها الدموع التي انهمرت من عيون الأشقاء. غادر المكان مودعاً واعداً بزيارة أخرى الأسبوع القادم. خرج تاركاً السجن خلفه وفيه أخوه. تجول في السوق قليلاً. فبادره أحدهم برصاصات سكنت رأسه وجسده. مات دون أن يعرف قاتله، الذي اتضح فيما بعد أنه أخ للشخص الذي قتله أخوه.