الحرب والعنف.. النتائج والآثار

الحرب والعنف..النتائج والآثار - عيدروس اليهري*

بلغ السيل الزبى
 هانحن والموتى سواء
 فاحذروا يا خلفاء
 لا يخاف الميت الموت
 ولا يخشى البلايا
قد زرعتم جمرات اليأس فينا
 فاحصدوا نار الفناء
 وعلينا... وعليكم
فإذا ما أصبح العيش قرينا للمنايا
 فسيغدو الشعب لغما
 وستغدون شظايا! (أحمد مطر)
 الحرب تولد الحاجة إلى عدو معقول طويل الأجل، بغية تبرير الإنفاق العام للاعتمادات (جاد أمير).
العنف هو خطاب أو فعل مؤذٍ أو مدمر يقوم به فرد أو جماعة ضد فرد آخر أو جماعة أخرى. والحرب هي أقصى درجات العنف وأشدها ضرراً على حياة المجتمع وسلامته وانسجامه. والعنف هو أفدح الأخطار التي تهدد النظم الاجتماعية، وتقوض أسسها البنيوية وتتركها نهباً للفوضى والتناحر والتمزق والعداوات والضغائن والغل والخوف والرعب والكره والبغضاء والانتقام وكل ما يمكن تخيله من الأوبئة والشرور الاجتماعية التي تصيب الأفراد والجماعات في البلدان التي تشيع فيها ثقافة العنف والحرب والقمع والإكراه والإقصاء والتهميش والتصنيف والحوار العنيف.
وقد ظل العنف منذ بداية التاريخ, وسوف يستمر إلى آبد الآبدين, العدو الأول للسياسة لأنه ينذر بدون توقف بانهيار النظام السياسي للمجتمع. وهذا هو ما جعله يحظى باهتمام الناس وقلقهم ودفعهم منذ فجر التاريخ الإنساني للبحث عن شتى السبل والوسائل والآليات التي من شأنها محاصرة العنف وتضييق نطاقه والسيطرة عليه وعلاج أسبابه ونتائجه وآثاره. ولم تكن الحضارة الإنسانية في حقيقة أمرها إلا استجابة الإنسان لهذا التحدي الخطير وقد استطاعت الدول المتقدمة أن تعثر على أنجع السبل وأفضلها لعلاج هذا الداء الوبيل ببناء مؤسسات فعالة للعدالة وإدارة الشأن السياسي بقيام دولة المؤسسات والنظام والقانون وإيجاد السلطة السياسية الديمقراطية القادرة على حماية وتأمين شروط الحياة الاجتماعية لجميع أفراد المجتمع السياسي بدون عنف أو إكراه أو خوف أو حروب.
ولا أعرف كيف يمكن تبرير الحرب والعنف في مجتمع أعلن أنه ديمقراطي وأن الديمقراطية هي الطريق الذي لا رجعة عنه مهما كانت الصعوبات! إذ إن الديمقراطية تعني أولاً وقبل كل شيء حل الأزمات والمشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية... الخ، عبر ومن خلال الوسائل السلمية والحوار والتعاون والقانون والدستور والالتزامات والتعهدات والتراضي والتفاهم وتبادل الآراء وتحكيم العقل ولغة الإقناع والمحاجة والبحث عن الأسباب وترجيح الحكمة والذكاء والتسامح وإيثار السلم والسلام طريقاً آمناً لحل جميع المشكلات وتجاوز كل المعوقات مهما كانت.
الديمقراطية تعني تحريم الحرب والعنف والقمع والإكراه والقوة تحريماً مطلقاً في حل المشكلات. فإذا ما حضرت الحرب ولغة العنف والقوة والإكراه تبخرت الديمقراطية وانتفى وجودها كلياً من أفق الحياة الاجتماعية والسياسية للناس وهذا هو حال مجتمعنا اليمني الراهن، الذي يعيش حالة حرب مستمرة منذ 1994. هذه الحرب الكبرى التي شنت تحت راية أيديولوجية هي "حماية الوحدة من الانفصالـ"، وهي الحرب التي ذبحت الوحدة الديمقراطية بين دولتي الجنوب والشمال، وتناسلت على مدى 14عاماً عددا لا يحصى من الحروب الصغيرة والكبيرة وأعمال العنف والقمع والإكراه اليومية في حياة الناس في الشمال والجنوب. وها هو الجنوب وناسه يتحول على مدى 14 عاماً إلى ساحة حرب وكر وفر وقمع وقتل وسلب ونهب وتهميش وإقصاء وتصنيف واعتقالات وضرب الناس بالقنابل والهراوات وإشعال الحرائق والتخريب والتدمير والغضب والعدوان، وكل ممارسات العنف بالأقوال والأفعال، العنف الرسمي والاحتجاج الغاضب المضاد. وها هي الحرب في صعدة تطوي عامها الخامس ولا تزال مرشحة للمزيد من الاشتعال، والأحداث العنيفة. وها هي الدبابات والمدرعات والجند والطيران تستأنف ضربتها في الضالع وردفان وكرش وطور الباحة وزنجبار وعدن وحضرموت وكل الجنوب الذي أصبح اليوم يعيش في حالة حرب فعلية ونفسية، واقعية ورمزية، مادية ومعنوية، كل شيء هنا مشحون بأجواء الحرب والعنف والخوف والرعب والغضب والعدوان من المظاهر المسلحة إلى قمع المظاهرات والاحتجاجات الشعبية إلى حملة الاعتقالات الواسعة للنخب السياسية وأساتذة الجامعة والنشطاء السياسيين والكتاب والصحفيين والمحاميين والمواطنين والطلبة فضلاً عن الحملة الإعلامية والخطب الرسمية والمناظرات التلفزيونية... الخ، كل شيء هنا ينضح بالعنف والحرب والحذر والتوجس والغضب والحقد والكره والعدوان المتبادل، الرسمي والشعبي.
لو أن في هذا البلد المسمم بالبؤس والخراب شيئاَ من السياسة والعقل والحكمة والمسؤولية الوطنية، وجرى تسخير تلك الإمكانيات والطاقات البشرية والمالية والمؤسسية التي استهلكها المجهود الحربي لصالح التنمية الاجتماعية وحل المشكلات بالطرق السلمية لكانت حياتنا اليوم أفضل ألف مرة مما نحن فيه، ولكنا حافظنا على وحدة الحياة الاجتماعية والسلام والتعاون والانسجام وأمّنّا صيانة دماء الناس وحقوقهم وحاضرهم ومستقبلهم في الجنوب والشمال في صعدة وردفان، ولكنا تفادينا تلك النتائج والآثار التي لم تكن بالحسبان.
 لو أن القابضين على زمام القوة في "بلاد اليمن السعيدة" أدركوا ما هي النتائج والآثار القريبة والبعيدة التي تخلفها الحرب والعنف في حياة الأفراد والجماعات، لو أنهم تأملوا بتجرد ومسؤولية أخلاقية وإنسانية ووطنية حقيقية لاختنقت الكلمات في حناجرهم, ولتسمرت الأقلام بين أصابعهم، ولارتعدت فرائصهم من هول ما يفعلون بمجتمعهم ومواطنيهم ويزرعون من شرور وكوارث يستحيل تبريرها أو التكفير عنها أو مداواتها مهما حاولوا أو أرادوا فيما بعد.
فكم هو باهظ ذلك الثمن الذي قدر علينا دفعه لقاء سلوك هذه السلطة المجنونة، كم هو باهظ ذلك الثمن الذي دفعه وسوف يدفعه شعبنا من دمه وزمنه وحياته وجهده وعرقه لإشباع شهوات وانفعالات حكام!!
إن العنف اللفظي أو الجسدي، الخطابي والفعلي, الذي يتجرعه كل يوم شعبنا في الشمال والجنوب, سوف تكون نتائجه مهولة وغير متوقعة على حياة الإنسان اليمني في الغد القريب؛ ومن يزرع الشوك لا يحصد العنب، ومن يزرع الريح يحصد العاصفة، ومن يزرع الحرب والعنف والموت والقمع والخوف والاعتقال، لا يحصد إلا البغضاء والكره والغضب والعدوان والعنف والدمار، وكل هراوة تلسع جسد شاب محتج وكل دمعة تسيل من عين مواطن وكل قيد يضع على معصم ناشط سياسي وكل ليلة يمكثها مواطن في زنزانة السجن وكل مظلمة لم ترد وكل أحساس بالخوف والقهر والظلم والإحباط واليأس وكل خطاب أو كلمة احتقار أو تهديد أو تهميش أو تصنيف وإقصاء واستبعاد وتخويف وكل أحساس بالضيق والحرمان والعجز والاستلاب وكل طلقة رصاصة تخترق جسد إنسان وكل قطرة دم تنزف من جرح مصاب العنف وكل صورة مدرعة أو دبابة تسكن في ذاكرة وكل صوت طائرة حربية تحلق فوق رؤوس الناس وكل فجيعة طفل أو امرأة أو أب أو أم أو أخ على حبيب أو عزيز راح ضحية العنف الرسمي والعنف المضاد.
خلاصة القول: إن كل ما يخلفه العنف والحرب من جراح وإحساسات وذكريات وآلام وردود أفعال وقيم ومواقف, كل ذلك سوف يرتد على حياتنا شئنا أم أبينا بوابل من الشرور والأوبئة ويحيل مستقبل الجميع إلى سواد حالك وليل طويل، وجحيم لا يطاق أبداً. وليس هناك أي نتائج سارة يمكن توقعها من هذا العنف المفرط، حتى وإن انتصرت القوة الرسمية في إخراس كل خصومها المفتعلين، فالعنف لا ينتج إلا العنف والكره لا يولد إلى البغضاء. والحب والسلام والرفق والاحترام والحرية والكرامة, هو السبيل الذي لا سواه لحياة الناس بأمان, وهو كذلك السبيل الأمثل لتنمية الأوطان وازدهارها.
 "أطلقوا سراح السجناء وكفوا عن قمع الحراك السلمي".
* استاذ مشارك، جامعة عدن