النعمان بين التقليد والتنوير

لا يستطيع القارئ لبيت النُّعمان أن يقرأ مواقفهم دون الرجوع إلى علاقتهم بالأتراك فهم بنوا "اقطاعياتهم" من خلال موقعهم القريب من الحكم التركي في اليمن وخدماتهم العسكرية للأتراك, فلقد كان الأتراك يصرفون للمشايخ العاملين معهم مدفعاً ورتبة "قائم مقام" لكل شيخ ليمارس نفوذه المشيخي باسم الأتراك, أما المشايخ الذين قاوموا الاحتلال العثماني فلقد تم قتلهم وفرار من بقي منهم, وكانت بيت النعمان من الأسر التي حظيت برعاية الأتراك ودعمهم، سواء أبو الأستاذ (محمد نعمان) أو عمه (عبدالوهاب نعمان) خاصة وأن الأتراك في عام 1030ه كانوا قد قاموا بالقضاء على تمرد الأمير الشرجبي وفرضوا على جميع المشايخ في الحجرية بعد أن تم تجميعهم في "يفرس" رهائن مثلثة (زوجة وبنت وولد) ومن رفض مثل شيخ بني دخين فقد فر مع أولاده ونسائه دون رجعة.
لم يقدم لنا التاريخ المقروء والشفهي أي تمرد من قبل بيت النُّعمان ضد الأتراك وكيف ذلك وهم قد ملأوا الفراغ وخلت لهم ساحة الحكم في تربة ذبحان. وعندما حان انسحاب الأتراك من اليمن فقد آل نعمان نفوذهم وبدأوا تمردهم ومشاركتهم في حياكة المؤامرات ضد المملكة المتوكلية الذين استقدموا حكاماً إلى التربة بدلاً عن سلطة آل نعمان المشيخية, وعندما انسحب الأتراك من اليمن كانوا حريصين على تسليم ما لديهم من سلاح إلى مشايخ تعز فلقد كان في وداعهم محمد ناصر باشا (ماوية) وسلموه ما بقي من الأسلحة كي لا يأخذها الإنجليز ولأن الأتراك كانوا متعاطفين مع مشايخ تعز الذين وقفوا إلى جوار الاحتلال العثماني في تعز. وأثناء انسحاب الأتراك اجتمع أعيان ووجهاء لواء تعز في منطقة العماقي بالتعزية في سنة 1337ه بهدف تشكيل حكومة برئاسة السيد أحمد باشا وهو عين مدينة تعز أيام الأتراك, وكذلك من أجل إعلان حكم ذاتي للواء وحينها كان قضاء "إبـ" تابعاً لـ"تعز"، على أن يكون الارتباط محدوداً بصنعاء, إلا أن الاجتماع فشل بسبب التنافس على من سيكون رئيساً بحسب رأي صاحب كتاب "مدينة تعز غصن نضير في دوحة التاريخ العربي" لمحمد بن محمد المجاهد, ولأن مؤلف هذا الكتاب قومي في توجهه وعواطفه فلم يقف مع مؤتمر العماقي بالتأني والحيادية فخسرنا كثيراً من التفاصيل عن هذا المؤتمر الذي ربما كان من أسباب فشله عدم دعم الإنجليز لقيام دولة بتعز وعودة الوفد الذي ذهب لمقابلة القنصل البريطاني بخصوص شكل الحكم في تعز بعد انسحاب الأتراك دون أن يجدوا دعماً من الإنجليز.
 كان لعبد الوهاب نعمان دور واضح في التمرد على المملكة المتوكلية بالتعاون مع مشايخ العدين وحبيش وصبر، والتخطيط من أجل اغتيال علي الوزير، بل ويحسب عليه من قبل المملكة المتوكلية تآمره بالخفاء مع ما يسميه البعض "ثورة قلعة المقاطرة"، ولهذا تم بعد اكتشاف مؤامرة الاغتيال التي كان "أحمد باشا" مشاركاً فيها ولكنه احتاط لنفسه حين وشى بالقوم إلى "علي الوزير" فكانت النتيجة السجن في صنعاء لعبد الوهاب نعمان وغيره من المشايخ المشاركين في هذه العملية لمدة سبعة وعشرين عاماً انتهت بإعدام "عبدالوهاب نعمان" لمشاركته مع حركة 1948م. وهكذا استمرت العلاقة بين أعيان ووجهاء تعز وفي مقدمتهم "بيت نعمان" قائمة على التربص والحذر وانعدام الثقة ويصور الشامي موقف "عبدالوهاب نعمان" قبل إعدامه 1948. بالجزع من الموت والراغب في الحياة بل والباكي خوفاً من الإعدام، ويصوره الحضراني وغيره من الذين شاركوه المعتقل بالفارس الذي استعد للموت بأجمل حلة وهيئة وكأنه ذاهب إلى عرس, فالشهادة حياة في الاعتقاد (وأنا أعتقد أن صاحب "رياح التغيير" لم يفترِ والآخرون صدقوا، فالإنسان بطبعه يجمع بين الجزع ورباطة الجأش, لكن الخطأ يكمن في التزامنا رواية واحدة وإلغاء الأخريات وكأن الإنسان لا يعيش الحالات المتعددة وإن وجدها البعض متناقضة!)
في أواخر العشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين عاد النُّعمان من زبيد ليعلّم في التربة ويفتح مدرسة هي عبارة عن حلقة علم تقليدية يعلم فيها كتب السنة ويكتب التمائم والدعاء والنفحة. وفي نفس الوقت جاء أخوه بمعلم درس في عدن وفي الخارج حسب رواية النُّعمان في مذكراته وهو "محمد أحمد حيدرة" ليدرس الجغرافيا والتاريخ والأناشيد الوطنية ويعزف على العود، فما كان من الأستاذ النُّعمان إلا أن اشتكى به إلى نائب الإمام "على الوزير" بعد أن كان حرَّض الآباء على عدم الإتيان بأبنائهم إلى المدرسة ليدرسوا على يد هذا "الفاسق" وفعلاً تم له ما أراد وطُرد "محمد أحمد حيدرة" لسببين لأنه نازع "الأستاذ" حظوته ولأنه يحمل ثقافة تحديثية لا تستطيع ثقافة الأستاذ التقليدية الوقوف في مواجهتها. بعدها يخلو له الجو في "التربة" ويبدأ بقراءة كتب التاريخ والجغرافيا التي رفضها بشخص حيدرة لكنه قبلها إنْ كانت من خلاله وعبره, ثم يسافر إلى مصر ويدرس في الأزهر دراسة عامة لأنه لا يملك شهادة البكالوريا, ثم يأتي صديقه "الزبيري" إلى مصر عام 1936م ويساعده النُّعمان في الالتحاق مستمعاً في دار العلوم. بعدها يعود الزبيري ليسجن في صنعاء ويعود النُّعمان إلى تعز ليحدِّث ولي العهد عن الخير والشر في مصر ويرجوه أن يعمل على اطلاق صديقه من السجن, ويفر المثقفون من صنعاء إلى تعز ليحظوا برعاية ولي العهد "أحمد" والذي أطلق وصف "الأستاذ" على النُّعمان وكذلك "خطيب اليمن"، وأطلق على الزبيري وصف "شاعر اليمن"، ولعلَّ أجمل أشعار الزبيري كانت في مدح الإمام يحي حميد الدين وولي عهده "أحمد"، وهي القصائد التي حاكى في شعريتها شعرية المتنبي وأبو تمام وأحمد شوقي!
استمرت فترة الملاينة والمسايرة بين " الأحرار" وفي مقدمتهم الأستاذ النُّعمان والزبيري والموشكي والشامي وبين ولي العهد، متخذين طريق الإصلاح من خلال النصح والإرشاد وبلغة النصح المتزلف حتى كان 1944م وفرارهم إلى عدن. استمر النُّعمان والأحرار في عدن حتى قيام حركة 1948 التي كان مهندسها الأساسي أحد زعامات الإخوان المسلمين (الفضيل الورتلاني)، مع دور لا يخفى لإخوان مصر وللإنجليز في عدن, وتكون خاتمة "1948م" الفشل خلال أسابيع وينجو النُّعمان والزبيري والشامي من الاعدام: الأول لأنه احتاط لنفسه حين سجل لنفسه موقفاً رافضاً لقتل الإمام يحي وهو الإمام البالغ من العمر أكثر من ثمانين عاماً،والثاني كان في وفد اليمن للجامعة العربية في السعودية، والثالث كان الإمام "أحمد" يتوسم فيه خيراً للمملكة المتوكلية.
لقد كان الفضيل الورتلاني هو المهيمن على القرار سواء في مقتل الإمام يحي أو في إدارة الأحداث قبل سقوط "الحركة" لقد كان رأي النُّعمان أن يُترك الإمام يحي للقدر خاصة وأنه شيخ مسن. ولعل حذر النُّعمان قد أنجاه من موت محقق. وهكذا يستمر النُّعمان في سجن حجة حتى يتم إطلاقه وعودته إلى تعز ثم ملازمته للبدر وانقسام الأحرار ما بين "بدريين" و"حسنيين". ولعل الانقسام كان حقيقياً وليس مخططاً له كما يزعم الكثير من "الأحرار" فلقد توزعت مصالحه بين البدر والحسن.
فرّ النُّعمان إلى عدن في النصف الثاني من الخمسينات وتم تأسيس الجمعية اليمنية الكبرى وإصدار صحيفة "صوت اليمن" وتأسيس مدرسة أو كلية "بلقيس". وقتها كان النُّعمان قد اكتسب بعض العداوات مع عدد من زملائه الذين أرادوا معرفة مصادر التمويل حتى يحاسبوه على الصرفيات, لكنه رفض ذلك تحت ذريعة سرية المصادر خوفاً على حياة التجار من بطش الإمام "أحمد" وكان على حق في ذلك, لكن بعض المشايخ الذين فروا إلى عدن أواخر الخمسينات وعلى رأسهم الشيخ سنان أبو لحوم والزايدي والقوسي -وكان المروني والفسيل مع هذا الجناح كراهية للنُّعمان- اتصل هؤلاء المشايخ بالقنصل البريطاني عن طريق سلطان لحج وكذلك سلطان بيحان لغرض استلام رواتب من الإنجليز ومساعدات أعطيت لهم بواسطة السلاطين بغرض تنفيذ عمليات عنف وتفجيرات داخل المملكة المتوكلية، وهو توجه كان النُّعمان يرفضه لأنه يرى أن قضية الأحرار مع الإمام ليست الاستيلاء على السلطة وإنما "عقد هدنة بين الرعوي والعسكري". كان النُّعمان يبحث عن تغيير في نهج السلطة وليس الاستيلاء عليها وهو النهج الذي شكل تبايناً مع مشايخ شمال الشمال الذين ينظرون إلى الصراع مع الإمام من منظار الثأر الشخصي لقتلاهم ولسلطتهم التي سلبها الإمام, لهذا كان تعليق النُّعمان الذي رواه الفسيل والشيخ سنان أبو لحوم في وثائقه) لافتاً، فقد وصف مشايخ شمال الشمال الذين قدموا إلى عدن بأنهم "زلجوا يتعسكروا بالداخل وجاؤوا يتعسكروا هنا" في إشارة ذكية إلى عمل هؤلاء المشايخ كجنود لدى الإمام يقومون بمهام التنافيذ والخطاط تجاه الرعية وما يشكله التنافيذ من إرهاق واستنزاف لأموال الرعية، (وهي رسالة يعي الأستاذ تأثيرها وخاصة أن ما حدث من قبل نائب الإمام علي الوزير) في بداية العشرينات من القرن العشرين عندما دخل إلى تعز دون مقاومة سوى من مشايخ حبيش في قضاء "إبـ"، لكنه مع ذلك وزع جنود ومشايخ القبائل الشمالية على بيوت تعز "خطاط" عليه لمدة عام ظلوا ينهبون المدينة وبيوتها. وهي حادثة تذكرنا بما حلَّ بصنعاء بعد فشل حركة 1948م، وإن كان ما حدث في تعز استمر لمدة عام.
لقد كان نهج النُّعمان التغييري من خلال إصلاح طبيعة النظام وليس الاستيلاء على رأس النظام. وكان موقف "سنان أبو لحوم" وصحبه التغيير من خلال استخدام العنف والتفجيرات التي كان رد الفعل عليها من قبل "الإمام" تقديم تنازلات للإنجليز والتضييق على الأحرار في عدن وغلق صحيفتهم, ولعل الدعم الإنجليزي لسنان أبو لحوم من خلال السلاطين كان واضحاً حتى يكف الإمام أحمد عن المطالبة بالضالع ولحج. لقد كان دعم السلاطين له بإرادة وتمويل الإنجليز بالإضافة إلى دعم امريكي عبر "الأسودي" أشار إليه سنان إشارة عابرة وسريعة في وثائقه, فالامريكيون هم ورثة "الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس". وهو دعم وتواجد واضح وجلي مع الكثير من حركات التحرر الوطني آنذاك العسكرية منها تحديداً.
يستمر النُّعمان في مواقفه الوسطية حتى في مفاوضاته ممثلاً للجمهوريين مع الملكيين فلقد كان أقرب إلى المعتدلين في الجهتين، فهو لم يكن راديكالياً ولكنه توفيقياً وإن تحت تسمية جديدة لدولة اسلامية يمنية بمواصفات سعودية.
بالإمكان القول أن دور الاستاذ حتى1948 كان بعيداً عن تأثير ولده محمد. ولكن منذ الخمسينات بدأ دور الابن في الامتزاج بموقف الأب بل وتوجيهه, فابتداءً من بزوغ الابن في حواراته مع المساجين في حجة في كتابه "من وراء الأسوار" ثم حديثه عن الأطراف المعنية، يستمر الأب في السياسة والأحداث اليمنية حتى مقتل الابن عام 1974م في بيروت، ففي هذه المرحلة يتصاعد تأثير الإبن في الأب سواء في ليبراليته أو في موقفه السلبي تجاه الأحزاب بشكل عام واليسار وبشكل خاص الحركة الشيوعية, وكلاهما الأب والابن حملا أيدلوجية الرعوي "المزارع" الذي يجب تمثيله في السلطة عبر أعيانه ووجهائه, هذا المزارع الذي طالت فترة اقصائه من خلال اقصاء مشايخ الزراعة، وبيت النُّعمان على رأسهم, قد حان الوقت لكي يكون شريكاً في السلطة عبر تمثيل عادل للمناطق, فالهوية الشافعية التي يتحدث عنها البعض ليست أكثر من جغرافيا وتمثيلاً لمنطقة "الحجرية" أي للمكان الرعوي, فالشيخ في تعز وفي الحجرية حتى يومنا هذا يعرِّف نفسه بأنه "مزارع".
لم تظهر الهوية الشافعية بالمعنى المذهبي في الخطاب الاعلامي إلا كصناعة "عثمانية" ثم بعد ذلك "مصرية" وتحديداً في دور "البيضاني", وهو خطاب لم يفلح في ترسيخ هوية مغايرة للمكان, فإذا كانت "الزيدية" و"الشافعية" قد تحولتا إلى انتماء "جغرافي" وليس عقدياً؛ الأولى بعد الثورة والثانية بعد امتداد المملكة المتوكلية في العشرينات من القرن المنصرم، فإن الزعم بهوية مذهبية ينفيه الواقع الذي زحف عليه المذهب "الوهابي" منذ أربعينيات القرن العشرين وبدعم سعودي وانجليزي, وليس غريباً ألا تجد من مشايخ الشافعية في تسعينيات القرن المنصرم سوى "الشيخ محمد حزام المقرمي والشيخ عبدالواسع الذبحاني"، ولا يطل علينا القرن الواحد والعشرين إلا والشافعية المذهبية قد تلاشت وحلّ محلها على امتداد اليمن "المذهب الوهابي" إذا جازت تسميته بالمذهب.
لقد تم التضييق على مشايخ الشافعية في الأربعينيات في عدن لصالح البيحاني وتلامذته وهو تضييق استمر حتى جاءت المعاهد العلمية في اليمن لتقضي على ما تبقى منه. وهو ما يجعل القول بهوية "شافعية عقدية" ضرباً من التخييل الذي يتنافى مع حركة الواقع.
يتجسد الدور التنويري للأستاذ النُّعمان من خلال تحوله إلى علوم العصر في الثلاثينيات في تربة ذبحان بعد أن أصبح وريثاً لطريده (محمد أحمد حيدرة) ثم دوره التنويري في "حجة" وفي مدرسة بلقيس. ولعلّ تلميذه الدكتور محمد عبدالملك المتوكل الذي درس على يديه في حجة حيث كان والده عاملاً لها، هو الأقرب شبهاً بأستاذه في طريقة تعامله مع التغيير وفي جمعه بين صفات تقليدية وأخرى تنويرية، وفي عدم ميلهم للعنف وفي الوسطية في المواقف والنزوع إلى النصح والإرشاد بالتي هي أحسن.
يصوِّر لنا الشامي بعض الملامح الشخصية للنعمان وذلك من خلال سرده لمشهد النزاع على الذهب الذي حصلوا عليه من ملك السعودية آنذاك بعد انقلاب 1955م, خاصةً وأن علاقتهم بالملك فيصل قديمة تعود إلى ثلاثينيات القرن العشرين.
ويصوره "محمد الفسيلـ" بلغة لا تخلو من الإجحاف بالشحيح والمستأثر بأموال "الأحرار" في عدن. ويصوره محبُّوه برجل التنوير والعقلانية وربما يعيدون تأويله براديكالية عقلية ربما تكون مغايرة لحقيقة الرجل الذي كان يتغير ويتطور كلما دعت ضرورات التغيير وفقاً لقدراته المعرفية والنفعية، ووفقاً لظروف الواقع الموضوعي سياسياً واجتماعياً ومعرفياً منذ أواخر العشرينيات وحتى عام 1974م، عندما أصبح غياب الابن غياباً للأب...