سلطة تلجأ لأدوات القمع، ومعارضة تحمي عقمها بالتركيز على الخصم.. اعتراضاً على إهدار التحولات

سلطة تلجأ لأدوات القمع، ومعارضة تحمي عقمها بالتركيز على الخصم.. اعتراضاً على إهدار التحولات - نبيل الصوفي

غدا، أيها القارئ العزيز، سنكون عند نقطة اكتمال عام على أول انتخابات رئاسية عربية كان الجدل فيها كليا بين كتلتين معتبرتين. صحيح لم تتمكن أي منهما من تحويل المهرجانات إلى لحظة عصف بالتحالفات، بحيث تتسع تحالفات "القضايا" وتضعف تحالفات "المواقف"، غير أننا في النهاية وقفنا على بداية طريق تمكين الجماهير من أن تكون أداة لصنع السياسة والاتفاقات والاختلافات. بل وفي العام العربي الذي اعتاد على إبقاء العلن والجماهير وسيلتين فقط للصراع خارج السياسة، فيما لقضايا المجتمعات الكبرى الغرف المغلقة.
اليوم وبعد عام من سبتمبر ذاك، لا نبدو إلا مهددين بأن لا يكون أمامنا سوى "شرور" لنا حرية الاختيار بينها. أو لنقل توقعها "في انتظار وافدٍ مجهول أكثر شراهة"، وفقا لصاحب هذه الصحيفة الأسبوع الماضي.
مخاوفي، حتى أنضبط أمام القارئ، لا علاقة لها بالخوف على الوحدة، ولا على الجمهورية. ولكن فقط على التعددية الجماهيرية التي أنجزتها لنا جهود علي عبد الله صالح وفيصل بن شملان، حتى العشرين من سبتمبر الماضي.
فخيالي يحتمل ثلاثة خيارات:
- عودة الديمقراطية اليمنية إلى قواعد التحالفات الفوقية التي قد تحقق الاستقرار ولكنها لن تثمر حرية ولا تنمية.
- نجاح الرئيس علي عبد الله صالح وحكومته في القفز للأمام، سواء من خلال استغلال العبث الذي يتلفع بالمواجع الشعبية، ويقدم خطابا لا تعني حدته سوى الاستسلام للتوجع، أم من خلال معالجات حقيقية، أم حتى من خلال "صبر ساعة" حتى انكشاف هشاشة التحالفات المخاصمة.
- إفراز قوى جديدة، ليست مبرأة سوى من التجربة. بمعنى أنها تجمع خصائص السوء الذي أوصلنا للراهن، وكل طموح اليوم في إعادة رسم التحالفات.
الاحتمال الأول سيعني "خذلان" الديمقراطية، والعودة للاتفاقات والاختلافات "النخبوية"، والأخيرة لم تحقق لأي بلد أي تنمية، حيث تظل القضايا مأسورة لحسابات قدرات تلك النخب على الحصول على مكاسب. لا أقول مكاسب شخصية، بل مكاسب وطنية، لكنها تظل محكومة بالوقت، حتى يقدر أي من الأطراف القفز على شريكه، ما يعني القفز على تلك المكاسب.
ومن هنا، فإن أثمرت الفعاليات الراهنة وخطاباتها تحالفات حزبية قديمة أو جديدة، فإنها لن تكون سوى شهادة أنيقة على عجزنا عن أن نقود تحولا ديمقراطيا. ومن ثم سنصبح جميعا "في مخزن" التسلط، يحمي بعضنا بعضا من ضغوط الناس والقضايا، ملتزمين لقاعدة إما تحالف ينتج استقرارا، وإما اصطراعا يهد البيت على رأس ساكنيه.
أما إن أثمرت الاحتمال الثاني، فإننا سنكون خطونا خطوة كبيرة نحو القبر العربي، الذي سقطت فيه المجتمعات والأحزاب، بسبب عجزها عن حماية التوازن الذي تثمره التعددية، ومنحها الحزب الحاكم، أو الحاكم بدون حزب، قوة أكثر من قدرته على استخدامها.
أما الاحتمال الثالث، فإن الأمر لن يعني إلا أن "العجوز" من التحالفات، قد جدد شبابه "وخطابه" لخنق جنين التحولات الذي ولدته أخطاء السلطة وانتقادات المعارضة، أو العكس، خلال قرابة نصف قرن من الاستقرار السياسي الجزئي. أتحدث عن سنوات بلا ثورات ولا صراعات عريضة التحالفات في اليمن سواء الموحد أم أيام التشطير.
إن نشوء أي قوى سياسية تعتمد التثوير المناطقي ضد مناطق أخرى، ليس فقط لن تحقق النجاح، بل وستمنع خصومها من النجاح أيضا. وأي تحالف بين "المناطقيين" لن يعني إلا وأد "التعايش الموضوعي عبر تعايش الخائفين"، الذين لا يجمعهم سوى "الخوف من الآخر"، حين يتجاوزه فإن صراعا لازما سينشأ لوراثة الخصم القديم.
وأي قوة لجماعات تتبنى الحقوق، ولكن كأيديولوجية سياسية ضد الخصم السياسي، فإنها ستكون قوة مجددة للقمع، عبر الجماعات ذاتها.
إننا بحاجة لمزيد من الفعالية الحزبية في الحكم والمعارضة، وعبر الفضاء المفتوح (الشارع والناخبين). لكنها الفعالية التي تضبط الأداء بالهدف، وتتمسك بهدف مزيد من الانتقال للشارع ليس كأداة للصراع والثورات، بل لرسم ملامح التحالفات وفقا لحاجات البلاد من الإصلاحات، تحالفات لا تهدد الخصم بأدوات القمع ولا بخطاب أخلاقي هو كلما ادعى النزاهة والمستقبلية معطوب القدرة على أن يكون مستقبليا (لست بحاجة للقول أن الأول ينصرف للسلطة فيما الثاني ينصرف للمعارضة)، فليس أسوأ من إعمال السلطة لأدوات القمع إلا خطابا معارضا يدعي العصمة، ويقيم الآخر بما لو قُيم به هو لكان "سوءا خالصا".
nbil