في انتظار أول تقرير مصير جنوبي: 1 سياسة تفكيك الاحتجاجات ستدفعها الى السلاح

الملامح العامة التي قد تدفع احتجاجات اليوم إلى خيار السلاح تتطابق كثيراً مع تلك التي جعلت من الكفاح المسلح سيد المشهد الجنوبي مطلع الستينيات.
بالنسبة إلى العالم والمخترع آلان كاي، فإن «أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي إختراعه». لكن خطوات السلطة في الجنوب (آخرها حملات الأسبوع الماضي والجاري) لا تمت، بصلة، إلى أي طريقة مسؤولة للتنبؤ بالمستقبل. إنها تطرد السياسة من معادلات إدارة الوضع، وتدفع الاحتجاجات بجلافة خارج مربعها السلمي. والأكيد أن على الرئيس صالح أن يبعث إلى الجنوب نوايا أخرى غير الدبابات، إذ من الكارثة التفكير في المستقبل بدماغ دبابة.
مؤشرات الأحداث ترفع من حصة السلاح في إدارة مسارات الأزمة، خلال الفترة القادمة. والباب مفتوح لهذا، بالنظر إلى جملة أمور منها أن الدم، الذي ظل اللاعب الرئيسي في معظم الصراعات السياسية والاجتماعية في التاريخ اليمني بشقيه الشمالي والجنوبي، قد تعاظم دوره خلال الحقبة الأخيرة في ظل غياب دولة القانون. إن الخيارات السلمية أمام الاحتجاجات الجنوبية تتقلص أكثر فأكثر. وإذا واصل الوضع هرولته هكذا، فمن المتوقع أن تلتفت الاحتجاجات إلى مثالين مُشجِّعين: حرب صعدة القريبة زمنياً والكفاح المسلح قبل نحو نصف قرن.
رغم اختلاف الظرف التاريخي للاحتجاجات الحالية عنه في مرحلة الستينيات الثورية، إلا أن صيغة موازية للكفاح المسلح قد تعلن عن نفسها. الملامح العامة التي قد تدفع احتجاجات اليوم إلى خيار السلاح تتطابق كثيراً مع تلك التي جعلت من الكفاح المسلح سيد المشهد الجنوبي مطلع الستينيات. لقد تصدر أبناء الريف والقبائل طوفان ثورة البنادق آنذاك لعدة أسباب، بينها تعرضهم للاقصاء من التمثيل السياسي والاقتصادي الخ... وهو الحاصل اليوم بصيغة أو بأخرى.
ويزيد من ترجيح احتمال انزلاق الوضع إلى مواجهات مسلحة بين الطرفين أن السلطة عملت على دفع الاحتجاجات نحو السير تحت ظل البندقية بدلاً عن اللافتة القماشية. وهي لم تفعل ذلك عبر عمليات القمع فقط، وإنما أيضاً بواسطة خطوة أشد غباء: سياسة شق الحركة الاحتجاجية عبر اللعب على شروخ الجنوب وشراء المواقف.
 
سياسة تفكيك الاحتجاجات ستدفعها إلى السلاح
غالباً ما تذهب المداولات الكتابية والشفهية إلى التسليم بأن تفكيك حركة الاحتجاجات السلمية سيؤدي إلى إنهائها. لكن هذا، في الواقع، فخَّ كبير. إذ على العكس تماماً، لن تؤدي سياسة شق جمعيات المتقاعدين أو التصالح والتسامح، مثلاً، سوى إلى إفراز صيغة موازية للكفاح المسلح.
لقد وصلت الاحتجاجات إلى تحسس سقف «حق تقرير المصير». والأيام القادمة  قد تكون على موعد مع إعلان أحد الأطراف المؤثرة وسط الحركة الاحتجاجية أن السلاح هو الوسيلة المثلى لتحقيق هذا المطلب. وحينها، من المرجح أن تشهد الحركة انقساماً متصاعداً وحاداً بين اتجاه يدعو إلى النضال السلمي وآخر يعتنق الكلاشينكوف.
وعلى غرار مشهد منتصف القرن، قد يلتهم الاتجاه الأخير الرأسمال الشعبي في الجنوب بحيث يجد  الاتجاه السلمي نفسه أمام مصير من إثنين: الانسحاب من الساحة أو الانضمام إلى تيار تقرير المصير المسلح. وستأخذ الأحداث منحى أكثر خطورة في حال قرر أكثر من طرف جنوبي، كل على حدة، دخول مضمار الكفاح المسلح. فعند تلك اللحظة، لن يواصل علي محمد السعدي أو عبده المعطري، مثلاً، السير في ثياب الجنوبي «المعتدل». ستشهد الاحتجاجات تنافساً على نموذج الجنوبي «المتطرف» الذي ربما تنظر السلطة من خلاله، الآن، إلى ناصر النوبة أو حسن باعوم أو الشنفرة. وحينها، لا تنتظروا من محسن باصرة أو أي إشتراكي (وربما مؤتمري) في الجنوب أن ينظر إلى البندقية بحياد.
 إن ذلك ، لو حدث، سيقفل معظم الأبواب التي ماتزال مفتوحة (أو مواربة) أمام احتواء البركان سلمياً. إذ سيخلق التنافس على الحضور الشعبي ومقود السلطة بين الأطراف المتفرقة انسداداً شديداً أمام أي إتفاقية صلح قد تذهب السلطة إليها. والدرس التاريخي لا يثرثر بأمور بعيدة عن هذا.
 
حشر النضال السلمي في خانة خانقة
لنتوقف قليلاً ونلق نظرة على خاصرة القرن الماضي. لقد حشر «الكفاح المسلح» القوى الملتزمة بالنضال السلمي في خانة خانقة، ودفعها إما خارج المشهد، أو إلى السير تحت مظلته (النظرية أو العملية). ففي النصف الأول من الستينيات، شعرت مختلف القوى السياسية في الجنوب «باختلال توازنها وتماسكها السياسي والتنظيمي». وهذا، حسب الباحث العراقي علي الصراف، «نجم بالدرجة الأولى عن فقدانها أعداداً كبيرة من مؤيديها الذين التحقوا بالثورة المسلحة». على سبيل المثال، في 1965، تحول حزب الشعب الاشتراكي، بقيادة عبدالله الأصنج، من موقف المتمسك بتقرير المصير عبر الوسائل السلمية إلى مؤيد للكفاح المسلح، بعد أن وجد أنه «مالم يغير موقفه من موضوعة الكفاح المسلح، فإن مصيره قد يصبح عرضة للخطر»، طبقاً للصراف.
وقد أضطر حزب الشعب إلى تبني النظرية النضالية لـ«الجبهة القومية» عبر مساعيه لقيام «منظمة تحرير جنوب اليمن المحتل» التي أعلنت تبنيها الكفاح المسلح. ويعزو الصراف - في كتابه «اليمن الجنوبي: الحياة السياسية من الاستعمار إلى الوحدة» -هدف الحزب من وراء قيام المنظمة إلى شقين: «المزايدة السياسية على الجبهة القومية»، و«تشكيل قوة ضغط عسكرية على سلطات الاحتلال البريطانية تسمح بتسليمه السلطة في آخر المطاف، عندما يقرر البريطانيون الرحيل عن المستعمرة».
 
الكفاح المسلح من أجل السلطة
 في الواقع، لم ينهض الكفاح المسلح من أجل إخراج البريطانيين من عدن فحسب. بل إن هذا - وفقاً لقراءتي- لم يكن أكثر من هدف ثانوي (أو الهدف رقم 2، إن شئتم). لقد أتى الكفاح المسلح، بشكل رئيسي، في سياق التنافس والصراع بين القوى السياسية الفاعلة، حينها، على وراثة زمام اليوم التالي لرحيل الاستعمار. من أبرز الشواهد على هذا، انفجار الحرب بين «الجبهة القومية» و«جبهة التحرير»، من أجل السيطرة على عدن وبقية المناطق الجنوبية، بعد أن وصل التنافس الحاد بينهما على ذلك إلى الانفجار بشكل واسع قبل رحيل البريطانيين نهاية نوفمبر 1967. 
هذا التنافس بين الجبهتين القومية والتحرير كان يأخذ، غالباً، صورتين أساسيتين: الصراع المباشر بينهما وتصعيد العمل المسلح ضد قوات الاستعمار. وبقدرما كان أحد الطرفين يقوم بمهاجمة البريطانيين لزيادة رصيده الشعبي، كان تحقيق هذا الهدف يساهم في تصعيد التوتر مع الطرف الآخر. على سبيل المثال، بعد خروج الجبهة القومية من جبهة التحرير، أواخر 1966، «بدأت مرحلة جديدة من تصعيد العمل العسكري ضد القوات البريطانية». وتعتبر الصراف أن ظهور القوة الشعبية التي تتمتع بها الجبهة القومية في الإضراب الجماهيري الذي دعت إليه  بمناسبة مرور 128 عاماً على احتلال عدن كان واحداً «من أهم الأسباب التي ساهمت في تصعيد التوتر بين العناصر الموالية للجبهة القومية والعناصر الموالية لجبهة التحرير».
أبعد من ذلك، ذهب الشعور بالقوة بالجبهة القومية إلى التعامل مع الكفاح المسلح لا باعتباره وسيلة لتحقيق الاستقلال، بل كغاية بحد ذاته. فبينما أعلنت بريطانيا نيتها في الرحيل، رفضت الجبهة ذلك: كان الانجليز قد قرروا استقبال بعثة عن الأمم المتحدة تزور عدن بغية إيجاد حل لمسألة تقرير مصير المستعمرة، في سياق التزامهم كمستعمرين بترتيب اليوم التالي لرحيلهم. إلا أن الجبهة القومية رفضت مجيء البعثة وصعدت العمل المسلح لمنعها من أداء مهمتها في تلمس حل سلمي يرضي الجميع، وهو ما اعتبرته الجبهة لا يتفق واهداف الشعب وثورته.
لكن أي محاولة لقراءة مرحلة «الكفاح المسلح» تتطلب العودة إلى أحداث وصراعات المراحل السابقة عليها: مثلاً، إضرابات النقابات العمالية في النصف الأخير من الخمسينات والصراع بين قوى الوحدة وقوى الانفصال قبل ذلك. ولعل هذا يقدم صورة أشمل لمسلسل أحداث منتصف القرن. وسيمكننا ذلك من فهم خلفية الكفاح المسلح واليوم التالي لرحيل البريطانيين، بقدرما سيساعدنا على تحليل اللحظة الراهنة وتوقعات مساراتها غداً. إن أغلب المؤشرات اليوم تتحدث عن حالة موازية، من عدة جوانب، للحالة الجنوبية أواسط القرن العشرين.
 
إضرابات منتصف القرن واحتجاجات اليوم
لقد سجلت الاحتجاجات الحالية حضوراً وانتعاشاً كبيرين لم يشهدهما الجنوب سوى في النصف الأخير من الخمسينيات، حين أجتاحت الاضرابات العمالية المشهد السياسي وأعادت صياغة معادلاته. وقد عرفت اضرابات النقابات العمالية، قبل 5 عقود، تحولات وصراعات وتأثيرات تتوازى كثيراً مع ما مرت به، حتى الآن، احتجاجات جمعيات المتقاعدين والتصالح والتسامح وبقية الفعاليات.
فمثلما اقتصر دور النقابات العمالية، منتصف الخمسينيات، على النضال المطلبي، حدث الشيء نفسه عند انطلاقة احتجاجات المتقاعدين العام الماضي، حيث رفعت قائمة مطالب تضمنت 13 مطلباً حقوقياً.
وعلى غرار إضرابات الخمسينيات، انتقلت الاحتجاجات الحالية من مربع النضال المطلبي (الذي بدأت في إطاره) إلى النضال السياسي،  وصولاً حدًّ طرح مطلب «حق تقرير المصير». هذا الانتقال حدث، على الأرجح، بعد منع السلطات انعقاد مهرجان المتقاعدين في 2 أغسطس الماضي. لكن ذلك لم يكن نقطة التحول الرئيسية (والخالصة). فقبل ذلك اليوم، كانت عملية القمع قد طالت مسارات الاحتجاجات السلمية بعدة طرق، لم تقتصر على محاولات منع المحتجين عن ممارسة حقهم في التظاهر أو اعتقال العديد منهم. وقد تصاعدت وتيرة القمع منذ ذلك اليوم، ودخلت الفعاليات الاحتجاجية مرحلة من تساقط القتلى والجرحى وسط المحتجين.
وقد أدى قمع الاحتجاجات، بعد سقوط قتلى وجرحى وسطها مطلع الثلث الأخير من العام الماضي، إلى تصعيد الغليان الجنوبي ورفع سقف المطالب بالموازاة. وفيما ارتفعت درجة الجاهزية الأمنية لقمع الحركة الاحتجاجية، خلال الأيام القليلة الفائتة، بدأت بعض بوادر استعداد أطراف في الاحتجاجات لدخول مواجهة مسلحة مع السلطات في الظهور. وما لم تتغير السياسة الأمنية في الأيام المقبلة، فمن غير المستبعد أن تبدأ الحركة الاحتجاجية، التي ماتزال تصر على الالتزام بالنضال السلمي، في الانزلاق إلى تذكر لعلعة رصاص مطلع الستينيات على نحو عملي.
لقد عرف الجنوب، بخلاف الشمال، تجربة النضال السلمي (عبر الاضرابات المطلبية والسياسية) كما عرف النضال المسلح. وقد كان الأخير بمثابة الإنقضاض الشرس على فرصة الجنوب في تحقيق استقلال قائم على المواطنة والحقوق والإرادة المستقلة للأفراد.
 
اضرابات للمطالبة بحق التقاعد
بحلول نهاية 1959، كان إجمالي الاضرابات قد بلغ 84 اضراباً عمالياً. كانت لها آثارها الكبيرة في تغيير مسارات إدارة شؤون الحياة اليومية والسياسة آنذاك، رغم الضغوط والاجراءات التي اتخذتها إدارة المستعمرة ضد الاضرابات وقادتها (عبر اعتقالهم أو نفيهم، مثلاً).
وقد واصلت النقابات إضراباتها حتى بعد صدور «قانون العلاقات الانتاجية» الذي وضعته الإدارة البريطانية، في 15 أغسطس 1960، لحظر ممارسة حق الإضراب على نقابات العمال.
غير أن السلطات البريطانية كانت كثيراً ما تضطر إلى تقديم التنازلات للقوى العمالية والسياسية، كما حدث بعد سلسلة الاضرابات التي نظمتها الجبهة الوطنية المتحدة بالاشتراك مع النقابات عام 1956.
وكانت الجبهة، التي تأسست عام 1955، ترفع، في إطار اتحاد نقابات عمال عدن، مجموعة مطالب اقتصادية وسياسية من قبيل: رفع الأجور، إنشاء صندوق للبطالة، ضمان العمل، حق التقاعد، حق الاضراب، رفض القانون الذي يشجع الهجرة إلى عدن من بلدان الكومنولث.
وقد تمكن مؤتمر نقابات عمال عدن (تشكل في مارس 1956 بدمج 25 نقابة) عبر الحملة التي شملت إضراباً عاماً ضد قانون الهجرة المشار إليه، من إيقاف العمل بالقانون.
كما أدت مقاطعة مؤتمر النقابات للانتخابات التشريعية عام 1959، بعد قيام العمال بعدد من الاضرابات، إلى إفشال الانتخابات. ولم تكن تلك سابقة طبعاً. فقبل ذلك، كان برنامج المقاطعة الذي وضعته «الجبهة الوطنية المتحدة» لإفشال الانتخابات التشريعية عام 1955، قد حقق هدفه.
ضرورة التخلص من (ج.ي.د.ش) قبل (ج.ع.ي)
ربما لا يتذكر كثيرون شيئاً عن حركة النضالات السلمية التي سبقت ثورة اكتوبر 1963. فقد أدت عملية التزوير الثوري، بعد الاستقلال، إلى إقصاء نماذج النضالات السلمية المحترمة، التي شهدتها عدن، من تاريخ «الحركة الوطنية». وهذا الإقصاء، المستمر حتى الآن، يمثل أحد العناوين العريضة لمشكلة الجنوب الراهنة. إن قادة الاحتجاجات وأفرادها مطالبون بالالتفات إلى الرصيد المدني الفريد الذي ولد وتنفس آفاق التعدد في عدن. عليهم التمسك بالخيار السلمي الذي أعلنوا التزامهم به حتى الآن. لكنهم، قبل ذلك، مطالبون بمراجعة حلمهم في العودة إلى دولة (ج. ي. د.ش) التي جاءت كثمرة للكفاح المسلح بعد أن قضى هذا الأخير على فرصة عدن التاريخية في تأمين استمرار حركتها المدنية ومدّها إلى بقية المناطق الجنوبية.
 لم يحقق الكفاح المسلح مستقبلاً أفضل لأبناء الجنوب. ولم تشهد دولة (ج.ي.د.ش) حتى إضراباً مدنياً واحداً بحجم أصغر الاضرابات العمالية التي عبَّرت عن إرادة الناس وأحدثت تغييرات ملموسة في حياتهم قبل نحو نصف قرن.
على الجنوبيين، إذاً، التفكير بشكل جدي في صورة المستقبل، بالالتفات إلى تاريخهم القريب. وقبل أن يسعوا إلى التخلص من (ج. ع.ي)، عليهم التخلص أولاً من (ج.ي. د.ش). اذ أن اليوم التالي للاستقلال المسلح لم يكن لطيفاً أو حنوناً تجاه أي منهم. لقد كان دامياً للغاية، وانتهى به المطاف إلى الانقضاض على حياتهم العزلاء في عدن وهو يحمل إسم 13 يناير.  وبعد 5 عقود من الثورة المسلحة، وجدوا أنفسهم يحتجون ضد اجراءات تسريحهم القسري من الوظائف بعد أن كانوا يطالبون بحق التقاعد قبل أزيد من نصف قرن.
nabilsobeaMail