الإخفاء القسري بين عنف السلطة وصمت الأحزاب

الإخفاء القسري بين عنف السلطة وصمت الأحزاب - محمد ناجي أحمد

عندما تفتح «النداء» ملف المختفين قسرياً، فإنها تمارس بهذا الفعل تعرية مزدوجة في دلالتها؛ فهي من ناحية تظهر مدى بشاعة الأنظمة التي مارست هذا الفعل وما زالت تتكئ عليه كرأسمال للسيطرة على نوايا الانفلات من هيمنة الدولة البوليسية، وكرغبة في مقاومة ما يراه البعض من تفتت للصورة التقليدية للدولة البوليسية.. لكنها في دلالتها الأخرى تشير بإصبع الإدانة لحالة الاطمئنان والنسيان الحزبي لهؤلاء المختفين وتحويل قضيتهم الى قضية أسرية لا تتجاوز اهتمامات الاسرة الصغيرة!!
ولعل الملف وهو يثير هذا الارباك في خروجه من الأطر الحزبية التي عملت على تجميده وإقصائه، وانتقاله الى حيز القضايا العامة، يشير إلى واحدة من الإشكاليات التي اعتورت الفكر القومي واليساري بشكل عام، إذ إن الاهتمام بالشأن العام والقضايا الكبرى، المتمثلة بالعدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية وتكافؤ الفرص وبناء مجتمع نموذجي يتجاوز الحدود الضيقة ممتداً الى جغرافية الوطن العربي والي فضاء أممي يتحرر فيه الانسان من كافة أشكال الاستغلال. هذه الاحزاب وهي تتصدى لمثل هذه القضايا الكلية لم تكن ترى في الانسان ذلك الفرد، وإنما تلك الجموع الغفيرة التي خاطبوها في بياناتهم بالجماهير والشعب وتحالف قوى الشعب العامل والعمال والفلاحين، لم يكن في أذهانهم ذلك الفرد العياني سواء بحريته الشخصية وتميزاته الفردية او حاجاته ومهاراته المختلفة، بل كان يتم تقليم قدرات الفرد لتكون متماهية مع البناء العام والأداء العام! كان النظر دوماً ينصب الى الفرد باعتباره متماثلاً ومتماهياً مع المجموع ومضحياً من أجل «الشعب والأمة والجماهير والحزب والجماعة والتنظيم».
ولهذا يكون مآله النسيان عند قتله أو سجنه، وهذا والوعي لا يختلف كثيراً مع الفكر الجهادي الذي لا يعبأ بمصير «الانتحاري»، وإنما بتنفيذ المهمة الموكلة إليه فما يبقى في الذاكرة لهذا المختفي أو السجين ليس المطالبة بمعرفة مصيره وتحريره من النسيان وإنما مدى صلابته في مواجهة أدوات التعذيب، في قدرته على تحمل آلام التعذيب النفسي والجسدي حتى تظل الجموع الحزبية بمنأى عن ما يتعرض له هذا المختفي ليس هناك أدنى تفهم لهذا الفرد إن ضعفت قواه وخارت تحت نير التعذيب. المطلوب منه أن يستمر في صمته وحمايته للآخرين، المطلوب منه أن يستمر في صمته وحمايته للآخرين. أما أن يحمي نفسه فهذا مرض وأنانية وخيانه لا تنساها الذاكرة الحزبية! والمشكلة أن الجميع بمن فيهم أسر المختفين يتواطؤون في اجتراح القصص الأسطورة التي تسرد للأجيال قدرة الأسير وصلابته في مواجهة ماكينة التعذيب. ليس هناك التفات الى أنائهم وبكائهم. الى حقيقتهم البشرية، الجميع
يتحدث عن سجين أسطوري فوق البشري؛ المطلوب من الأسير أن يصمد في مواجهة اللطمة الأولى بعدها لا يحس بأي شيء، هكذا يتم تهيئة الكوادر الحزبية لتهيئ نفسها كمشروع سجين!!.
أن تتطرق «النداء» لأكثر من ملف إنساني وحقوقي وتتلاشى لديهم الحدود بين المهنية والإلتزام. وهي ممارسة من صميم الاهتمامات اليومية للكادر الحزبي مثل قضايا اللاجئين والاطفال المشردين والمساجين المعسرين وغيرها من الاهتمامات التي دأبت «النداء» بالولوج إليها ومتابعتها بمثابرة وكد يومي. كل ذلك قد يكون «مربكاً ومشوشاً» للأحزب، لكن سحب ملف المختفين قسرياً من أرشيف الخلية الحزبية فهو وبالتأكيد عمل يوقظ لديهم ضميراً وشعوراً بالذنب ما كانوا بحاجة اليه في هذه الأيام التي انتقلوا فيها الى العمل العلني، دون أن يحركو ساكناً في نظرتهم للفرد والحريات الشخصية والتسامح (بالمعنى المعرفي وليس الاخلاقي)، لم يعيدوا النظر في أشكال الإكراهات التي يتعرض لها الفرد الحزبي؛ ممايجعل الحزب مماثلاً للسلطة التي يعارضها ويحذو حذوها.
إن القارئ في ملف المختفين يذهل من كمية الاستنزاف التي مارسته الانظمة البوليسية، وما زالت، لتلك الكوادر الشابة المتقدة في حركتها وخيالها الإبداعي. فهم بمقدار ما يخربشون على الأوراق أشكالاً فنية وقصائد شعرية هاجسها اعادة خلق الواقع، كانوا يرسمون بحركتهم ووعيهم اليومي أملاً بمستقل ليس فيه جائع ولا خائف ولا جاهل هكذا هي الأنظمة القائمة على التسلط وعلى وعي القبيلة الأناني المتفرد بالسلطة. فكما أن نظام صنعاء قام على تفرد القبيلة في (5 نوفمبر 1967) كذلك كان التفرد الشمولي في الجنوب شيئاً من الموازاة في تغييب الفرد المختلف والحالم؛ تنتصر القبيلة فتبدي أدوات القتل والإخفاء بعقلية القبيلي الذي لا يرى أبعد من أنفه، فهو لا يتماهى مع المصلحة العامة ولا تعني له شيئاً إلا من حيث اعتبارها «فيداً» يضاف الى رصيده، ولهذا يلتهم اليمن الأسفل في عشرينيات القرن العشرين بعد خروج الاتراك، ويستولي على أجود الأراضي الزراعية في إب كهبات من الأئمة وحق اكتسبوه بالحرب، ويسقط «1948» و«يتفيد» صنعاء استباحة للأموال، ويتوزع الأدوار بين الجمهوريين والملكيين والسعوديين والمصريين، ويحرص على التقاط الصور التذكارية مع الأطراف المتصارعة، ويدعو الله أن ينصر «الملكية للنص والجمهورية للنص» حتى يرتب أوراقه متفيداً الوطن بأكمله. وكذلك حال الحزب في الجنوب الذي وإن كان مدنياً يحلم بوطن للجميع إلا أن هذا الجميع بالنسبة له هو المتماثل والمتشابه مع كائنات «جورج أورويل» في «مزرعة الحيوانات».
يقرأ البعض ملف المختفين من خلال (منظور يماثل بين القاتل والمقتول بين الضحية والجلاد؛ بحجة أن المقتول هو قاتلل بالنية والإمكان. وبالتالي فكلاهما متساويان في ميزان الادانة!! ويتجاهل هؤلاء أن القاتل لم يكن يحلم بوطن للجميع وإنما وطن يتمدد فوقه وحده، ولم يكن يرى في الوطن والدولة والأمة سوى ذاته. ولأنني لا أجد في هذا المنطق سوى شكلٍ من التوطؤ مع الجلاد؛ بغرض إسقاط الحق الشخصي والعام، بل أجد في هذا المنطق نسياناً مادياً ومعنوياً لقضية المختفين. فبعد أن تم إخفاءهم كقضية عامة من قبل أحزابهم، يراد لهم اليوم أن تطوى صفحتهم ليبدأ الجلاد باجتراح جرائم جديدة، متخففاً من وخزات وأصوات أسر المختفين!
إن فتح هذا الملف جعلنا في حالة مواجهة ومكاشفة مع أزماتنا سواء في نظرتنا الفرد والحرية بشكل عام أو توطؤنا مع اشكال العنف والإكراهات التي تنتهجها السلطة في تجذراتها المختلفة.
يبقى على «النداء» طالما قد تصدرت لهذا الجرح، أن توسع الخرق لتتناول قضية المهشمين نفسياً وجسدياً بسبب الاعتقالات التي تعرض لها الآلاف ونالت من كيانهم الجسدي والنفسي وحولتهم الى كائنات مشلولة، هم بالتأكيد علامة أخرى على جريمة ما زالت قائمة بيننا.