تعز.. والحكم الذاتي

اضاءة:
حتى لا يقع القارئ في الفهم المغلوط ولكي لا تنتقص الفكرة، فإن هذه المقالة مرتبطة بمقالة سابقة نشرتها "النداء" اخترت لها أن تكون بعنوان "تعز والهويات المتخيلة"، وكل الهويات هي بالتأكيد ليست فطرية وإنما متخيلة سواءً كانت كبيرة أم صغيرة، والمتخيل هنا ليس ضد الحقيقي وإنما مولداً له، لهذا أرى أن هذه المقالة "تعز والحكم الذاتي" تستكمل ما بدأتُه سابقاً وليتضح للقارئ أن "الهويات المتفيَّدة" بفتح الياء "قد تآكلت ليس بفعلـ" غلبة السلطان" فقط لا غير وإنما باستثمار مصادرة بدأت بإلغاء جموع الناس واختصارهم بالوجاهات والأعيان والنفوذ المشيخي الذي كان يسمى أيام الأتراك "بالحاكم التركي". وبعد خروج الأتراك كان همهم أن يحموا نفوذهم من أقرانهم (الحكام المحليين). المطلوب اليوم ليس تعزيز فكرة "الأطراف المعنية" الممثلة بالنفوذ المشيخي والعسكري والتجاري وإنما أن يصبح المواطن الفرد هو المعني بصياغة الحاضر والمستقبل، لكي نخرج من دوخة التاريخ الذي يُعاد إنتاجه وبشكل قاهر!!
> إن الشعور بالخصوصية على مستوى المكان واللهجة والمذهب هو ما يميز كل جماعة تتوسل التاريخ لتعزز ذاتيتها واختلافها عن الآخرين. وتعز كمخلاف يبدأ من نقيل سمارة فمنزل حتى المخا، تمتلك التاريخ الذي عزَّز نزوعها نحو المطالبة بالحكم الذاتي قبل انسحاب الأتراك عندما عقد وجهاؤها اجتماعاً لهم في منطقة " العماقي بالتعزية "فوجهاء تعز بالتأكيد يتغيرون مع تغير الحكام ؛لأن كل دولة حاكمة تعمل على صناعة الوجهاء والأعيان الذين سيعملون على مساندتها ودعم سلطانها، وهو حاصل على الأقل منذ الدولة الرسولية التي حكمت اليمن متخذةً من تعز عاصمة لها، وبرغم اتساع وانقباض سلطانها فإن تعز ظلت هي أساسهم المتين حتى أن ابن بطوطة وهو يزور اليمن وصف أبناء العاصمة تعز ولهجتهم بالقسوة والجلافة. هكذا استمرت تعز حاضرة ومتميزة حتى جاء العثمانيون على أنقاض دولة بني عامر وساندهم في ذلك "صوفة تعز" من أمثال عبدالهادي السودي الذي كان يردد:
كنا مع عامر        واليوم على عامر
يادولة الأتراك     ذودي بني عامر
لا شك أن الأتراك عند مجئيهم ووجهوا بمقاومة مشايخ تعز آنذاك إلا أن العثمانيين قضوا على نفوذ هؤلاء المشايخ واصطنعوا لأنفسهم مشايخ في خدمتهم ومنحوهم المدافع والرتب العسكرية والرواتب المالية في مقابل جمع الزكاة للوالي العثماني ودعم سلطة آل عثمان. وعمل آل عثمان على تعميق الفجوة بين اليمن الأسفل (الشافعي) واليمن الأعلى (الزيدي)، ووجدوا في تاريخ الصراع السياسي في اليمن ما يساعدهم على ذلك، واستمروا في حكمهم على معاملة لواء تعز بخصوصية ومحبة طالما وأنهم مسالمون، وأما من خرج عن الطاعة من أبناء تعز فكان جزاؤه خلس جلده وملئه تبناً والسير به وقد أصبح مصلوباً ولكن لحمه وهيكله في صليب وجلده في صليب آخر كما صنعوا مع الشيخ "الصافية" أحد مشايخ العلم والصوفية.
حقق الإمام "يحي"حميد الدين انتصاراته على العثمانيين عام 1905م بمساندة القبائل الشافعية، وعندما وقَّع على صلح "دعان" عام 1911م وقد كان في هذا الصلح ممثلاً للمناطق الزيدية، لم ترغب أعيان ووجهاء تعز أن يكون ممثلاً لهم بل رفضوا ذلك وانضووا تحت عباءة الوالي العثماني كممثل لهم دون أن يعوا أنهم بذلك خسروا ورقة تمثيل أنفسهم مما يمكنهم من المساومة عليها بعد انسحاب الأتراك عام 1918م، لكنهم بالتأكيد لم يتوقعوا خروج الأتراك ولهذا كان اجتماعهم في "العماقي" غير مرتب له ومليئاً بالتناقضات والمصالح الشخصية.
إنهم بالتأكيد رفضوا أن يكون الإمام يحيى ممثلاً لهم، لهذا فقد نص صلح "دعان" على أن تحكم اليمن الأسفل من خلال " محاكم شرعية شافعية " وأن زكاتهم لا تسلم إلا إلى الوالي التركي بعكس المنطقة الزيدية التي تسلم زكاتها إلى الإمام يحيى بعد خصم نسبة منها للدولة التركية، لم يلتفت المجتمعون في "العماقي" إلى أهمية هذا البند لتأسيس شرعية حكمهم الذاتي للواء "تعز " والارتباط المحدود بصنعاء، ولكن تغلب عليهم حب التسلط والتصارع فيما بينهم، فلقد كان الصراع على الزعامة بين السيد " أحمد باشا وجيه " وعين تعز أيام العثمانيين وبين "محمد ناصر مقبل باشا ماوية" هو القشّة التي قصمت امكانية وجود حكم ذاتي لهذا اللواء الذي يبدأ من قضاء إب وحتى المخا، ف " محمد ناصر مقبل ماوية" لم يكن ذا عقلٍ راشد وحكيم ووحدوي كما يرى الأستاذ محمد محمد المجاهد، لكنه كان حريصاً على نفوذه في ماوية ورغبته في التمدد إلى المخا وشرعب وجبل حبشي وهو ما أثار مشاكل بينه وبين حكام هذه المناطق. وكذلك كان الصراع بين "محمد ناصر مقبل " وبعض مشايخ ماوية الذين أرادوا الارتباط بالسلطان " العبدلي " بلحج، وكذلك كان شأن الصراع على المدافع من أجل النفوذ بين الشيخ "محمد حسان" وهو شيخ طريقة شاذلية وله نفوذ مشيخي ومالي وبين "على عثمان" في المخا والذي يمتد نفوذه إلى صبر. وهكذا الحال مع مشايخ قضاء الحجرية فبيت "الجماعي" الذين ضُربوا أيام العثمانيين عادوا من جديد مطالبين بإرثهم المشيخي، وكذلك ما حدث من صراع على النفوذ بين شيخ "بني عمر" عبدالرب المعمري و عبدالوهاب نعمان، فكل شيخ كان يتصل بالحاكم "الانجليزي" بعدن وكان الحاكم هناك يستقبلهم كأمرآء بضرب المدفعية استقبالاً لهم.
لكن الانجليز وصلوا إلى قناعة أن وجهاء وأعيان تعز لن يستطيعوا أن يشكلوا دولة في تعز بسبب صراعهم على مصالح ذاتية ورغبتهم في مد نفوذهم وحماية ما تحت أيديهم من نفوذ مشيخي، وهو الشئ الذي مكّن الإمام "يحيى" بعد يأس الانجليز من اختلاف وتنابذ أعيان تعز فيما بينهم فكل شيخ يريد أن يجعل من منطفته دولة مستقلة، وهكذا نرى أن ضرب المطلب السياسي الشرعي لهذا اللواء بحكم ذاتي سببه غلبة المناطقية المعبرة عن مصالح ونفوذ الأعيان. ومن هنا كان مدخل الإمام "يحيى" في الاستفراد بهؤلاء المشايخ وطلبهم إلى صنعاء واتخاذ سياسة تقوم على الإبقاء على نفوذهم وتعيينهم على ما تحت أيديهم، لكن الإمام "يحيى "بعد أن تمكن من القضاء على الثورات في إب مع مشايخ " حبيش" وفي صبر والمقاطرة والأكاحلة وكان بيت النعمان وناصر ماوية وعلي عثمان في مقدمة المشايخ الذين ساندوا الإمام وأمير لواء تعز "علي الوزير" في إخماد هذه الثورات ظناً منهم أن نفوذهم لن يُمس، ولكن مع عام 1922م شعر مشايخ صبر والعدين وجبل حبشي والحجرية "آل نعمان" بأن نفوذهم قد سلب من خلال إرسال حُكّام شريعة يقضون بين الناس، ومن خلال تعيين عمال مرسلين من قبل الإمام ومن قبل الأمير"على الوزير "،حينها شعروا بأنهم خُدعوا فاجتمعوا في بيت "السيد أحمد الباشا" في مدينة تعز واتفقوا على قتل الأمير على الوزير، وربما تواصلوا مع الانجليز إلا أن السيد " أحمد الباشا" وقد اجتمعوا في بيته مرتين ربما شعر بفشل المحاولة وعدم جدواها فقام بالوشاية بهم إلى الأميرعلي الوزير وهكذا فشلت المحاولة بسبب السيد "أحمد الباشا" والذي يكرر فعلته ولده محمد أحمد الباشا مع حركة 1948م حين كان متفقاً مع رجالات1948 م على اغتيال ولي العهد أحمد في تعز ولكنه صنع فيما يبدو صنيع أبيه، وهكذا أصبح الأب أحمد الباشا والابن محمد الباشا مرضياً عنهم من قبل الإمام يحيى ثم أحمد وكذلك من قبل المناوئين فلقد تميزوا بقدرةٍ فائقة باللعب على الأوراق التي ستكسب!!
مما لا شك فيه أن الخلط بين النزعات المناطقية المجيرة سلفاً لصالح النفوذ المشيخي وبين حق الناس بحكم ذاتي قائم على أساس الفرد الحر وليس الفرد التابع للمشيخ يعمل عبر التاريخ الحديث لليمن على احتواء مطالب المخلاف التعزي بحكم ذاتي، فالنزعات المناطقية المجيرة للبيوتات والنفوذ المشيخي هي بالتأكيد على النقيض من المطالب السياسية لأبناء هذا "اللواء"، ولعل القارئ للأحداث خلال هذا القرن سيجد أن فشل مؤتمر" العماقي" كان أساسه هوالصراع بين مشايخ المناطق وكذلك كان العنف الموجه لضرب اليسار في أحداث اغسطس 1968م تحت هذا الغطاء، وكان فشل "الرائد عبدالله عبدالعالم" بسبب الدفع به إلى هذه الهاوية المنتهية بالفشل سلفاً، وهو ما يتكرر عبر التاريخ الحديث والمعاصر لليمن.
لقد حضر مطلب الحكم الذاتي بعد الوحدة اليمنية 1990م وبلغت الأزمة أوجها في ما يسميه الإعلام الرسمي والحزبي آنذاك بـ" أحداث 9، 10 ديسمبر 1992م" ويسميها الدكتور أبوبكر السقاف – بحق -" انتفاضة ديسمبر"، وظهر على السطح مطلب تحويلـ" الجند" إلى عاصمةٍ للجمهورية اليمنية، وكما في كل مرة تم دسّ الشعارات المناطقية داخلـ" المظاهرات" وهو ما نراه اليوم في مظاهرات "المتقاعدين" السياسية والمطلبية، فحين ترتفع الأصوات المناطقية تكون على حساب إقصاء المطالب السياسية والمطلبية سواء بحكم ذاتي أو من خلال المطالبة بمعالجة الفساد السياسي والمالي والإداري.
هامش: نلاحظ أن بروز دور تعز منذ الدولة الصليحية وحتى انقلاب نوفمبر مرتبط بولائها لمصر فمنذ الدولة الصليحية وارتباطها بالفاطميين ثم الدولة الرسولية وارتباطها بالأيوبيين ثم المماليك وحتى دخول العثمانيين إلى اليمن عبر بوابة مصر أو العكس حين كانت اليمن هي بوابة الولاة العثمانيين لشراء ولاية مصر من الباب العالي في الاستانة وحتى قيام ثورة 26سبتمبر 1962م وارتباطها منذ التخطيط وحتى 5 نوفمبر 1967م بمصر عبد الناصر.
بل إن هناك حدثاً متماثلاً بين نفوذ المماليك على اليمن ونفوذ "مصر عبدالناصر"، ففي عهد المماليك تم أسر الملك "المجاهد" والأعيان والحرس الذين كانوا معه في الحج من قبل القائد المملوكي الذي كان أميراً على حُجَّاج مصر، وقد تم أسره لمدة عام في مصر.و ظلت أمه خلال هذه المده تحكم باسم ابنها وترسل الوساطات من أجل إطلاق سراحه. وكذلك الحال مع حكومة النعمان التي تم حبسها في مصر في ستينيات القرن العشرين، بسبب أن غالبية الحكومة كانوا من البعثيين!!
هامش للتفكير: انعقاد مؤتمر للتضامن المشيخي في مقابل حركة المتقاعدين السياسية والمطلبية أمر يمكن ربطه ببداهة، علماً بأن "مجلس التضامن" في برنامجه هو أيضاً سياسي ومطلبي، لكن الأمر الذي يحتاج إلى قراءة هو التلازم من حيث التوقيت بطريقة تراتبية حين يأتي هذا المجلس القبلي كمقدمة للمبادرة الرئاسية التي شملت من ضمن عناصرها الدعوة إلى حكم ذاتي وبحكومات محلية، مثل هذا المقترح يمكن أن يجسد صورة محلية للدولة المركزية إذا قام على أساس الوجهاء والأعيان والنفوذ المشيخي.