إقصاء المشترك ودفع الاحتجاجات إلى تخوم الدعوات الانفصالية.. لعبة السلطة لإعمال القوة باسم الوحدة

إقصاء المشترك ودفع الاحتجاجات إلى تخوم الدعوات الانفصالية.. لعبة السلطة لإعمال القوة باسم الوحدة - عبدالباري طاهر

قامت حضارة اليمن على الزراعة بإقامة السدود والحواجز التحويلية.. وفي البقعة الخضراء من أرض يحصب الخ. كما قامت على بناء المدرجات، ومعرفة مواسم الزراعة والحصاد، والمهارة في ارتياد طرق التجارة ومواسم  الاصطياد والابحار لخدمة التجارة. وبناء التحالفات- الايلاف- لحماية قوافل التجارة.
ورمز خراب سد مأرب لانهيار هذه الحضارة الانسانية التي كانت مهوى الافئدة، ومحل تقدير وإشادة الكتب السماوية: العهد القديم والقرآن الكريم في أكثر من سفر وسورة.
وكان الابتلاء العظيم انهيار الدولة بمسمياتها المختلفة: سبأ، معين، حمير، أوسان، قتبان، وحضرموت.
من العبث انكار إنجاز وحدة ال22 من مايو 90، ولكن الانجاز التاريخي والمهم المعزز بهامش طيب للحريات العامة والديمقراطية وبأفق مفتوح للتعددية السياسية والحزبية، والحريات الصحفية، وبمشاركة سياسية بين الشمال، والجنوب، وتحديداً بين أكبر تعبيراتها السياسية: الاشتراكي والمؤتمر.
للمرة الاولى تتوحد اليمن بالتحاور السياسي وتقوم وحدتها كمصالحة وطنية شاملة بين أقوى الاطراف نفوذاً في الشمال والجنوب برغم طبيعتيهما الشمولية والدكتاتورية وما شئت من مسميات فاجعة.
حرب 94 اعادت البلاد والعباد إلى مربع الحروب المستدامة. وأخطر ما فيها أنّها قد غرست بذرة الانقسام القديم الجديد والذي يرتدي لبوس الجهوية والطائفية والقبائلية حتى البائدة منها، والاخطر أنها قد زكت مبدأً الغلبة والقوة.
الحملة الجائرة واللا اخلاقية ضد المرشح المهندس فيصل بن شملان أكدت أمرين خطيرين: الأغلبية الجهوية التي حذر منها حيدر العطاس؛ كما أكدت أن حرب 94 قد جعلت مبدأ التداول السلمي للسلطة شبه مستحيل في دولة غلبة وانتصار، وقريبة عهد بكفر التشطير.
والحرب الكريهة كوصف عمرو معد يكرب الزبيدي، لم تكرس(فحسب) إعادة الانشطار الجهوي: شمال جنوب، وهو انشطار قريب عهد بالكفر، وإنما بعثت واحيت انشطارات قبائلية في المجتمع اليمني كله. وحرب صعدة «المعومة» التي تدخل عامها الخامس دون حل، واحدة من أكثر من اربعمائة وخمسين حرباً شهدتها البلاد اليمانية منذ عدة عقود.
فساد الدولة واستبدادها، واصرارها على تعميد الوحدة بالدم، والتمسك بالأسلاب، والغنائم والفيد، وعجز المعارضة وتلكؤها هما الخطران الماحقان المحدقان باليمن كله. فالدولة الفاسدة من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى كتعبير السارد العظيم تولستوى هو أسس التفكك والتمزق. كما أن غياب المعارضة وعدم تبنيها قضايا الناس يفتح الأبواب أمام العفوية ودود الأفعال التي قد تجعل الكل في مواجهة الكل. وتعيد إحياء صراعات لا تحمد عقباها: جهوية، طائفية، قبلية، والازمة الشاملة قد ترفد وتغذي مثل هذه الصراعات الداحسية.
تحرص الدولة على إقصاء المشترك، وبالأخص الاشتراكي، عن لعب دور في احتجاجات الجنوب. وتدفع بالاحتجاجات السلمية إلى تخوم المواجهة والدعوات «الانفصالية»، لتظهر وكأنها الطرف الوحدوي الوحيد، وأن القوة وحدها هي السبيل الوحيد لحماية الوحدة والذود عنها من حق أن يحتج بعد أن أقصى بحرب تكفيرية وتخوينية من وحدة لعب الدور الاساسي في بنائها. ولكن علينا أن ندرك أن المناطق الوسطى: تعز إب، ذمار، رداع، والبيضاء، قد دفعت ثمناً فادحاً في الثورتين اليمنيتين سبتمبر وأكتوبر وحروبهما على مدى أربعة عقود، وقد قُتل وسُرح الآلاف من أبنائها من الجيش والأمن والوظيفة العامة بسبب هذه المواقف، ولن يغيب احتجاجها الحاضر والقوي دوماً في تجربة الثورتين.
كما أن هناك مناطق محرومة من أبسط حقوق المواطنة: مأرب، الجوف، صعدة، حجة، والمحويت، وعمران، ومن خدمات التطبيب والتعليم ومياه الشرب النقية، والكهرباء ومواطنتها لا تتجاوز الاحتراب: ودفع الضرائب والاتاوات، وتشجيع الدولة الاحتراب فيها والثارات.
 وموالاة المحويت والحديدة وصنعاء، وعدم وجود احتجاجات حقيقية قوية فيها لا يعود  الى الرضى عن الحكم وإنما لقبضة السلطة والسيطرة أتباع السلطة في هذه المناطق، وسيطرة ذهنية الطاعة المقيت فيها.
 الفاجع أن معالجات الحكم القاصرة والآتية من «الداعي القبلي» وأساليب شراء الذمم، وإشعال الحرائق، والإيغال في تبني خطاب سياسي واعلامي مخون ومجرم، للجنوب بخاصة، وللمعارضة السياسية بعامة. وبمقدار تصاعد صوت الاحتجاج المدني بمقدار تشنج الخطاب الرسمي الممهور بالعنف، والمعمَّد بالدم، والخشية كل الخشية أن تلجأ الدولة «الفاسدة والمستبدة» إلى الحلول التي طالما أتقنتها وخبرتها واحتكمت إليها، وهي معالجة «الداء بالداء»، وهدم المعبد على رؤوس الجميع. فاستعراض العضلات، والتلويح بالقوة، ورفض التصالح والحوار، والعجز المدقع عن حل الازمة الشاملة في مجتمع أمي جائع، ومدجج بالأمية والسلاح هو ما يتهدد اليمن.
يبدو أن صوت المنطق والعقل في الدولة والمجتمع قد وصل حدود الخفوت والتلاشي. وليس أمام اليمن من حل غير العودة الآمنة والحميدة لروح وثائقها التأسيسية والاجتماعية: بيان الثلاثين من نوفمبر 89، ودستور دولة الوحدة «المفترى عليه»، ووثيقة العهد والاتفاق.
تحكيم المنطق والعقل والتخلي عن ذهنية التخوين والتجريم، واحتكار الوحدوية والوطنية وحتى الديمقراطية والتخلي عن اغراء الانفراد بالحكم لصالح فرد أو أسرة أو قبيلة أو حزب، هو الطريق الامن للخروج من الأزمة القائمة.
إن نهج الحكم القائم على الانفراد والغلبة يقوي الاتجاهات الجهوية والقبائلية في اليمن كلها وبالأخص في الجنوب الذي جرى الانقلاب عليه جهاراً بحرب آثمة ومقيته.