في حبيش: الأبقار تتعلم في 4 مدارس والحمير أسرع من السيارات

 إبراهيم البعداني
كان القيظ قد بلغ ذروته، وقرص الشمس توسط مركز السماء قاذفاً بأشعته العمودية الحارقة أجسادنا، صابغاً مرأنا بلون الرمال، حد إحساسك بعطل في جهازك البصري، وأن «كومان» أرض صحراوية تقع على خط الاستواء، لا كما تقول الخارطة: إنها قرية جبلية تبعد 14 كم عن مركز، مديرية حبيش، في إب الخضراء!.
حين بدا لي رؤية ما يشبه النساء والحمير، في الجزء الغربي من القرية، قلقت.. و فركت عينيي، وتمتمت نادباً حظي هذا الذي قادني إلى أرض السراب، قبل أن يداهمني صوت من جواري كاسراً توحدي الساخط: «من هنا نجلب الماء»، قال محمد الحبيشي الشاب الواقف على يميني ويده اليسرى تشير نحو مصدر السراب الذي توهمته. لقد كن نسوة حقيقيات والحمير كذلك. ثم اتجهنا نحوهم.
بعد عشر دقائق، كان إ رؤية غرافات الماء وحميرها بوضوح. وقد كونا طابورين أحدهما منتظم وطويل من نساء كومان وأطفالها تتقدم أقدامهم «دباب» الماء الفارغة، يبتدأ عند بئر ماء مكشوفة وينتهي بجوارنا نحن الغرباء.
 إلى غرافات الماء وحميرها، كانت باحة البئر تزدحم بروائح مقرفة، نتنة تنبعث من روث الحمير وأجسادها، وأخرى رطبة عفنة تصعد من قاع بئر الماء الذي رفضت الشرب منه لرائحته وحركة الاجسام الصغيرة فيه ولونه المغبر.
وتمنيت القدرة على محاصرة وزير المياه وعائلته أسبوعاً واحداً في هذه القرية. حين علمت أن أهالي العزلة يشربون منها، وأن كل امرأة في ذلك الطابور تنتظر حتى ساعات متأخرة من الليل أحياناً؛ من أجل الحصول على «دبتين» فقط، والعودة بها على ظهر الحمار بدلاً من العودة بلا ماء، والذهاب إلى البئر صباحاً من جديد.
مياه البئر مليئة بالأوساخ والشوائب والأتربة، وهي مرتع للحشرات والفئران وتنبعث منها رائحة كريهة، لكنها البئر الوحيدة في كومان، ولذا لا بد لآهالي العزلة جميعاً أن يشربوا منها أو يموتوا عطشاً.
قبل أسبوعين زارت «النداء» عزلة كومان في مديرية «حبيش» كان الطريق إليها وعراً، إذ وبمجرد مغادرة مفرق حبيش إلى «ظلمة» (مركز المديرية) لابد من عبور طريق يمتد على مسافة 12كم، وعراً وضيقاً، ولا يتسع سوى لإطارات السيارات. وعرفت كذلك منذ العام 1982، ولم يعرف الصيانة إلا العام الماضي حينما احتفلت محافظة إب بعيد الوحدة، وخصصت ميزانية لتعبيده، إلا أن العمل فيه يسير ببطء شديد، ويبدو أنه لن ينتهي قريباً.
الحمير أسرع من السيارات في «ظلمة»، يوحي كل شيء بالظلمة، لأن ثمة أشياء قليلة جداً تجعل المكان ينتمي للعصر برغم انتماء العشرات من أثرياء البلاد ومسؤوليها إليها، لكن كل ما في حبيش يشير إلى عزلة المديرية عن العالم. وسوى طرق وعرة ومعلقة بين الجبال، فلا شيء آخر يعطيها بعض ملامح العصر.
قال لنا أهالي «حبيش» إن الطريق التي تؤدي إلى كومان شقت في العام 82، ومنذ ذلك الحين لم يتم صيانتها أو تجديدها برغم أهميتها للقرى والعزل المتناثرة على جانبيه، ولا يعرف الأهالي هناك سوى سيارات معدودة تمر فيه، وجميعها إما «صالون» أو «شاص» لأن الطريق لا تعترف سوى بالسيارات القوية، وهي على كل معدودة في تلك القرى. لكن الأهالي يعولون على تلك الطريق، فثمة طرق أخرى تعترف بالبشر والحمير فقط، لكنها تمكن الحمير التي تنقل المواد الغذائية من مركز المديرية من الوصول بسرعة أكبر من سرعة السيارات فهي تذهب من كومان إلى «ظلمة» أو تعود في ربع ساعة فقط، في حين تستغرق السيارات؛ ثلاث ساعات، واضافة إلى ذلك فالحمير ترفض السير في طريق السيارات مطلقاً.
في الطريق نحو «كومان» يشير إليها الأهالي معرفين إياها بأسماء المسؤولين أو التجار الذين ينتمون إليها ويقيمون في صنعاء أو خارج البلاد، فيما قراهم تعيش بلا ماء أوكهرباء أو مدارس، و«كومان» التي تقع في طرف «حبيش» على حدود مديريتي «القفر» و«حزم العدين» نموذجاً لذلك الحرمان.
يقدر عدد سكان عزلة «كومان» ب5.000 نسمة، لا يحظون بشيء من منجزات الثورة، سوى الوعود التي تنهال عليهم في مواسم الانتخابات، كلها تذهب بعد ذلك أدراج الرياح، وعلى جانب الطريق هناك تنام أعمدة الكهرباء بانتظار من يأتي ليحقق الوعود الانتخابية ويبعث فيها الحياة.
وكومان التي لا تعرف سوى بئر واحدة -كما أسلفنا- عانت كثيراً من أجل الحصول على مياه وفيرة ونظيفة، ومنذ خمسة عشر عاماً ما تزال تنتظر مشروعاً كانت وعود مسؤولين قد قطعت بإنجازه العام 93.
رواية المضخة
اعترف لنا الأهالي في كومان بأن الحمير لا تشرب من مياه البئر التي تقف النساء جوارها في طابور طويل للحصول على «دبتين» لكل بيت يومياً. وللحمير الحق في عدم الشرب منها لأن الرائحة المنبعثة منها مقرفة، لكن القصة التي يسردها شيخ العزلة (محمد محمد عبدالقادر) تكفي لتكون عذراً لكل من في كومان للشرب من تلك البئر.
حين التقت «النداء» بالشيخ/ محمد عبدالقادر، كان مظهره يدل على رجل يخوض غمار قضية طويلة، يحمل في يده ملفاً متخماً بأوراق ووثائق متعلقة بمشروع مياه «كومان» المتعثر: «وعدوا كومان بحفر بئر وإيصال الماء إلى كل بيت، وصدرت التوجيهات من قبل الهيئة العامة لمياه الريف بتوريد مضخة خاصة للمشروع، لوضع المياه من عمق 153 متر، وساهمنا ب27 مليون ريال من التكاليف بداية العام 1993» قال الشيخ لـ«النداء». وأضاف: «لكننا ظللنا نتابع المهندس والهيئة حتى العام 1997. حين جاء المهندس المسؤول وباشر بإنجاز دراسة المشروع، ورفعت نتائج الدراسة إلى صنعاء، ثم نزلت المناقضة لشراء المضخمة بمواصفات دقيقة وخاصة لتكون قادرة على الاستمرار في تشغيل المشروع، ورست على شركة أبو الرجال». كان صوته قد أصبح أقل حدة وملامحه كذلك، حين قال متحسراً: «عدنا بعدها للركض خلف المسؤولين في السلطة المحلية والهيئة العامة لمياه الريف للحصول على المضخة، وتم الحديث كثيراً عن هذه المضخة من قبل المجلس المحلي في موسم الانتخابات حينها، ليصوت الناس لمرشح المؤتمر كي لا يتعثر المشروع من جديد».
وبحسب حديث شيخ «كومان» لم يتم توصيل شبكة المياه إلا في العام 2006. حين دفع الاهالي تكاليف هذه الشبكة من أجل الإسراع بوصول مياه نقية إلى بيوتهم بدلاً من تلك التي جلبت الأمراض والاوبئة لهم، ولأطفالهم. لكن المضخة التي وصلت إلى موقع المشروع لم تكن تحمل المواصفات الخاصة، فتركت في الموقع عاماً كاملاً، ظل أهالي «كومان» خلاله يتابعون الجهات المختصة في إب من أجل الحصول على المضخة المتفق عليها، تم وجمعت الهيئة العامة لمياه الريف بتركيب المضخة، وهو ما رفضه الأهالي وقاموا باحتجاز الونش الذي قدم إلى العزلة لهذه المهمة. حينها أرسلت الهيئة أربعة أطقم عسكرية لإعادة الونش.
يؤكد الشيخ «محمد عبدالقادر» أن الهيئة كانت تريد «كلفتة» المشروع، لكن وبعد رفض الأهالي لذلك تم الاتفاق مع الأمين العام للمجلس المحلية بالمحافظة «أمين الورافي» وامين عام المجلس المحلي للمديرية، ومدير عام مياه الريف، ومندوبي ومهندسي الشركة المكلفة بتركيب وتنفيذ المشروع على أن يتم تركيب عشرين ماسورة فقط، ومن ثم يتم تشغيل المضخة إلى خزان التوزيع، وملاحظة المضخة وما يطرأ عليها أثناء التشغيل، وأن تظل تحت الصيانة، وفي حال وجود مشكلة يقوم فرع الهيئة بإيجاد البديل.
لكن الشيخ «عبدالقادر» يؤكد أنه ومنذ ذلك الاتفاق في 26 اكتوبر/2007، وحتى الآن، و«كومان» في انتظار تنفيذ الاتفاقية، مختتماً حديثه لـ«النداء» بالقول: «لا نريد من الدولة سوى العيش بكرامة، وحق المواطنة المتساوية، وكما وفينا لها؛ عليها أن تفي بوعودها رحمة بأطفالنا».
يؤكد أحمد ناصر(65 عاماً) أن النساء يخرجن منتصف الليل للتسابق على الماء، وأن الأهالي لا يعرفون أن لديهم مشروع ماء إلا في الانتخابات التي يُطلب فيها منهم انتخاب الحصان للحصول على إنجاز المشروع.
> عند عودتنا اعترض أحمد الجراش (60 عاماً) طريقنا ملوحاً بعصاه، وطالبا منا رؤية مدرسة «كومان» الواقعة أسفل العزلة، والتي قال إنها مغلقة منذ العام97.
اكثر من سبعة فصول مع الملاحق هي ما تحتويه المدرسة، وجميعها تحولت إلى اسطبلات للحيوانات، في كل فصل عدد من الحمير والأبقار والأغنام.
أكد الأهالي لـ«النداء» أن المدرسين هربوا من المدرسة بسبب استقطاعات المركز التعليمي لمبالغ من مستحقاتهم المالية ومضايقات وتعسفات أخرى، وعدم توفر سكن في المدرسة، اضطر الطلاب إلى الهجرة نحو مدارس في حزم العدين، وهو ما حدث لمدراس أخرى في بقية عزل المديرية، ومنها: مدرسة المعز لدين الله، ومدرسة «حمامة» ومدرسة الهدى، وقد لاحظت «النداء» عدم وجود أسوار تحمي هذه المدارس من السطو.
تمنى أهالي «حبيش» أن يتذكر المسؤولون والتجار من أبناها قراهم وأهلهم، وأبدوا أملاً في أن يكون للقاضي حمود الهتار (وزير الأوقاف) دور في إنقاذهم من الحرمان.
ibrahemibbMail