لا يا «وعاظ السلاطين» الدين ليس في خدمة السلطان

لا يا «وعاظ السلاطين» الدين ليس في خدمة السلطان - أبوبكر السقاف

كانت البداية في الجَنَد، الأرض التي ارتبطت في ذاكراتنا ببداية حكم الدولة الاسلامية في هذه الديار، فعكر خطيب السلطان صفو العيد بتكفير الجنوبيين وظل سادراً في غي التحريض على القتل والاستباحة التي لا تعرف حدوداً لها إلا نزوات السلطان. ذكرنا خطيب الجند بتبادل الأدوار الذي قام بإخراجه وتمثيله الرئيس و«ذو الوجه الكئيب» عندما قام الأول خطيباً، وتفقد الثاني المعسكرات في إطار الإعداد لحرب القبيلة على الوطن المنشود في العام 1994.
أن يكون الشيباني واحداً من و«عاظ السلاطين» أمر لا يثير الاستغراب؛ فهو لا يغضب لوطنه الصغير وربع أهله ومنطقته، ويقدم ولاءه المنفلت ثمناً لرضا السلطة/ السلطان، كما أن مؤتمر الزنداني في تشرين الثاني للتملي والتفكير في «فتنة» الجنوب أيضاً أمر متوقع؛ فالرجل كان ولا يزال سادراً في طريق «شيخ الذباحين» الراحل الزرقاوي، رغم أنه منذ جريمة 11/9/2001، تحدث كثيراً عن الوسط والوسطية اللذين عاداهما بجهادية سلفية منذ ستينيات القرن الماضي، ولكنه أدرك أن هز الوسط ليس أمراً هيناً بعد أن أصبح في صراط سياسي شديد الوطأة، كأنما يصعد في السماء بين مساومات السلطان المحلي ومحارب الارهاب لصالح أمريكا الراعية والجامعة وبين السلطان الأمريكي المجنون الرئيس بوش -المسدس.
كل هذه البهلوانيات التكفيرية المتعطشة لدماء الجنوبيين تخرج من جيب السلطان والاسلام السياسي المتحالف معه منذ سبعينيات القرن الماضي عبر مسيرة شائكة ودموية من القتل والارهاب والاغتيال وتسخير قيم الدين السامية بأكثر الطرق فجاجة؛ وحتى تناسب أجواء اليوم يسندها السلطان بتسعير نار الثارات في الجنوب، ف«فرق تسد» سلاح أثير على سلطان ومحبي الاستعمار الداخلي أيضاً.
لا يوجد أي شك عند من يراقب أحوال هذي البلاد في أن هذا الحلف غير المقدس كان ولا يزال في مقدمة أسباب تدمير كل إمكانات بناء دولة حديثة، أي دولة لمواطنيها، فالاسلام السياسي والذهنية القبيلية يلتقيان عند مفهوم الراعي والرعية، وإلا ما كان شيخ الاصلاح القبيلي وشيخ التكفير الاصلاحي من لوازم السياسة اليمنية قبل الوحدة وبعدها، و في هذا السياق الجنوب دائماً غنيمة؛ ومبدأ الغنيمة هو محرك السياسة والأخلاق والتدين، في اتساق وتناغم يظلل تاريخ الدولة العربية الاسلامية حتى يوم الناس هذا.
لقد استغرب أبناء الجنوب خطبة الجمعة في عدن، ثم ما نشر في «الأيام» عن «حوار» الرئيس مع العلماء من عدن وحضرموت. كان تناول الخطيب لتاريخ الشطرين قبل الوحدة ناقصاً، وإيجازاً مخلاً إلى درجة تجعله غير منصف، بل ومنحازاً إلى جانب السلطان، فليس الجنوبيون وحدهم من كانوا يخافون السفر إلى الشمال. بل الشماليون أيضاً كانوا يسافرون إلى الجنوب عبر جيبوتي وبتحايل معقد. كما أن الجنوبيين الذين يصلون إلى جنة المأوى في الشمال كانوا يسامون الخسف من الأمن الوطني لفترة طويلة حتى يتم تدجينهم وبعد ابتزاز مالي وسياسي طويل، إن استلم بطاقة شخصية تكون مختومة «جنوبي يقيم في صنعاء». نذكر كل جنوبي بما ذكره الشاعر محمود درويش بأنه يحمل بطاقة «فلسطيني يقيم في إسرائيل». كما أن الجوازات التي حملها الجنوبيون تحمل الحرف «ج» إلى جانب الرقم، ولديَّ جواز سفر يحمل هذا الحرف الجليل. كما أن السجلات الرسمية للجنوبيين مستقلة عن نظيراتها المخصصة للشماليين. وحكايات السجن والاستجواب الذي يستمر أسابيع طويلة، وكتابة تاريخ حياة الوافد الجنوبي غير مرة، والتدقيق في قوائم أفراد أسرته وأصدقائه وزملاء دراسته، كان مكملاً للرشاوى/ الإتاوات التي لا تكاد تتوقف في كل مناسبة. ليست ظروف الحرب الباردة وحدها في أساس هذه المعاملة، بل الحكم العسكري الأمني والعصبية القبيلية التي يشرب من كأسها الجنوبيون منذ 7/7/94، هو أس الأسس وموطن الداء الوبيل في جهاز يجمع بين ما دون الدولة وما قبل الدولة في اتساق يصبغه بتضافر لا مفارقة فيه تاريخ القبيلة ونظام موجود في القرن الواحد والعشرين.
أما الأمن والأمان اللذان تحدث عنهما خطيب الجمعة في عدن، وعلماء عدن وحضرموت فإنهما كذبة منبر، إلا إذا كانوا جميعاً لا يسمعون أزيز الرصاص في ساحة الحرية وردفان والهاشمي والمكلا وحوطة لحج.
أيها الاخوة، إتقوا الله. أهلكم يقتلون في الساحات العامة والشوارع وهم عزل، ويوصمون بأقبح الصفات، وأنتم تباركون ذلك باسم وحدة غير قائمة اغتالها النظام منذ 7/7/94، فأصبحت وحدة مغدورة، يمكن أن نقول إنها اغتالت كل الوحدات القادمة. كان عليكم إما أن تمارسوا التفكير في السياسة باتزان ومهنية واقتدار، أو أن تمارسوا الوعظ بالحسنى وتقديمه للجميع: للسلطان وجنده وحزبه وأركان حربه والمعارضة، وأبناء الجنوب كافة الذين خرجوا بعد صمت وصبر طويلين، لو طالا أكثر من ذلك لشك المؤرخون في آدميتهم وألحقوهم بالبهائم، أو بالحجر الذي تمنى أن يكونه أحد شعرائنا القدامى؛ بعد أن تعذر طيب العيش عليه في جحيم الدولة الأموية.
ألم تفطنوا بأن السلطان يريدكم وقوداً لنار حربه ضداً على أهلكم في الجنوب. فبعد توظيف تاريخ الثأر القبلي الآثم، أراد الاستفادة القصوى من الدين أولاً ومن كونكم من أبناء الجنوب، لتشهدوا في محكمته ولصالح مظالمه التي اعترف بها، وإن لم يعترف مكابراً بوجود قضية جنوبية، مع أنها ملء الأفق والأسماع والأبصار وتغذ السير نحو حرية طال انتظارها وكرامة كادت تُحتضر ولو لم يسعفها الشجعان والشجاعات من أهل الجنوب.
وبعيداً عن الغوص في تاريخ الجنوب العربي الدامي والمعقد، الذي يعني تاريخياً كل أصقاع وأركان هذا الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة العربية في مقابل الشمال العربي، أذكركم بأن أحد أئمة الدولة القاسمية جعل جنوب الشمال والجنوب الذي تنتمون إليه أرضاً خراجية (مفتوحة) وهذا يعني أنهم ليسوا مسلمين وإلا لكانت أرضهم عشورية، مثل سائر بلاد المسلمين.
أذكركم بهذا لأن لب ذهنية النظام القائم، حتى بعد زوال الدولة الزيدية المذهبية بعد انقلاب سبتمر62. فالجهة الجغرافية نفسها، وقبائلها نفسها وممثلوهما في الجيش والإدارة ومجال المال الذي استولوا عليه دون أن يساهموا في إنتاجه، أي «وثوباً إلى الدولة» (ابن خلدون) وبوساطة الدولة. وتحت هذا الشعار شن علي عبدالله صالح، والأحمر (الأب) شفاه الله وعافاه، حرب التكفير والتخوين في العام 1994. إن الصورة المعاصرة لنظام الخراج القديم هي النهب الذي طال كل شيئ: الزرع على الأرض والنفط في باطنها والبحر والموقع، وحتى التاريخ أصبح ملحقاً بدولة السلطة القبيلية التي تكتبه بأثر رجعي، وهي تنظم في الأيام القليلة القادمة ندوة لكتابته يشرف عليها -ولا تستغربوا- التوجيه المعنوي بالجيش؛ فنحن أبعد ما نكون عن الدولة المدنية: ضالتنا وضالة إخواننا الباكستانيين ومن في حكمهم. إن المخلب المزدوج للقبيلة/ الجيش ينهك جسد وروح الناس في هذه الجمهورية القبيلية، التي أعدت منذ سنوات مراسم توريثكم لـ«يزيد» القادم. أيها الاخوة الأعزاء: كان الامام الغزالي ينفر من مجالسة الحكام ويوصي بعدم الدعاء لهم بطول العمر؛ حتى لا يكون مشاركاً في ظلمهم الذي يمارسونه إذا ما امتد بهم العمر. هذه قمة لا أظنكم تقدرون على ارتقائها. وأيسر منها التزام صمت الحكمة، فهو أقرب إلى الدين، الذي يتوحد به الجهاد الأفضل، الذي علمنا النبي العربي (صلى الله عليه وسلم) إنه الجهر بكلمة الحق في وجه سلطان جائر.
24/11/2007
* هو المتوكل إسماعيل بن القاسم -1087ه 1676.