طاهر شمسان يناقش موقف تجمع الإصلاح من القضية الجنوبية

طاهر شمسان يناقش موقف تجمع الإصلاح من القضية الجنوبية

"وأما نحن في اليمن فقد كان حظنا أن حركت هذه القوى (أمريكا قائدة الغرب وحلفاءها في غير بلاد العرب) ومن معها, حركت الحزب الشيوعي الذي باع دينه وأمته وحركوه لضرب وحدتنا واستقرارنا. ولكن الله نصر هذا الشعب المسلم وجيشه على مؤامرة الانفصاليين. وحركوا أسباب حرب بين اليمن والسعودية في مثل هذه الأيام من العام الماضي. وتصدى علماء اليمن، وتصدى رجالات اليمن الصادقون ورجالات السعودية، وأحبطوا مؤامرة أعداء الإسلام الذين كانوا يخططون لجرّ الجيش اليمني والسعودي من السواحل وباب المندب وتبوك والمدينة إلى رمال الربع الخالي ليدفن بعضهم بعضا".
عبد المجيد الزنداني: خطبة آخر جمعة من شهر شعبان 1416 هجرية
 كان التجمع اليمني للإصلاح شريكا فعليا في اختطاف الدولة في الشمال قبل الوحدة. وكان يصول ويجول في كل مؤسساتها العسكرية والأمنية والمدنية، وله سيطرة مطلقة على دور العبادة وقطاع التعليم. وعندما قامت الوحدة أعلن نفسه حزبا معارضا على قاعدة اتفاق بين رئيس الشيخ وشيخ الرئيس، جرى خلاله توزيع الأدوار بين الطرفين، بحيث يتظاهر الأول بدور الشريك مع الاشتراكي، ويتكفل الثاني بمعارضته من الشارع. ويحسب لحزب الشيخ أنه أتقن دوره وأربك الحياة السياسية خلال الفترة الانتقالية، إلى درجة صدّقت معها قطاعات واسعة في المجتمع أن الوحدة وهي خير جلبت معها شرا مستطيرا يعرض دين الأمة وعقيدتها للخطر ما لم تنشق الأرض وتبتلع الحزب الاشتراكي في جوفها.
 وكانت قيادات الإصلاح خلال الفترة الانتقالية –وما زالت- تلوي عنق الدين وتسيّسه لمصالحها، وتستخدمه كأقصر طريق للوصول إلى عامة الناس وتعبئتهم ضد مصالحهم الحقيقية. وبهذه الطريقة استطاع التجمع اليمني للإصلاح أن ينتزع من محافظة تعز وحدها ستة عشر مقعدا برلمانيا لصالح مشيخة العصيمات في انتخانات أبريل 1993 النيابية. وكان الكاتب والصحافي الفقيد عبد الحبيب سالم (وهو صاحب حس سياسي متوقد) يدرك قواعد اللعبة السياسية ويعلم أن محافظته (وهي الأكثر تعليما بين المحافظات الشمالية) صوتت لغير صالحها، فهربت من رئيس الشيخ إلى شيخ الرئيس. وقد كتب فيما بعد عن "التجمع اليمني للإصلاح وفقه الضرورة"، مؤكدا أن لا "بديل عن الشيخين والآنسي واليدومي" حتى ولو ظهر في تعز ألف "حسن البنا".
 وبعد انتخابات 1997 النيابية تحول حزب الإصلاح إلى معارضة موالية نافست حزب الحاكم في ولائها للحاكم، وسبقته إلى إعلان الرئيس صالح مرشحها الأوحد في انتخابات 1999 الرئاسية. وبعد غزوة مانهاتن وتداعياتها عالميا وإقليميا أعلنت اليمن نفسها شريكا مع الولايات المتحدة الأمريكية في الجبهة العالمية لمكافحة الإرهاب. وفي هذه الأثناء أعاد قطبا السلطة ترتيب أوراقهما، فانتقل التجمع اليمني للإصلاح (كحزب وليس كمصالح) إلى الشارع ليلعب دور معارضة "دائمة" للسلطة "الدائمة". فمصلحة النظام (وهي مصلحة مشتركة للطرفين) لم تعد تحتمل وجوده في السلطة، رغم تخلي رموزه عن "الجهاد" إلى "الإسلام الوسطي" حسب الوصفة الأمريكية. ومن البديهي أن يتلقى رموز التجمع اليمني للإصلاح ضمانات باحترام مصالحهم واعتبارهم شركاء غير معلنين من خلال رئيسهم الذي احتفظ برئاسة البرلمان، رغم أنه زعيم الأقلية فيه. أما إلغاء "المعاهد العلمية" فهو ليس أكثر من ذرّ الرماد على العيون. والذي تم فعلا هو "تعميم" هذه "المعاهد" على كل مدارس الجمهورية، الحكومية والأهلية، من خلال الإبقاء على مناهج دراسية تعلم قيادة حزب الحاكم قبل غيرها أن التجمع اليمني للإصلاح هو الذي وضعها وصاغها على نحو يخدم أهدافه الخاصة في إنتاج أجيال حسب الطلب يستطيع بها أن يسيطر على المستقبل. ثم أن معظم القائمين على العملية التعليمية الآن يأكلون مع باجمال ويصلون وراء الآنسي.
 في المعارضة تملكت بعض رموز تجمع الإصلاح مشاعر الإحساس بالخطر، لاعتقادهم أن الرئيس صالح يحث الخطى نحو توريث الحكم على حساب شراكتهم الأصيلة في السلطة. وكان هذا الإحساس قويا على نحو خاص عند الجناح القبلي ممثلا بأبناء الشيخ الفقيد عبد الله بن حسين الأحمر. وبالتالي فإن الحملة الانتخابية القوية للتجمع اليمني للإصلاح في السباق الرئاسي الماضي أتت في سياق الدفاع عن هذه الشراكة. ومن هنا يمكن فهم وتفسير الرسالة التي بعث بها المؤتمر الأخير للتجمع اليمني للإصلاح، عندما شغل حميد الأحمر رأس قائمة الحائزين على أصوات المندوبين. كما يمكن فهم وتفسير الحضور المعدّ والمرتّب للشيخ حميد إلى جانب فيصل بن شملان، بعد أن جرى إقناع الأول بأن الثاني هو "حسن البكر" على الطريقة اليمنية. وقد استمر حضور الشيخ حميد يتحسن إعلاميا بصورة متصاعدة إلى ما قبل وفاة أبيه، للدلالة على أهليته في مواجهة أهلية أحمد. ومن الطبيعي أن يعترف للشعب اليمني في مثل هذه الظروف بحق المفاضلة بين الاثنين. غير أن حكمة الشيخ الأب لم تشأ أن تترك الحبل على الغارب، ولم يمض الرجل إلى بارئه إلا بعد أن حلّ هذه المشكلة ورتّب أوراق الشراكة من الداخل والخارج.
 إن التجمع اليمني للإصلاح ظاهرة أيديولوجية كرست وعيا زائفا لدى معظم أفراد المجتمع بحقيقة الصراع السياسي في اليمن. وبرغم أن هذا الحزب يمتد إلى مساحة واسعة خارجه، ويضم في صفوفه آلافاً مؤلَّفة من الشباب الأنقياء الأخيار الذين يحملون نوايا طيبة نحو مجتمعهم، إلا أنهم لا يدركون أن حزبهم أكبر بائع للوهم في البلاد، وأنهم أول ضحايا هذا الوهم. فتجمع الإصلاح الذي رفض المضمون الديمقراطي لدولة الوحدة، بحجة أن دستورها "يساوي بين من كان مؤمنا ومن كان كافرا"، هو نفسه الذي يعلن اليوم تمسكه بالديمقراطية بعد أن كان يعتبرها منتجا دخيلا علينا، ويضع دعاتها خارج الملّة. وهو لم يصدر حتى الآن وثيقة واحدة تؤصل للديمقراطية وتبين مسوغات قبوله بها. ولم يقل لنا إن كان قبل بها كمنظومة متكاملة من الإجراءات والمفاهيم والقيم، أم هو قبول انتقائي في إطار "فقه الطاعة"، وكيف يتعاطى مع مفهوم الشعب: هل هو كتيبة منضبطة من المؤمنين عليها أن تبايعه وتسير وراءه تحت مبرر أن الشعب كله مسلم (مفصل على مقاسه)؟ أم هو مجموع أفراد توحدهم المواطنة القائمة على المساواة في الحقوق والواجبات؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها أمر في غاية الأهمية، ليس فقط لتطمين شركائه في الحياة السياسية، ولكن من منطلق إعمال مبدأ الشفافية والوضوح في التعاطي مع قواعده وكوادره، على الأقل الذين لا يعلمون أن الديمقراطية غير ممكنة في دولة على النمط الذي يريده الإصلاح، وأن الدين لا يزدهر ولا يكون خالصا لله منزها عن المصالح الدنيوية المتقلبة في مثل هذه الدولة. وإذا كان لقيادة الإصلاح رأي مغاير فلتبينه لنا، ولتثبت أن حزبها أفضل من حزب عبد الله جول، وأن الإسلام الوهابي في السعودية أفضل من الإسلام السائد في دولتي أتاتورك ومهاتير.
 تحمس التجمع اليمني للإصلاح لحرب 1994، وسبق حزب الحاكم في قرع طبولها وتهيئة الرأي العام لتقبلها. وكلنا يتذكر الشيخ الزنداني وهو يصول ويجول في معسكرات الجيش، محرضا "المؤمنين" على الجهاد. والتجمع اليمني للإصلاح هو الذي بكر في إعداد الكعك الذي ستحمله قوافل المتفيدين فيما بعد إلى جبهات القتال. وفقهاء التجمع هم الذين أطلقوا الفتاوى الشهيرة، وهم الذين يرفضون العودة عنها حتى الآن... كل هذا من أجل أن يرث التجمع اليمني للإصلاح الحزب الاشتراكي في المحافظات الجنوبية والشرقية.
 لقد كان التجمع اليمني للإصلاح غارقا -من رأسه حتى أخمص قدميه- في وهم الشعور بالقوة، الناجم عن احتكاره لمكبرات الصوت في الجوامع وانفراده بالأذان في معسكرات الجيش. وبسبب هذا الوهم اعتقد أن الحزب الاشتراكي اليمني هو آخر عقبة حقيقية تفصله عن حكم اليمن. ولهذا تورط في كل تفاصيل حرب 1994 المسؤولة عمّا يسمى الآن "القضية الجنوبية". وعلينا الآن أن نلغي عقولنا لنصدق أن قيادة تجمع الإصلاح قادرة على الوقوف بجدية إلى جانب الحراك الجنوبي ومساعدته على تحقيق أهدافه في إطار الوحدة، وأن تتجرأ على قول خُمْس ما يقوله المهندس حيدر أبو بكر العطاس في هذا الشأن وتعيد نشره صحف بعضها محسوبة على تجمع الإصلاح.
 لقد أعلن اليدومي أنه سيقاتل من أجل الوحدة. وكان باجمال قد سبقه إلى مثل هذا القول. لكن أيا منهما لم يقل لنا بمن سيقاتل، ومن أين سيأتي بالقتلة، وهل القتل سيبقي على الوحدة وسينهي المشكلة، ولماذا يفكر اليدومي بالطريقة التي يفكر بها باجمال، هل هي محض مصادفة، أم هو دفاع غير مباشر لتورط الإصلاح في حرب 1994، وما الذي يجبره على التلويح بخيار القتال الذي قد يحول الجنوب إلى دارفور أخرى، مع أن الأمر لا يتطلب منه أكثر من الاعتراف بالطابع السياسي للقضية الجنوبية والعمل على حلها سلميا على النحو الذي يحفظ الوحدة على الأرض وفي النفوس والقلوب والعقول؟
 يتحدث التجمع اليمني للإصلاح عن مظالم ارتكبت وحقوق أهدرت، ويحمِّل حزب الحاكم مسؤولية ما يحدث في الجنوب، وكأنه بريء من الكارثة التي حلت بالوطن. ويشير فقط إلى أخطاء وأعراض جانبية لحرب اشترط على شريكه فيها أن تكون مقدسة، وأن لا تمتد آثارها إلى كل شيء في الجنوب، بما في ذلك مصادرة البحر وتقاسمه -بين متنفذين- إلى قطاعات للاصطياد الخاص.
 يقال: "النار لا تحرق إلا رجل واطيها". وتجمع الإصلاح يقف في الجنوب على أرض كلها برد وسلام. فالنساء جميعهن الآن منقبات، ويقرْن في بيوتهن، ولا يخرجن منها إلا للتصويت له في الانتخابات. والمساجد عامرة بالمصلين الذين يصغون إلى خطبائه. وأعضاؤه يصلون في الصفوف الأولى، ويحظون باحترام الناس، ومعظمهم غير ملوث بالفساد. والتلاميذ يتلقون تعاليمه في المدارس. ومحلات العسل والحبة السوداء منتشرة الآن على نحو واسع في الجنوب. ومصنع صيرة أصبح أطلالا. وتجارة الخمور تحتاج إلى "شهود عدولـ" يثبتون وجودها (وهؤلاء لا يعترف بهم الإصلاح خارج صفوفه). والحزب الاشتراكي بالكاد يستطيع الإنفاق على صحيفة "الثوري". والناس في الجنوب لا يحبون حزب الحاكم، ويكرهون قيادته التي تعدهم بتحلية مياه البحر وهي تسرق أسماكهم، وتتحدث عن إنارة بيوتهم بالطاقة النوويه وهي غير مؤهلة حتى لبناء قسم شرطة يحظى بثقتهم واحترامهم.
 الأمور إذن على ما يرام بالنسبة لحزب الإصلاح في الجنوب. ولا بد أن يصوت له الناس في الانتخابات البرلمانية القادمة. فهو يجيد الخطابة وينتقد ممارسات حزب الحاكم ويصفها بالجور والظلم. صحيح أن هذه معارضة سلبية تعرف ما لا تريده، لكن هذا هو سقف المعارضة الوعظية، التي لا تكشف عما تريد، وتستفيد دون أن تفيد ولا تقدم بدائل سياسية واضحة ومقنعة. وإذا استمرت الأمور على ما هي عليه فمن غير المستبعد أن يعلن الإصلاحيون في الجنوب أنفسهم حزبا إسلاميا مستقلا عن التجمع اليمني للإصلاح، الذي لا يزال يتعامل مع الوحدة اليمنية من منظور أيديولوجي خالص وعاجز عن الإقرار بمصالح طرفها الجنوبي، ويختزل القضية الجنوبية في مطالب حقوقية لمقاعَدين ومبعدين من وظائفهم.
 الناس في الجنوب يتحدثون عن احتلال، وعن حقهم في تقرير المصير. ونحن نواجههم بتهمة الانفصال المقيت ونهدد بالقتال من أجل الوحدة. فأين هم "رجالات اليمن الصادقين"، الذين حالوا دون أن تراق دماء اليمنيين والسعوديين فوق رمال الربع الخالي؟ ما لهم لا ينبرون الآن لقول كلمة حق في وجه السلطان الجائر؟ هل من الصعب استحضار العقل والاعتراف بالقضية الجنوبية وحلها سياسيا على قاعدة أن الشمال لا يحتل الجنوب وأن الجنوب ليس انفصاليا؟ أم أن الأصوليين قرروا أن نكون أشداء فيما بيننا رحماء مع الغير؟
tahershamsan