مرضى وحالات نفسية.. والجن هم المتهمون

مرضى وحالات نفسية.. والجن هم المتهمون - فؤاد مسعد

مشكلة أخذت تتصاعد، ويتكاثر ضحاياها الذين معظمهم (إن لم يكن جميعهم) من النساء سيما الفتيات منهن، وهذا مبعث الخطورة فيها. وثمة تعتيم، يقوم به المصابون وأقاربهم الذين يتصورون أنه بمزيد من التكتيم يكون العلاج، وحيث ترتفع معدلات الأمية تتزايد أعداد الضحايا، وحينما تقل نسبة الإلتحاق بالتعليم تتضاعف الحالات المرضية التي يغذيها الجهل بمختلف أشكاله.
والمثير إبقاء تلك الحالات -على خطورتها- طي الكتمان والتحفظ الشديد على كثير مما يعدونها أسراراً ينبغي ألا تكشف.
وما دام من سيذهب إليه المصاب بتلك الحالة ليس طبيباً يمارس مهنة الطب المعروفة، بل شخص يتولى قراءة القرآن حتى يبادر الجني بالخروج من جسد المصاب بالمس «رضا والا صميل»، فلا داعي لكسف خفايا المرض وأعراضه.

لقد بدأت المشكلة تظهر قبل فترة، غير أنها تكاثرة في السنوات الخمس الأخيرة بشكل لافت.
> الطالبة الجامعية (ز. ح) تمت خطبتها قبل سنوات من أحد أقاربها، وعندما اقترب موعد زواجها من ذلك الشخص الذي لم تكن تشعر نحوه بالتوافق النفسي رغم موافقة أهلها عليه بدأت تنتابها حالات اكتئاب واغماء تداهمها بين وقت وآخر، بالإضافة لبعض الامراض الأخرى وإصابتها بالتشنجات بشكل شبه دائم، ونتيجة لذلك تدهورت حالتها الصحية والنفسية، مما جعل أهلها يخافون عليها. في بادئ الأمر ذهبوا بها إلى المستشفى. وهناك أخبرهم الأطباء بأنها لا تعاني أياً من الأمراض العضوية وأن ما ينتابها ناجم عن مرض نفسي. وبدلاً من استشارة الطبيب النفسي يمموا بها شطر المقرئين الذين تكاثرت أعداداهم مؤخراً بكثرة الأشرطة والكتيبات التي تضخ المشائخ ضخاً عجيباً. وفي حضرة المقرئين علاوة على تبريراتهم لتلك الحالات بأقاويل لا تمت للحقائق العلمية بصلة، فإنهم يمطرون ضحاياهم بوابل من أعمال الضرب والكي والصعق الكهربائي رغبة في تخليهم من «الجني» الذي يداهم الجسد في أي لحظة، ومن ثم يعبث به إلى أن يتم إخراجه بكل ما أوتي المعالجون من قوة.
ومع كثرة ما مورس على الضحية من صعقات كهربائية، إلا أنها لم تتماثل للشفاء المرتقب إلا عندما قام أهلها بفسخ الخطوبة حين يئسوا من شفائها وهو ما وافق عقلية الطرف الآخر الذي لم يكن ليوافق على الزواج من فتاة صارت مريضة بالمس!!
عندها قرر الزواج بأخرى، ليزول الكابوس الذي كان جاثماً على خطيبته السابقة، وتدريجياً بدأت تعود لحايتها الطبيعية وهي الآن -على ما يبدو- مرتاحة البال حيث تخلصت من تلك الأعراض التي داهمتها لما يقارب سنتين، وإن كانت آثار الصعق الكهربائي والكي لا تزال بادية على أجزاء من جسدها.
> (س. ع) هي الأخرى طالبة جامعية معروفة بتفوقها الدراسي، ونتيجة للعنف الأسري الذي يمارس عليها من أخيها الأكبر بصورة فظة وقاسية وبشكل يومي، ينبئ عن شك يبديه نحوها وبقية أخواتها لدرجة تشعر تحت وطأتها بامتهان كرامتها. وإضافة لما سبق تعيش وأسرتها وضعاً بالغ الصعوبة اقتصادياً واجتماعياً، وتحاول أن تقوم بدورها في تربية إخوانها الصغار، إلا أنها تجد صعوبة في التوفيق بين مستواها العلمي المتميز ووضعها المعيشي والاسري القاسي؛ ما سبب لها بعض المتاعب نفسياً وجسدياً، حيث تنتابها التشنجات، وأحياناً الاغماء والصرع، لكن لمن تشكو مآسيها؟
كبت اجتماعي يفرض عليها وعلى أمثالها سيلجاً منيعاً ليس بإمكانها تجاوزه والجرأة على مجرد البوح بما تعانيه!!
وظلم وعنف وقسوة مجمل ما يجود به أقرب الناس إليها.
فماذا تنتظر من البعيد والقريب أن يفعل تجاه ظلم ذوي القربى الذي هو أشد مضاضةً؟!
إن قرر الحريصون على صحتها العمل على تخليصها مما هي فيه من معاناة، فعلى الغالب سيتجهون بها نحو مقرئين لا يفقهون من حالاتها غير «جني مسها ويجب إخراجه»، مغفلين ومتغافلين عن ظلم الإنس وقسوتهم بحق أخواتهم الإنسيات.
> إحداهن كانت تدرس في الثانوية حينما أجبرها أهلها على الزواج من أحد الأقارب الذي لم تكن تود الارتباط به، وتحت الضغوط الأسرية المتواصلة قبلت على مضض، ومن أول يوم و زوجها الذي يعرف بمشاعرها نحوه، يمارس بحقها صنوف الإهانة والتعذيب. وإزاء وضع كهذا انطوت على نفسها في بيت الزوجية الذي صار أشبه بالسجن. وحين قام الزوج (سبب المعاناة) بالذهاب بها إلى احد المقرئين أفاده الأخير أن جنياً تلبسها نتيجة عشقه لها منذ ليلة الزفاف، حسب إفادة الشيخ!! ووجد هذا المنطق تبريره في كون المرأة تمر عليها أيام وهي طريحة الفراش تعاني ما يشبه الشلل التام وهذا ما جعل تجار الوهم يعللون هذا الشكل بأنها تزوجت الجني طوال الأيام التي لا تستطيع فيها الحراك!!
ومع أن الاطباء يقولون انها تعاني مشكلة نفسية وليس غيرها، إلا أن هناك اصراراً على تصديق ما قاله شيوخ «المس»! ولا تزال معاناتها تتواصل ما دام الجهل مخيماً، حيث أصيبت مولودتها بمرض جلدي فور ولادتها مما أدى إلى احمرار جسدها.
وبدلاً من البحث عن طبيب مختص اختار الأهل الطريق التي يسلكونها دائماً وذلك لاعتقادهم أن عيناً أصابت الصغيرة كما أصابت أمها ليلة زفافها. وهناك كان الشيخ (وما أكثر المشائخ من هذا النوع) في انتظار زبائنه الدائمين ليخبرهم أن عيناً حاسدة أصابتها. وأخذت الطفلة من مقر إلى آخر ومع الأيام كانت حالتها تزداد سوءاً. وفي أحد الأيام تنبه أحد الاقارب وذهب بها للمستشفى ليخبره الطبيب ان الطفلة تعاني من تشوه خلقي حيث لا تؤدي المعدة دورها بالشكل المطلوب، وظهرت عليها الافرازات في الجلد ونتيجة لتأخرهم عن الطبيب لم يستطيع التدخل لعمل اللازم، ولم تمض أيام قليلة حتى كانت الطفلة في عداد الراحلين، لتزداد معاناة الأم المريضة.
وهناك كثير من الحالات المشابهة لما أوردنا وقر آثرنا تناولها عن بعد بسبب تحفظ الأقارب عن معاناة مرضاهم.
غير أن منير مانع، وهو من المقرئين الذين يمارسون القراءة بصورة دائمة، يرى أن هناك حالات مس يصاب بها الانسان ذكراً كان أو أنثى، ومن خلال قيامه بقراءة القرآن على بعضهم، وجد أنهم تماثلوا للشفاء ولم يعودوا يشعرون بما كانوا يعيشونه من معاناة. ويؤكد في حديثه لـ«النداء» على ضرورة التفريق بين من يصاب بحالة نفسية ومن يصاب بما يعرف بالمس، حيث أن الأول لا علاقة للمقرئين بما يعانيه، بعكس المصاب بالمس الذي لا يبرأ إلا بقراءة القرآن.
وعن الآلية التي يتخذونها للتفريق بين الحالتين قال إنها تتم القراءة على أي مصاب يأتي، وأثناء القراءة يتبين الفرق من خلال الغيبوبة التي تلاحظ على الممسوس (المصاب المس) بينما لا يمكن أن تلاحظ على الآخر، وهنا يتعين مواصلة الجلسات التي يقرأ فيها على من داهمه المس حتى يخرج، مضيفاً: «وهذا ما نقوم به».
وعن أسباب حدوث المس يقول منير أنه يقع أحياناً أثناء غفلة يغفل فيها ا لانسان عن الذكر، أو بسبب السحر وهناك حالات كثيرة لاحظنا أن السحر كان وراءها، إضافة إلى أن المعاصي تعد من أهم الأسباب.
علي الحرازي -مقرئ وهو خريج كلية الشريعة- قال إن بعض من عُرضوا عليه احتاجوا لجلسات كثيرة كي يعودوا إلى وضعهم الطبيعي، وعمَّ يستخدمه بعضهم من أدوات كهربائية وكي، قال: «نحن لا نستخدم هذه الاشياء واعرف كثيرين لا يستخدمونها، حيث يفضل الاكتفاء بقراءة القرآن». وينصح من يستخدمونها بالكف عن ذلك لما يلحق من ضرر بالشخص المصاب الذي يتوقع أن يشفي من الحالة التي هو فيها بينما تظل أضرار الكي وغيره لفترة طويلة باقية على جسده.
بخصوص ما يتقاضاه المقرفون من أجور مقابل القراءة على المرضى، قال الحرازي لـ«النداء»: «الأمر يختلف من شخص لآخر، فهناك اشخاص معرفون بأنهم لا يقبلون أي شيء مقابل القراءة، وهناك من يعطي زبائنه تسعيرة تكون ثابتة إلى حد ما حيث يأخذ على الجلسة الواحدة من ثلاثة إلى خمسة ألف والبعض يأخذ ألف ريال في كل نصف ساعة، مع العلم أن الجلسة الواحدة لا تتجاوز ساعة على أكثر تقدير، وكلما طالت الجلسات زادت قيمتة الفاتورة».
وعن دور مكتب الصحة في الرقابة قال محسن الكوكباني -نائب مدير مكتب الصحة، بالضالع- في تصريحه لـ«النداء»: «مكتب الصحة معني بمراقبة المؤسسات والمراكز الصحية التي يشرف عليها والمصرح لها من الصحة سواء حكومية أو خاصة. وليس معنياً بغيرها».
وأفاد عبدالفتاح علي عبدالله مدير الاعلام والتثقيف الصحي- بالمكتب قائلاً: «يوجد لدينا منسق للأمراض النفسية وهو من يتولى -بحكم تخصصه- متابعة مثل هذه الحالات». وعن دور المكتب في التوعية قال: «أنه يفترض أن تتولى مكاتب الصحة القيام بهذا الدور لكن هذا لا يتم للأسف».
وأضاف: لا توجد لدينا الأدوات الصحية ولا الأدوية المناسبة لمثل هذه الأمراض مما يجعل دور الصحة ومكاتبها شبه مغيب في هذا الجانب.
واختتم حديثه لـ«النداء» بالقول إنه لم تصل المكتب إفادات ولا شكاوى متعلقة بهذه الحالات.
وتتعدد الأسباب المؤدية لتزايد الضحايا المصابين بتلك الحالات حيث يرجعها البعض لأسباب اجتماعية كالضغط والكبت والعنف الأسري وحرمان المرأة من حقها في التعليم وحقها في الصحة وحقها في اختيار الزوج بعيداً عن وصاية الأقارب وضغوطهم، إضافة للزواج المبكر مع عدم مراعاة الفوارق الموجودة بين الفتاة ومن سيتم ارتباطها به في المستقبل. كما يأتي الجهل في مقدمة الأسباب التي تغذي مثل هذه الحالات المصحوبة بانتهاكات تحط من كرامة المرأة، ويقود الجهل أيضاً للبحث عن الشفاء في أروقة السحرة والمشعوذين الذين بدورهم يعملون على مضاعفة المعاناة.
ويعتقد آخرون أن عدم فهم دور الطب النفسي يجعل قطاعاً من المجتمع يحجم عن الذهاب إليه بوصفه خاصاً بالمجانين، وهو ما لا يرضاه الكثيرون لأقاربهم من المرضى والمصابين بأي حالة نفسية من الحالات التي غالباً ما تنتاب الشخص لأي سبب وتحت أي ظرف من الظروف.