انتبهوا أيها السادة!

انتبهوا أيها السادة! - إلهام مانع

 ما زلت أذكر حديث اللورد كريستوفر باتين، الحاكم البريطاني الأخير لهونج كونج، في مأدبة عشاء نظمتها على شرفه مؤسسة الدراسات الدولية الخارجية التابعة لجامعة زيورخ قبل نحو عامين. ولأن رئيس المؤسسة آنذاك هو رئيسي في العمل والمشرف على رسالة ما بعد الدكتوراه التي أعد لها، فقد وجدت نفسي ضمن المدعوين.
دار الحديث عن الإسلام السياسي، ثم تحولت دفته إلى إندونيسيا ومدى إمكانية تأسلمها السياسي. ووجدته يؤكد بثقة أن التحليلات التي أجرتها منظمة "كرايسز جروبـ" البحثية، التي يشارك في رئاسة مجلس إدارتها، تؤكد حتى الآن أن تلك الإمكانية، رغم مؤشراتها التي بدأت تبزغ، تظل بعيدة.
 “إندونيسيا ليست كغيرها من البلدان، نسيجها متنوع وأطيافها متعددة، وطابعها التسامح. ليس من السهولة القضاء على هذا التراث"، كان ذلك رأيه.
 وكنت متشككة في رأيه. رددت عليه بأن مصر التي كنت أعرفها كانت كذلك. مصر التاريخ والحضارة، كانت هي الأخرى وجهاً للتسامح، يحيا فيها المصريون باختلاف دياناتهم، ويقتسمون اللقمة والفرحة والحزن معاً. لكنها اليوم غير ذلك، أصبح التشدد هو ملمح الحياة الدينية، إسلامية كانت أم مسيحية، والانغلاق على الذات هو عنوان العلاقة التي تفرق بين طرفي نسيجها الديني.
كان رأيي أن الإسلام السياسي له منهجية وأدوات منظمة يعمل من خلالها، يبدأ بالمناهج التعليمية، والمدارس العامة، ثم بالمدارس القرآنية، ثم بالجوامع، ومن خلالها يجند جيلاً أول يؤمن بفكره، ثم يبث عناصر هذا الجيل في مراكز التعليم، في المراكز الدينية، في النقابات المهنية والعمالية، ثم في الصحافة والإعلام، وبالطبع في الساحة السياسية، حتى يتحول الجميع إلى استخدام خطاب واحد ممأسس.
خطاب يبدأ الناس في قبوله تدريجياً، وينعكس مع الوقت على سلوكياتهم الاجتماعية. وإلى المدى الذي يدفع بامرأة مثل حنان ترك إلى افتتاح مقهى تقصر دخوله على المحجبات، وتصر على اعتبار وجود المسيحيات وغير المحجبات فيه غير مرغوب فيه.
 ثم لا تجد غضاضة في ذلك! كأنها ألغت عقلها وحسها الأخلاقي.
منهجية منظمة تراهن على الوقت والعمل الصامت الدؤوب. ولأن الأمر كذلك، كنت وما زلت أشعر بالقلق على بلدان من نوعية إندونيسيا وماليزيا،  خاصة في ظل الطفرة النفطية التي طفحت على منطقتنا من جديد.
 عاد إلى هذا الحديث، والقلق الذي استشعرته، عندما التقيت بالأستاذ المفكر الدكتور نصر حامد أبو زيد قبل عشرة أيام في إطار مشاركته ضمن حلقة محاضرات عن الإسلام والدولة الحديثة نظمتها جامعة لوتزرن السويسرية.
كان قد عاد لتوه من زيارة إلى إندونيسيا.
عاد مهموماً.
كان مدعواً فيها لإلقاء محاضرة يوم 27 نوفمبر ضمن مؤتمر لدعم البراعم القيادية المسلمة الإندونيسية في مدينة ملانج في شرق جاوا، تم تنظيمه بالتعاون بين جامعة لايدن الهولندية -التي يشغر فيها الدكتور أبو زيد مقعد أستاذية- ووزارة الشؤون الدينية في إندونيسيا.
في آخر لحظة تلقى رسالة قصيرة على هاتفه النقال يعلمه فيه مدير التعليم الإسلامي العالي في وزارة الشؤون الدينية بطلب إلغاء زيارته إلى اندونيسيا "بسبب بعض الظروف"، التي لم يسمها، ويحذره بأن الوزارة "غير مسؤولة عن حضوره"، وأنه اتخذ ذلك القرار "بعد التشاور مع الوزير".
الوزير بالطبع من أتباع التيار السلفي. والوزير لم يتخذ القرار وحده، بل اتخذه بعد "التشاور مع المجلس المحلي للعلماء". والعلماء هنا هم رجال دين، أصبحوا يُستشارون في الكبيرة والصغيرة، وهم كما بدا واضحاً من مشورتهم يقلقون من أفكار رجل مثل إستادنا الجليل.
 رجل لم يحمل يوماً سلاحاً سوى فكره وكلمته. وعلى ما يبدو أن الفكر والكلمة يخيفان اليوم أكثر من أي سلاح نووي.
تلك الرسالة القصيرة جرت وبالاً على وزارة الشؤون الدينية ومن اتخذ ذلك القرار فيها. فلحسن الحظ أن إندونيسيا ما زالت بلداً يتمتع بهامش من الحرية نحسدها عليها نحن في بلداننا العربية. فما إن سمع بالخبر أصدقاء الدكتور أبو زيد، وعلى رأسهم الرئيس السابق عبد الرحمن واحد، وتلامذته، حتى أعدوا مؤتمرا صحفياً وأعلنوا فيه الخبر، ليصبح حديث الإعلام المرئي والمكتوب الإندونيسي، ولينتشر الخبر في الوقت ذاته ليصل إلى هولندا.
ثم نظموا محاضرة له في اليوم نفسه الذي كان يفترض فيه أن يلقي محاضرته.  والجميل أن أكثر من خمسمائة شاب وشابة شاركوا فيها، كأنهم أرادوا أن يقولوا له: "ليست هذه إندونيسيا التي نعرفها. نحن وجهها الذي يحبك، ويقدر فكركـ".
لا بد أن نقر أن مثل تلك الحركة المدنية ومقدرتها على التحرك المضاد والتنظيم جديرة بالإعجاب والاحترام.
لكن جدير بنا أيضاً أن نفتح أعيننا على ما يحدث في إندونيسيا اليوم. فحركة الإسلام السياسي جارية فيها على قدم وساق. جدير بنا أن نفتح أعيننا على ما يحدث أيضا في بلدان آسيوية وأوروبية، على تلك المنهجية المنظمة التي يعمل من خلالها الإسلام السياسي، بصمت وهدوء، وبعمل دؤوب، حتى تتغير السلوكيات الاجتماعية وتتقولب في غطائها الأسود، الكاره والحاقد على الغير، والرافض للفكر العقلاني، ثم الداعم للعنف.
الأستاذ الدكتور نصر حامد أبو زيد عاد محبطاً من زيارته إلى إندونيسيا، رغم انقلابها لصالحه، لسبب بسيط: "لأني كنت أبشر في السنوات الماضية أن إندونيسيا، بعلمائها وشبابها المنفتحين على أساليب البحث العلمي العقلاني، هي نقطة البداية لتجديد الفكر الديني الإسلامي".
لعلها لن تكون كذلك، رغم إصرار أستاذنا الجليل على أنه لم يفقد الأمل بعد.
فالحادث أن أخطبوط الإسلام السياسي بدأ ينتشر بالفعل في كيان الدولة المتسامحة. وما دام الوزير ومجلس العلماء المحلي من أتباع الفكر السلفي الوهابي، فالمعركة لن تكون إلا شرسة.