الفاشست الصغار.. أركولوجيا «الجعشنة»

(1)
الجعشنة أو الجعشنية: ليست مذهباً فلسفياً أو دينياً أو سياسياً، وغيره من مذاهب الفكر الإنساني، ولكنها آتية من كلمة "يَذهِبـ"، ويذهب في اللغة الدارجة بمعنى يخرب، فتدعو الأم على ابنها في فورة غضبها. " الله يذهبكـ"، أي "الله يخربك،ويقال: فلان " مذهوبـ" أي خارب.
و" الجشعنية " أخطر وأفتك المذاهب، فإلى جانب أنها تخرب الروح والجسد والعقل والشجر والحجر والنمل والقمل والكُتن، تمرص الكائن مرصاً تخرج لحمه ودمه من بين أصابعها أو بالأحرى, مخالبها. إنها "المرصة الجعشنية " القاتلة التي لا يضاهيها أي مرص على مدى تاريخ مرص الطغاة والمستبدين.
تشتد شراهة مرص "الجعشنة" للبقر والأجدي وخصوصاً البقر الحوامل(المرازن) حيث تمرص "البقري" مرصاً يتفرق دمها في لقوف وشفاه فيالق المرص الجعشني. ويقال حتى الكتن والقمل خصوصاً "المرزنات" لم يخلوا حالهن مرصوا لحمهن على عظامهن.
(2)
لأركولوجيا الجعشنة تقاليد مرصوية معروفة للكائنات الحية وغير الحية، وبنفس المرص يسري على قوافي وبحور الشعر "مفاعيل فعولن " مباشرة للحاكم الأعلى الذي تعود أيضاً دهن شفاهه بدلاً عن فتة الموز، بفتة جعشنية تعلقه في صدر الصحف بيتاً بيتاً.
(3)
يقال إذا مالفحتك ريح جعشنية خصوصاً "ريح أحمر" لأي كائن كان: "بقري مرزن"، تيوس، أرض، جبل, شجر، حجر، تصيبه "حكللة" مزمنة تُيبس جسده، ثم تعمل على نهشه فتأتي على لحمة وعظامه، وإذا ما هرب المواطن أو أية دابة من الفتك الجعشني تظل ريحهم تحافر حتى تهرشهم، وتجذمهم، وتفنيهم.
(4)
وتقول الأساطير والحفريات الاركيولوجية، أن "طاهش الحوبان" نزح جده الأول من الجعاشن، ومن بيت الجعشنية، ويقال إن المرص الأدمي والشعري جار في دمهم. ويضيفون أن "الجعش الأكبر" رحل إلى الحوبان لينهش بشكل أوسع، ولأن مجاعة كانت تلوح في الأفق، حيث استقر مقامه هناك وأسس مملكة طهاشة الحوبان فخصب تناسله المقدس في كل أرجاء اليمن، فكل قرية تملك جعش فاشستي صغير يقرط الأخضر واليابس ويتجشأ بقوافي الغواني ومدح السلطان.
أحد أحفاده أخذ راية "الطهبشة",هو مؤسس الجعشنية الحديثة في الجعاشن تحت شعار:لا "للرزن "، نعم للجدب والدمار.
(5)
لكن هل هناك علاقة بين الجعشنية وشخصية الجرجوف الأسطورية في الوعي الشعبي اليمني؟ تقول الجدات: هو "بشحمه ولحمه" ويقولن إنه"الدجرة"(1) متخف بملابس شيخ معمم "مجنبي" أي يلبس جنبية، يقرض الشًعر، والشًَعر "جعد وسلس". جدات أخريات يحلفن بحالهن ومالهن (قبل أن يمرص حالهن ومالهن جنود الشيخ) إنه عفروت البئر، وضبع الجبل، وهارش الديمة، وأحد الأسماع الوحشية التي تسكن الجبال.
وبالرجوع إلى ذاكرة الناس، يرجح أن الجرجوف، أو الجعش المارص، قد خير مواطني الجعاشن عند تسلقهم شجرة الدوم (السدر) ورفضوا أن يتحولوا إلى قطيع، يتعبث بهم كيفما شاء، وكيفما أراد, تبعاً لنزواته السادية المريضة، خصوصاً بالحيوانات الحوامل. فذات يوم شمهم عن بعد - لأن الجراجيف يعتمد وجودها وافتراس ضحاياها على حاسة الشم القوية - فأتاهم من طرف الوادي، قال بصوت شرخ جبل الجعاشن: "شم عرماني بقرطه على ظرسي وأسناني". حاول أهل الجعاشن, رجالاً ونساء وأطفالاً، أن يعملوا مثل بطلة شجرة الدوم، فقالوا: "نحنا واعم جرجوف". علًه يتأنسن. لكن كرر: "بقرطكم على ضرسي وأسناني", وسابتدي بكل ماهو "مرزن " حتى لوكان حجراً، وأردف قائلاً: أنا جرجوف بعدي جرجوف، بعدي جرجوف بعدي جرجوف، بعدي جرجوف، وبطني سع قبة الصوف. لم يفتجعوا منه. ولا من أتباعه الجراجيف المارصين، وظلوا عالقين في شجرة "العلبة" علً وعسى منظمة حقوق إنسان أو مناصرين دوليين أو حتى الحكومة وإن تجرجفت بعده بمخبزة القوافي العصماء الشعر والمعلقات التي تنز دماً، يمكن تستحي أو تخبز مبادرة على غرار مبادرة الأشقاء في فلسطين أو الصومال أو مدغشقر أو "تنكا بلاد النامس"(2) لكنها متخمة وملجومة بالأقراص الدسمة للقصائد الجعشنية.
قال جرجوف الجعاشن ملوحاً بسبابته الخازقة: معكم أمر واحد لتنجوا: أن تتساقطوا جميعكم على أصابعي. رفض الجميع، لأن أصابعه كلها تنذر بالموت، فهم يعرفون أصابعه: مخالبه. فما كان منه إلا أن هاج ونفث جعشنيته النارية، وشردهم. لا خلى فاطمة، ولا حسن، ولا سعيدة، ولا الرضيع، ولا الحبلى، ولا النفاس، ولا العاقر، ولا جدار، ولا تراب، ولا بركة، ولا بلسة، ولا مجول ريحان.
(6)
أحد المؤرخين اللغويين في معجمه الذي يشبه لسان العرب (لسان الجعشنة): إن كلمة "جعشن" حرفت من الأصل "عَجَشْ"، فجدهم الأكبر عجش ودبش البشر والشجر والحجر، وصمح ركبته بزبدتها، ويقال إن كلمة، "جعش" أصلها "جعث" فتجعث الكائنات جعثاً، فتفرق أعضاء جسمه كل في جهة: الرأس مكان الركب، والركب محل الرقبة، والرقبة في جهة الظهر، وهكذا...
أصل الحكاية
أن الجعش الجعث الأكبر طاهش اليمن والجعاشن الملقب ببطل الشعر المجعوث/المجعوش – سيان,جمع رهطاً من المواطنين حوله، يتسامرون، ويبلغونه عن أي خزق لم تمشطه أو " تُشظفه " رعيته بالبنادق والرشاشات والفؤوس والأطقم، وبينما هو يتحدث بفورة حماسة، ضرط.
"ارتبش " من الخجل. ومن المفروض ألا يرتبش، ولا يخجل لأنه وسلالته التاريخية أباً عن جد ضرطوا فوق الناس من زمن بعيد، وكانوا يغطون على فعائلهم ليس ب "النحنحة" ولكن بفتة القوافي والمعلقات.
المهم، نظر الأمير الجعش إلى جلسائه فرآهم صامتين، ولا نخس، فأتته فكرة أن يتخلص من الجميع الذين سمعوا ضرطته، فانتفض وأصدر أمره الجعشني: حيث كلف كل مواطن بأفعال إعجازية، وأمر بأن يعطي لكل واحد منهم كبشاً(مرزناً) على أن يقسمه المواطن إلى أرباع. ومن لا يقدر على ذلك سيقتله.
عملوا بما أمر وقسّموا الكبش إلى أرباع. ولكن الأمير الجعشني رفض قسمتهم؛ فأمر بذبحهم... إلخ الحكاية (انظر حكاية الأمير السفاح محمد أحمد شهاب).
وهذه حكاية الجعشنية لم يسلم مواطنيه من أذيته وتقتيلهم بضرطته أو بدونها.
الذاكرة لا تنسى
فما عليكم يا أصحاب الجعاشن برجالها ونسائها وأطفالها المعتصمين في نادي الإعلاميات أو النازحين إلى مدينة "إبـ" ومناطق اليمن أمام الفاشية الجديدة في اليمن في الألفية الثالثة، إلا أن تلملموا همومكم وتدفنوها في "مشقار" كما فعلت بطلة شجرة "العلبة "في حكاية" الجرجوف" عندما التهم الجرجوف أخاها. ستساعدكم "الصرورة" ستنقل أصابعكم المغدور بها والمشيرة إلى الجرائم البشعة التي يرتكبها جرجوف الجعاشن بسادية متضخمة كفيلة بأن تدخله هو وطاقم الدمار في مصحة نفسية، و"ساني" ترسلهم إلى محكمة مجرمي الحرب بجانب أصحابه من مجرمي الحرب في العالم.
وما عليكم يا أهل الجعاشن إلا أن تغرسوا كل ذلك في مشقار، وأن تسكبوا عليها أغانيكم ومهاجلكم، وتمتامتكم، نهداتكم، وحكاياتكم: حكايا البيوت والنوافذ والردجان ومجاول الريحان، حكايا أبقاركم ومواشيكم، وحكايات الجعف، والحقين، حكايا السمر، سيزهر المشقار من يضعون حداً لسعار الجراجيف حتى لو كانت تكتب شعراً وقصائد، حتى لو ارتدت ملابس الإنسان، وان تلونت بزي الملائكة. ولكن انتبهوا عندما يشتد غضبكم أن يخدعكم المارص بتلونه، سيقول لكم وهو ممدد على فراش الفناء:
"اتفلوني".لترتد روحه، لا تصدقوه، لأنه سيحيا من جديد وسيضرط من جديد, مثله مثل " ميدوزا"، وإذا قال لكم:اخطوني حسكم عينكم، تصدقوه سيولد جراجيف أخرى، قولوا له: لا، لا. لا ثنى أبي ولا أمي، وستكون نهاية المرص الجعشنية، نهاية الجعشنية.
مرة أخرى لا تصدقوا حكم الجراجيف في أعمدة الصحف والعمدة الروح: " من عاند السلطان أصبح حزين باكي".عاندوه، وعاندوه، فما يحمل الجور إلا الذليل، فأنتم ونساؤكم وأطفالكم أشجع منا جميعاً، لأننا أذلاء لكل جعشنية مارصة في بلادنا.
الغرفة السابعة:
الغرفة السابعة قد فتحت، برغم تهديد الجرجوف بعدم فتحها، فتحها أبناء الجعاشن الذين قالوا: لا. فتحت لأجل أن نعرف وعرفنا، وعرفنا.
ف" احكم سوقك ياعلي، واعقل جراجيفكـ"," كم دولتك ياعُقبة، قالت:حوية الذري ".
قاح.. قراح(3)
أشكو من الجعشني
آه من الجعش كم غموا الأرواح
كم يصنجوا بالمدافع: قاح قراح، قاح، قاح
كم خربوا من معاقل، كل يوم قلفاح
ماردهم جدر في الدنيا ولا صرواح.
<<<
سبعين خلوا الجعاشن تضرط نار
جُو بالكوافي، ولبسان جوخ فوق الأحجار
والفرق بين السبيلين مبلغ المجعار
إذلوا الناس، لا قناف ولا معصار.
ولا كيف تشوفوووووووووووووووووووووووا؟

> هوامش:
(1) انظر حكايتي: الجرجوف + الدجرة، حكايات وأساطير يمنية للأستاذ/ علي محمد عبده.
(2) انظر قصة: يحدث في تنكا بلاد النامس، للكاتبة.
(3) قصيدة عامية – بتصرف- قيلت قديماً في الطغاة الأتراك.
arwaothmanMail