في مديح السلطان وابتذال الأدب!

في مديح السلطان وابتذال الأدب! - جمال جبران

أي رئيس دولة، مهما كان، لايمكنه أن يصمد طويلاً أمام كلمات النفاق والنفخ التي تُقذف بين يديه وفي بلاطه. هو يحتاج لكلام عاقل صادق يقال بين يديه، بين الفينة والأخرى، بماله أمر افعاله لإعادة تفكير في خططه وماينوي فعله. لم يكن الرئيس "الراحلـ" صدام حسين ليصل إلى ماوصل إليه، حبل المشنقة، لولا ذلك الكلام الذي كان يتم سكبُه ليل نهار بين قدميه، الكلام الذي أذكى بذرة الشر بداخله. كلام الأدباء المادحين المبجلين، حفارو القبور. مازال للتاريخ إمكانية فسيحة لإعادة نفسه.
(1)
لم نعرف على وجه الدقة عنوان الراية التي ذهبت الأمانة العامة لاتحاد الأدباء والُكتّاب اليمنيين تحتها إلى عدن نهاية الشهر الفائت،إذ اختلط علينا الأمر والتبس! اختلط وصار داعياً لإثارة أسئلة : هل ذهبت الأمانة العامة لتكريم بعض من مؤسسي الاتحاد، كما قيل لنا وتم الإعلان عنه، أم ذهبت لتكريم فخامة الأخ الرئيس القائد والتشرف بمصافحته والتقرب إليه؟ عنوان الفعالية قال بالأولى لكن ماحصل واقعاً قال صارخاً بالثانية مشيراً باتجاهها. مارأيناه على شاشة الفضائية اليمنية وكذلك الصور المنشورة يؤكد هذا ويثبته. لم ينل المكرمون من مؤسسي اتحاد الأدباء والكتاب غير جزء ضئيل ضئيل من الصورة إضافة إلى مبلغ مالي لم يتجاوز سقف الخمسين ألف ريال (250دولاراً أميركياً)، في حين برز فخامته في الجزء الأكبر من الصورة. أشير هنا إلى صورة بذاتها تم تعميمها بين وسائل الإعلام الرسمية تظهر لحظة التكريم، فخامة الأخ الرئيس المشير محشوراً بين اللواء الركن "عبد الله البار" والعميد الركن " الغربي عمران ". صورة كبيرة وواضحة تقول بصوت عال حقيقة المهرجان برمته وبما لايدع في نفوسنا مجالاً لشك أو مساحة لريبة.
بقي المكرمون، إذن، على هامش الصورة في حين استولى المشير واللواء الركن والعميد الركن عليها كلها، ابتلعوها. وظهر الأخيران كناطقين رسميين باسم الأدب اليمني قديمه وحديثه. ظهرا ناطقين باسمنا ومتحدثين نيابة عنا. منحو فخامته درعاً تكريمياً بسبب جهوده الخلاّقة في الحياة الأدبية اليمنية وقالا :" باسم جميع الأدباء والكتّاب اليمنيين نمنح فخامتك هذا الدرع ". لقد قاما باستثمارنا وفتحوا عن طريق المتاجرة بنا حساباً بنكياً وحطّوة في حصّالة فخامته. تحدث اللواء الركن " عبد الله البار " والعميد الركن " الغربي عمران " باسمنا وتقربا إلى يدي فخامته عن طريق استخدامنا كقرابين. ظهر الفكر القطيعي ( من قطيع ) هنا واضحاً وفاضحاً. لايمكن إغفالنا هنا لأمر يقول باستحالة إحداث فصل بين الثقافة التي نشأ الكائن عليها وتربى وبين ماهو عليه اليوم. لايمكن لمن نشأ وتربى على ثقافة السير مع القطيع ونام في الحظيرة ومايزال يراوده الحنين إليها، لايمكن له أن يكون فردأ مستقلاً بذاته مخترعاً فكرته حافراً خطوته على الأرض. من السهل، إذن، لهؤلاء اقتراف أمر التحدث باسم الجميع ونيابة عنهم.
وعليه، وبالعودة إلى موضوع التكريم، لم يكن إعلان تكريم مؤسسي الاتحاد غير جدار حماية وساتر لما قد تمت حياكته في عتمة. لم يكن مؤسسي الاتحاد سوى سُلم وأداة وصول لمكرمة مصافحة فخامته. لم يكن مؤسسي الاتحاد أو بعضهم سوى لاعبين كومبارس، ثانويين جداً في مسرحية تم إخراجها بشكل ردئ للغاية.
(2)
طوال تاريخه ظهر اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين كمؤسسة اختارت لنفسها الابتعاد عن السلطة وبحرصها على عدم التماهي مع مكوناتها وعناصرها. لقد كان لها مشروعها الخاص النائي عن أية جغرافية شبهة والتباس، عن كيل آيات المديح ورفع بيانات التهاني والمناشدات بمناسبة وبغيرها. لم تبتذل ولم تسقط ولم تنحني ولم تتأخر عن ارتداء مفردات المدنية. ظلت محافظة على استقلاليتها ما استطاعت. ظلت إشارة دائمة وناصعة ونظيفة تقول بمؤسسة وحدوية قبل التوحد. يكفي العودة إلى تلك الأسماء الرائدة في سجلاته لنعرف حقيقة هذا الأمر. كان يكفي فخامته المرور على أسماء كالبردوني والجاوي والربادي والشحاري والقرشي والسقاف... الخ حتى يكون على يقين وقوفه أمام مؤسسة مستقلة محترمة. كان يكفي أن يتم تذكيره بهم حتى يفعل بينه وبينه حسابات وحسابات لها أن تنجيه من تعليقاتهم وتعقيباتهم. كان يعرف، على الرغم من اختلافهم مع أسلوب إدارته للدولة وليس مع شخصه، كان يعرف أنهم لايقولون إلا صدقاً وبما يعتقدونه مصلحة للبلد وأهله. كان يعرف، تماماً، أنه يواجه خصوماً شرفاء. لكن الحال تبدلت اليوم وصار بين يديه أدباء لايترددون أبداً في فعل مالا يُفعل وانتهاك المقدس والقيمة والمبدأ وذلك طلباً لمرضاته والتقرب من بلاطه. أدباء لايترددون من فعل رقصهم على قبور موتى وراحلين شرفاء.لايتأخرون لحظة في إعلاء أصواتهم طلباً لحروب إضافية جديدة لها أن تفتح أمامهم فُرص ظهور ومزايدة.. وتكسُّب!
لكأني أرى هذه الأسماء، البردوني والجاوي والربادي والشحاري والقرشي والسقاف... الخ كأني أراها اليوم وهي تتقلب في قبرها موجوعة ومهانة جراء الأذى الذي يمارس عليها اليوم وباسمها تحت رايات التكريم ومهرجانات الكلام بين يدي السلطان! لكأني أراها تئن تحت جور الكذب والنفاق الممارس مسنوداً على انجازها! لكأني أراها مسلوخة تحت ثقل حفلات الرقص والزار الخطاباتية المقامة على قبرها! لكأني أراها مذبوحة بعد كل بيان صادر من الأمانة العامة للإتحاد، بيانات الفضيحة، من بيان مناشدة الرئيس العدول عن عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية إلى بيانات النفخ في حروب صعدة المتتالية مروراً ببيانات الشكر على مكرمات فخامته الرئاسية وكأنهم مقيمون في منافسة حامية الوطيس مع بيانات الحزب الحاكم.من منهما يستطيع التفوق على الأخر وكسب ود الرئيس.من منهما يستطيع الابتذال أكثر. من منهما يستطيع، في مباراة غير نزيهة، الإطاحة بالأخر وكسر رقبته متقدماً لنيل رضا فخامته. من منهما يستطيع إظهار قدر اكبر من الولاء الأعمى المجنون. وبين كل هذا لم يصدر منهم بيان واحد مناصر لحرية الرأي وحق التعبير والقول وهو البديهي في أجندة عمل أي اتحاد للأدباء والكتاب ويقع ضمن مهامه ووظائفه الرئيسية. تمثل حالة الزميل عبد الكريم الخيواني هنا مثالاً صارخاً على هذا. لم يصدر ما يشير إلى انحياز الأمانة العامة للاتحاد، ولو بشكل هامشي، لمبدأ العمل المدني الخالص المحايد. شغلتها أمور كثيرة غير هذه. كانت تنام في المقلب الأخر من الغابة!
(3)
وعليه ماذا يتبقى للأدب والأدباء بعد سكب مائه في بلاط السلطان؟ أكان السلطان ظالماً أم عادلاً، لافرق. قيمة الأدب في استقلاليته ولا انحيازه. قيمة الأدب والأديب في احترامه لذاته وإصراره على صونها من كل ماله أن يخدش حرمتها.
تنقلب المعادلة هنا إذ يتحول الأديب إلى أراجوز. إلى حاو في سيرك شعبي رخيص. إلى لاعب بالبيضة والحجر، إلى سمسار مضارب على أرواح بشر. تنقلب المعادلة هنا إذ يتحول الأديب إلى قارع لطبول حرب وفتنة، إذ يتحول إلى سبب في حصد أرواح مواطنين أبرياء طالبوا بحقهم المنهوب والمصادر، إلى هاتف ومناد ومطلق لخطابات تحريض. دفع الحاكم وتهييجه ضد فئة معينة من شعبه. ماسمعناه من خطب وقصائد من أولئك الذين تناحروا من أجل نيل شرف التحدث بين يدي فخامته حال استقباله لهم في عدن، ماسمعناه منهم قال بهذا وأشار إليه. والمفارقة أنهم قالوا، كما بدا، بأكثر مما يريد ويرغب فخامة الأخ الرئيس في سماعه. الغريب انه في الوقت الذي يقول الرئيس صالح فيه أن هناك مشاكل وتجاوزات وانتهاكات حدثت بعد حرب صيف 94 مؤكداً على ضرورة معالجة فورية لها، في الوقت الذي وصل فيه فخامته درجة الاعتراف بأخطاء مابعد حرب 94 وبما حدث من إقصاء ونبذ وإعلاء لسلوك المنتصر وما تبع هذا من كوارث ضربت عمق التوافق الاجتماعي. نجدهم، أدباء الفيد، اللواء الركن "البار" والعميد الركن " الغربي " وقد انبريا له منددين بتسامحه وبسعة قلبه وبتجاوزه حدود المسموح فيما يخص علاقته مع الطرف المهزوم، مؤكدين له أن مايحدث من تصعيد لغضب الشعبي أنما هي مجرد احتقانات في رؤؤس البعض وان كل شئ تمام، مطالبينه عدم الالتفاف إلى الوراء كما والتفرغ لمسيرة البناء والتقدم وتنفيذ برنامجه الانتخابي، صعدوا على جثث ضحايا منصة ردفان، بذئبية صارخة، كيما يصلوا لمصافحة فخامته! لايفرق كلامهم هنا عن ذلك الكلام الذي دلقه ناصر الشيباني في خطبتي عيد الفطر الفائت. جميعهم تزود من ذات البئر وذات المياه الآسنة. جميعهم اتفق على ضرورة ضرب أولئك المتقاعدين المعتصمين بيد من حديد وبلا هوادة. جميعهم كان بارعاً في ابتذاله وتقمصه لدور نافخ الكير! أي رئيس دولة، مهما كان، لايمكنه أن يصمد طويلاً أمام كلمات النفاق والنفخ التي تقذف بين يديه وفي بلاطه. هو يحتاج لكلام عاقل صادق يقال بين يديه، بين الفينة والأخرى، بماله أمر افعاله لإعادة تفكير في خططه وما ينوي فعله. لم يكن الرئيس "الراحلـ" صدام حسين ليصل إلى ماوصل إليه، حبل المشنقة، لولا ذلك الكلام الذي كان يتم سكبُه ليل نهار بين قدميه، الكلام الذي أذكى بذرة الشر بداخله.كلام الأدباء المادحين المبجلين، حفارو القبور. مازال للتاريخ إمكانية فسيحة لإعادة نفسه.
(4)
هل هذه وظيفة الأدب والأدباء؟
هل هذا دورهم وما ينبغي لهم فعله كمنحازين دائمين للسلم وشؤونه؟
هل وصلوا باتحاد الأدباء والكتُاب إلى ماكان مقرراً وممنهجاً له، النيل منه والتنكيل بسيرته ومسيرته، الانتقام من تلك الأسماء التي لم تركع ولم تنحن ولم تسلم ولم تساوم بالرخيص والمبتذل والردئ؟ هل حان وقت دفع الاتحاد الثمن؟
ولكن، هل يفعل أمر البحث عن مصلحة خاصة كل هذا ويدفع باتجاهه إذ لايهم ولايعني بعده شئ! من أين جاء هؤلاء بماجاؤوا به؟ هل تفعل الحاجة في نفس صاحبها إلى هذا الحد الذي يدفعه الى بيع كل شئ، كل شئ غير مُدّخر لتقلبات الزمان وفصوله؟
كيف ينظرون لأنفسهم في المرآة؟
(5)
بعد الانتهاء من انتخابات اتحاد الأدباء والكتاب الأخيرة، التي صعّدت ماصعّدت إلى قمته، أفشيت لأستاذ كبير وواحد من مؤسسي الإتحاد المحترمين أمر تشاؤمي حول المصير المنتظر لهذا الكيان الأدبي ولتاريخه العريق اثر هبوط من هبط عليه. قال لي إن الإتحاد قد مرت عليه ظروف أصعب وأحلك من هذه الظروف بمالايقاس واستطاع الخروج منها نظيفا ً ومحترماً كعادته. ذكر لي حالة واحدة : عندما تحول الاتحاد،فرع عدن، لأداة في يد السلطة في الشطر الجنوبي نهاية سبعينيات القرن الماضي عن طريق إثارة بعض الأدباء لنعرات حزبية، تم تجميده إلى حين عاد إلى جادة الصواب. أود هنا لو سألته اليوم مرة أخرى قائلاً له بأمر تشاؤمي، فماذا تراه يقول وقد وصل الحال ماوصل إليه، ماتراه يقول وقد فاض الكأس وأكلت المقبرة ماأكلت!
jimy