حين مرضت نساء قريتي بسبب العلمانية

قبل أن أتعرّف على باولو كويلو ودي سوسير وبوشكين وسارتر، بحوالي عشرة أعوام، كانت علاقتي قد توطّدت على نحو ما مع ربيع المدخلي ومحمد المنجّد وسعيد حوّى وعبدالله عزام. كنت أنتقل من السادس الابتدائي إلى المرحلة الإعداديّة، ومع هذا الانتقال كانت تحوّلات فسيولوجية ونفسية وإدراكية كثيرة تصنع انتقالي وترافقه. كما أن استعدادي الوجداني للمعرفة كان يتوقّد بداخلي مثل لص، ويدفعني إلى قراءة أي شيء مكتوب على أي سطح قابل للّمْس. حتى إني كنت أحفظ عن ظهر قلب "طرق استخدام" كل تلك الأصناف التقليدية من الأطعمة المعلبة التي كان أبي يحرص على إحضارها من المدينة مرّة كل عام. أتذكّر أيضاً أني كنت أحفظ مقاسات نعال وأحذية كل أفراد الأسرة. كما كانت لدي القدرة لمعرفة، وبشكل دقيق، مقاس أي نعل إذا لم يتمكن أحد من أفراد الأسرة من قراءته بسبب البلى والتمزّقWear Tear.
وبالنزعة ذاتها، وتحت تأثير هوس مخيف، قرأت كل ما توفر من منشورات صوفية في مسجد القرية. ومعها قرأت نجمة تقود البحر، لعبد الفتاح اسماعيل – و لم أفهم منه شيئاً بكل تأكيد - والطريق إلى الجماعة الأم، لمؤلف سلفي، والمدخل لجماعة الإخوان المسلمين، وكتاباً يتيماً للراحل شوقي ضيف" العصر العباسي الأولـ". كانت هذه التوليفة متواجدة في شنطة غريبة وضعها أبي في مخزن بيتنا وحذّر من الاقتراب منها. حدث هذا في أول شهر لي في الإعدادية. وبخلاف هذه المجموعة فلم يتوفّر لي شيء آخر لأتصفّحه باستثناء المصحف. وقبل ذلك بسنين، بسبب من افتقاري لأي وسيلة تعليمية أوترفيهية نتيحة تأخر الثورة والجمهورية عن الوصول إلى قريتنا لمدة أربعة عقود، حتى الآن يعني، وانشغالها المؤقت الدائم في بيوت أولئك الذين لا ينبغي أن نتحدث عنهم، فإنني كنتُ ألجأ إلى تفريغ طاقة الحياة " الليبدو" الموّارة بداخلي في مصارف عجيبة ومخيفة. وهكذا كانت هوايتي، مع أصدقاء المدرسة، هي لعبة الشتائم المقفّاة (المناجمة) حيث يكون من حقي مهاجمة الخصم، بعد انتهاء دوره طبعاً، بأي شتيمة من أي عيار بشرط: أن تلتزم الشتيمة بالتشبيه والخيال والقافية (عرفت مؤخراً أن أخي الصغير طوّر اللعبة في القرية بإسقاط شرط القافية مما أكسبها جمهوراً جديداً ومراحل سنّية غير متوقعة). كانت اللعبة مقدمة غير أخلاقية تبشّر بميلاد شاعر غير أخلاقي. وكنا نحب ممارستها ما بين صلاة المغرب والعشاء، أمام مسجد القرية الذي كنت إمامه. وعلى أية حال فلم يكن يصلي فيه غير الصبية. وكشخص يعتز بماضيه فقد قلتُ لأصدقائي الأطباء إني على استعداد لممارسة اللعبة نفسها، وبتقنيات فنّية جديدة مستفيداً من دراستي للأسلوبية والسيميولوجيا، عقب عودتي إلى اليمن.. أعني: في ذلك الزمن الذي ستكون البطالة فيه هي الطعام الأكثر وفرة. فالثورة التي تأخرت كثيراً عن إدراك الماضي الشخصي، لي، ولّدت وضعاً جديداً: وحدةً جغرافية لم تمس مستقبلي بصورة جوهرية. وفي الصورتين أقعُ تماماً خارج الزمن اليمني بحكاياته الكبرى.
وبمناسبة الشنطة الخاصة بوالدي، فقد عاد بعد تحذيره من الاقتراب منها، عندما وجد صورة عبد الفتاح اسماعيل بين كُتبي وكان يفترض أن تكون في شنطته الغريبة، وطلب مني الاطلاع على ما في الشنطة من كتابات لعبد الفتاح وما كُتب عنه، وحدّد بابتهاج عجيب: أريدك أن تقرأ خطاب عبد الفتاح اسماعيل إلى رجال الدين، وما كتبه حسن أوسان عنه. التفتّ إلى أمي فوجدتها تهز رأسها مؤيّدةً، وعندما طلبت منها بعد ذلك بست ساعات أن تذكّرني باسم الشخص الذي ذكره أبي، جاوبتني: حسن شمسان. وحسن شمسان هذا صاحب دكّان صغير في القرية التي تلي قريتنا ناحية الجبل. وقد عرفت فيما بعد أن أبي أسرّ إلى أمّي بتخوّفه من تواصلي مع السلفي الوحيد في قريتنا، وهو أحد الذين طردتهم السعودية عقب القرار المريب للحكومة اليمنية بتأييد احتلال العراق للكويت، كما في تصريح الرئيس صالح لصحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 9 أغسطس، 1990م، أي بعد الغزو بسبعة أيّام. أعني: حين قال الرئيس للصحيفة: " يبدو أن لدى صدام من الدوافع القوية ما يجعله يقدم على مثل هذه العملية".
 بعد أيّام ليست بالكثيرة، كنتُ قد تخلّيت عن كل شيء لمصلحة سلوكي طريق السلفيّة، بعد أن أكّد لي صديقي الشيخ الشاب أن من ترك شيئاً لله أبدله الله خيراً منه. ولتقوية إيماني الجديد كان الشيخ يشير بيده إلى أبعد قمة جبل تتراءى أمامنا حيث، ولأسباب مجهولة لكلينا، كان المطر يصيبها في كل يوم بعد صلاة العصر طوال فصل الصيف: "هل ترى المطر هناك؟".
 - نعم. " في تلك المنطقة يوجد سلفيون كثيرون". وكنت أعقّب: ليطهّر به قلوبكم ويثبت به الأقدام.. وأتذكر أن مقولة " صدق الله العظيم " بدعة، فأعض على شفتي.
وفي تدرّجي السريع لمعرفة السر السلفي الأعظم (وهو يقين شبيه بيقين الحلوليّين حيث تُلغى الفواصل بين الشيخ والله ويكون أحدهما تجليّاً للآخر) قال لي الشيخ السلفي الشاب: لا تترك الحلاق يأخذ من لحيتك شيئاً، إياك أن تفعل ذلك. وأوصاني بتجنّب قَصّة القزع إمعاناً في تأكيد خاصيتي الدينية. كنت أسرد هذه التحذيرات بصرامة أمام حلّاق القرية الذي يفغر فاه بصورة لافتة لأكثر من أربعين ثانية حين يسمع كلمة "القزَع".كما يدركُ الآن مثل شيخي الشاب أن لحيتي لم ترَ النور إلا بعد هذه الوصايا بسبع سنوات. لقد حدث في لحظة صافية أن تحدّثنا كثيراً، أنا وأبي، عن الماضي. وفي حديثه أخبرني أن الحلاق – قبل 15 عاماً من حديثنا – كان يسأله في كل مرّة يلتقيه عن معنى كلمة "القزع" فيرد عليه أبي: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل.
بيد أن علاقتي بالحلّاق، المزيّن، ساءت بعد ذلك كثيراً حين استغللت فرصة خروجه من المحل فقصصت فرشاة الحلاقة الوحيدة بمقص ضخم، كشكل من أشكال التغيير التحتي لإنتاج المجتمع السليم فيما بعد. وهي العزيمة التي لم أستطع أن أستمر فيها، بسبب سقوطي في الحب فيما بعد، عندما كنت في الأول الثانوي، مع فتاة من القرية في أولى مراحل الإعدادية، عيناها مثل المنشورات الصوفية وكلامها لا يشبه كلام الشيخ البتّة. ولأني كنت معروفاً في تلك الآونة بكوني المرشد الحكيم في قريتي، حتى أن النساء لم يكن يحتجبن أمامي مما أتاح لي فرصة كبيرة لمعرفة الكثير من خباياهن وأسرارهن، فإنني خشيتُ على مركزي الديني من أي اهتزاز مفاجئ بسبب هذا الزاحف الجديد على صدري: الحب.
كان عليّ أن أتحوّل من جديد، مفاهيميّاً وسلوكيّاً ونفسيّاً لأستوعب تجربتي العاطفية الجديدة وأسايرها بعد أن فشلت كل توجيهات شيخي السلفي في مساندتي عاطفيّاً. فالفتاة الصغيرة المنقّبة لم تفهم معنى أن أطلب منها أن تستمع إلى شريط " أيتها المرأة الحجاب أو النار". كذلك، أبدت استياءها للغاية حين أرسلت إليها بكراسة مادة التربية الإسلامية الخاصة بي كشاهد صدق على شعوري النبيل تجاهها. وحتى "جزء تبارك " بصوت العجمي، عاد إليّ فوراً. وأبلغتني الصبيّة، عبر وسيط أنثوي، أن أتوقف عن مثل هذه الغباوات. وعلّق ابن عمّتي على هذه الحادثة: حين تدعوها إلى الله فسيكون شريط العجمي تصرّفاً ذكيّاً، أما حين تعرب عن رغبتك في تقبيلها وضمّها فإن العندليب سيكون أكثر نفعاً. ثم غنّى أمامي: قبّلتها تسعاً وتسعين قبلةً، موزعةً بين الكف (نطقها: الفك) والخد والفم. كم كنتُ مستاءً حينها بسبب هذا الفسق في التعبير. وقد قال لي شيخي الشاب، يومذاك حين اشتكيت إليه، أن هذه هي طبيعة أعداء الله وأعداء أوليائه في كل مكان، يضعون في طريق المؤمنين الشوك ويكيلون لهم الافتراءات. ثم قرأ قول الله تعالى: ويمكرون ويمكر الله. وذكر لي، بلا مناسبة واضحة، قصّة أصحاب الفيل. وقبل أن أغادر ضرب على صدري بقبضته: لا تحزن، لدى المؤمنين وعد بالتمكين. في تلك الليلة تمنّيتُ لو أنّ الله يوزع التمكين على عباده المؤمنين ليختار كل منهم تمكينه الشخصي، وأغلقت عيني على خيالها ونمت.
تعتقد أمي الآن، وكانت قد اطّلعت على تفاصيل الحكاية من الفتاة الوسيطة، أني ابتدأت كتابة الشعر عقب هذه النكسة. ويعتقد أبي، وكان قد علم بمغامراتي الجديدة بطريقته الخاصة وسعد لذلك، أن هذه الصفعة كانت من ضمن المقدمات القوية التي دفعتني إلى حزب الإصلاح، فيما بعد. ويضيف إليها أن فضيحة رسالتي إلى فتاة أخرى، كمحاولة مني لإنقاذ تدهوري العاطفي، والتي بدأتها بعبارة: حبيبتي في الله، كانت من الأسباب العملية لتفوّقي في الثانوية العامة. خاصة بعد انكشاف أمري بطريقة مخزية، وشيوع ما ورد في الرسالة من عبارات تدل على أني كنت صائماً بيومئذٍ " ليتني أفطر على رضابك فيغفر الله لنا معاً". وأني قلت لها: أنت عصا موسى وناقة صالح. وكيف أنها ردّت عليّ – وكانت تكبرني بعامين – بعبارة واحدة: شكراً لك، ولكن أين كرّاسة التربية الإسلامية الخاصة بك؟.. بصراحة أنا أحرص على أن لا أتذكر مثل هذه الأحداث، لذلك فليس بإمكاني الآن تأكيد صحّتها.
على أن أموراً كثيرةً كانت تساعد على بقائي سلفيّاً، تنحصر كلها في عدم قدرتي على تقديم إجابات واضحة لنفسي أمام المقولات الجبّارة التي أسمعها من شيخي. كانت تصلني باستمرار من محافظة الحديدة، حيث كان الدين السعودي يتفشّى مثل أغنام الرعيان، كتيبات وأشرطة ومنشورات كثيرة مجانيّة، لأتولى توزيعها في المساجد وفي المدرسة. وكنت أشعر براحة عارمة حين أسمع امرأة تتمنّى لأولادها استقامة مثل استقامتي، وأشكك في عقيدة أولئك المخرّفين، الذين يعتقدون أن حماسي للدعوة هو بسبب مراهقتي الإيجابية.وفي تلك الأثناء، قبل أن أتم الثانية عشرة، داهمني مرجع سلفي جاء لزيارة القرية. أعطاني كتيّباً بعنوان: العلمانية وثمارها الخبثية. وشدّد على أن العلمانية هي أكثر الأخطار التي تتهدّد قريتنا، بعد أن انتشرت في الحجرية. هكذا قالها: العلمانية تكتسح منطقة الحُجرية (ريف واسع في تعز). قرأت الكتاب ولم أفهم منه شيئاً، فقمت بتنبيه أمّي ضد خطر العلمانية، وطلبت منها أن تنبّه أبي لذلك بطريقتها الودودة، لأن من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة لجاماً من نار. وبعد أسبوع كامل كانت القرية تتحدّث عن الوباء الذي أخبرتهم أمي عنه. بينما كانت النساء يتذكّرن وباء مشابهاً أصاب الأطفال حديثي الولادة منذ زمن بعيد ولم ينج منه إلا القليلون. وبعضهنّ افترضن أن العلمانية ربما انتشرت في الحجرية عن طريق العمّال الذين يعودون إلى قراهم من المخأ.. وحدث أن مرضت معظم نساء القرية بعد شهر من انتشار قصة العلمانية، مع دخول فصل الشتاء، وتحوّلت القرية إلى فصل مخيفٍ. فكتب شيخي الشاب على باب بيته: "ألم أقُل لكم". وقبّلتني أمي بين عيني: ليحرس الله صحتك من العلمانية. ولم يتخلّ أهل قريتي عن اتّهام " ثمار العلمانية" بأنها تقف وراء معظم حالات الوباء إلا مؤخّراً، عندما أصبح معظم المسنين في عداد الموتى.
thoyazanMail