في القطيعة الأبدية التي آلت إليها علاقة الرئيس بالإصلاح بعد علاقة ود وشراكة دافئتين جمعتهما قرابة ربع قرن.. انفراط مدوٍ.. انفراط مطلق

انتقضت علاقة الرئيس بالإصلاح عروة, عروة. كانت " مصيرية", مثلما وصفها الأول في 1999, فانتهى بها المطاف الى "عدائية" محضة.
في 26 يوليو الفائت, خرج التجمع اليمني للإصلاح على سجيته السياسية، المتريثة على الدوام، والتي درجت عليها العادة.
 فلئن كان المحرر السياسي, في صحيفة "26 سبتمبر", يتوسل لغة ودودة، فإن كلمة "الصحوة"، بعد10 أيام، دُبجت بلهجة خارقة للمعهود، لم يألُ الإصلاح جهداً لتفاديها.
الأزمنة، ولا ريب، تغيرت رأساً على عقب. وهذا ما لم يأبه له، مطلقاً، محرر "سبتمر" السياسي, في حين كان الذي أنيط به صوغ كلمة "الصحوة" أكثر إحساساً باللحظة، وأكثر من ذلك: متلاشياً في خضمها المحتدم، والرجراج.
 في 16 يوليو المنقضي، ووسط النصف السفلي لصفحة "26 سبتمبر" الأولى, داخل مستطيل مطلي بالأصفر، كتب المحرر السياسي: "حذار اللعب بالنار".
كان قد فرغ المحرر لتوه من ديباجته المقتضبة، عندما طفق، بنبرة تتوخى الصفح، يستلطف الإصلاح. ففي الوقت الذي أوسع الاشتراكي تقريعاً وتوبيخاً, بسبب "عمل ممنهج متواصل وغير وطني من قبل جماعات انفصالية وانتهازية في الحزب الاشتراكي لتحقيق غايات للنيل من الوحدة والسلام الاجتماعي"، فإن المحرر راقه بشدة أن يستحضر، في مقام الإنصاف غير البريء، التجمع اليمني للإصلاح "الذي سجل موقفاً وطنياً مسؤولاً ومشرفاً, في الوقوف في خندق الدفاع عن الوحدة, والتصدي للمتآمرين عليها".
لكان هذا الإنصاف "غير البريء", منقياً جيداً لأفق علاقة الإصلاح بالنظام, الآخذة في التلبد، لو تلفظ به المحرر، قبل بضع سنوات، أو نحوها.
طيلة الشهرين المنقضيين (يونيو، يوليو)، تنامت فيالق المتقاعدين في الجنوب. وفي كل مرة يزداد صوتهم علواً، حتى بات صوتاً لكأنه غير مبالٍ بالمآل الذي سيفضي إليه في نهاية الأمر.
ولا بد أن الموقف الجمعي لتكتل المشترك، لا يعتد به كصيغة قطعية، ونهائية، تترجم موقف الإصلاح؛ إذ لا ينفك البعض عن أن يعتقد أن قول الإصلاح المفرد وحده هو الذي يستبطن "مسلكه السياسي", عادة.
نحى الحزب المحكم في معماره الهرمي التراتبي، منحىً متوائماً مع بقية أطراف المشترك, لدى تعاطيه مع قضية المتقاعدين: الاستجابة لمطالبهم, وتسوية آثار حرب 94, والسماح لهم بالتظاهر سلمياً.
ما هو حري بالتمعن, هو أن "الصحوة"، و"الصحوة نت" اختطتا، لدى تغطيتهما لاحتجاجات المتقاعدين، درباً صحفياً, ظل يتحاشى رصد ما كان يشوب هاتيك الاحتجاجات، من شعارات "جامحة" و"لاغية للوحدة", (كذلك فعل "الاشتراكي نت"، و"الثوري"، و"الوحدوي"), تماماً كما هو ديدن صحف السلطة، حينما تغفل مطالب المتقاعدين، ولا تكف، بالمقابل، عن صب جام غضبها على "شطحاتهم", كما وتستمرئ ضبط مدى جنوحهم عن المسار, الذي كان ينبغي ألا يبارحوه، قيد أنملة.
إذاً، خلافاً للمألوف، نزلت كلمة "الصحوة" وهي تضج بكل ما هو مثير للدهشة. ما يعني أن إشارة "26سبتمبر" لم تلق الصدى المرغوب. آزرت، كلمة "الصحوة"، المتقاعدين، وبصيغة مدججة بالنص "الشرعي". وبدا كاتبها كما لو كان يؤرخ لتعبير سياسي مغاير، لكنه أشد حزماً وحدَّةً و"براجماتية".
فما إن يبدأ المرء في قراءة فقرتها الأولى، حيث أعفت جملة وتفصيلاً، المظلوم من "الالتزام الأخلاقي والقانوني"، إلا وتتملكه الرغبة في العثور على جملة واحدة تستقبح أياً من "هتافات" المتقاعدين التي تفوهوا بها "كمسايرة لجحود السلطة", غير أن شيئاً لن يُعثر عليه.
لطالما نافح الإصلاحيون عن الوحدة. وكان محمد اليدومي لا يفتأ يحذر من المساس بالوحدة، وإلا فإن الإصلاح "سيشعلها من المهرة إلى صعدة", حسبما قال في مقابلة صحافية قبل بضعة أعوام.
الثابت أن أيديولوجية الإخوان المسلمين عابرة للحدود القومية، وآية ذلك أن فكرة الدولة تنبذها المنظومة النظرية للتنظيم العالمي، بل وتزدريها.
فهل "كلمة الصحوة" دالة على أن الإصلاح لا يحفل بالوحدة؟ أم أنها ليست إلا واحدة من تجليات الانفراط المطلق, والمدوي, الذي يقوض شراكة الرئيس والإخوان المديدة، يوماً عن يوم؟
ليس من شك في أن الإصلاح نزّاع للتوحد, والقول بغير ذلك منافياً لأي منطق، عدا أنه لا يعود في وسعه تمضية مزيد من الزمن, كما يبدو, في لعك الأمثولة الذائعة التي مفادها: "المؤتمر فاسد ورديء، لكن الرئيس.. لا"، وهي ذاتها التي سرت كالنار في الهشيم، وما تزال تتحكم في مساحة شاسعة من الوعي الشعبي حتى اللحظة.
وعندما كان الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر يتحدث في 3 فبراير 1996 لجريدة "الحياة" اللندنية، بأن علاقة الإصلاح بالرئيس صالح أقوى من علاقته بالمؤتمر وأعمق، لا بد أنه كان يعني ما يقول، تماماً.
 لم يدر بخلد الشيخ أن النهاية، نهاية الشراكة "الأقوى والأعمق"، قد أزفت. "هناك قيادات في المؤتمر تسعى لإثارة الخلاف مع تجمع الإصلاح"، أضاف الشيخ لـ"الحياة". لكأنه كان يحث حزبه على الصمود أكثر لاستبقاء زخم الدفء الذي انغمس فيه الإخوان مع الرئيس منذ اعتلاء الأخير سدة الحكم.
غواية الخصم المشترك
حينما كان علي عبد الله صالح يمضي عامه الثاني كرئيس لليمن الشمالي، كان اليساريون يقضمون كسرة لا بأس بها من الرقعة الجغرافية للدولة. وآنذاك استطاع الإسلاميون الظفر بموطئ قدم سياسي مجزٍ.
الرئيس يتمتع بممكنات المراوغة السياسية. فعلاوة على أنه ميال لاقتناص الفرص إذا ما سنحت، هو أيضاً يجيد لعبة عقد الصفقات والعلاقات. وبالمقابل هو يحترف فسخها متى ما تسنى له ذلك.
بأي حال, عندما صعد "صالح" إلى الرئاسة ألفى نفسه في خضم بحر من المتاعب. ففي حين كان اليساريون يتأهبون للانقضاض, لم يكد ينتهي بعد من تفكيك انقلاب تزعمه الناصريون، مني بالفشل.
تاريخياً, لم تكن علاقة الإخوان بالناصريين على ما ينبغي. وعقائدياً ما فتئ الإخوان يناصبون الماركسية العداء, والعكس بالعكس. وعلى ذلك, لم يتبق، والحال هكذا، أمام "صالح" والإخوان سوى أن يلوذ أحدهما بالآخر.
إذاً توفرت، ببساطة، كافة الشروط الموضوعية التي تقتضيها التحالفات السياسية الفتاكة.
في 1979 تقاطرت القوى اليسارية على المناطق الوسطى. تلك القوى تزخر بعتاد قتالي رهيب. فوق ذلك هي لا تفتقر إلى عتاد "إيديولوجي". ذلك أن ذينك العتادين: القتالي، والإيديولوجي، اجتاحا العالم بأسره.
ومهما يكن من أمر، فقد اعتقد الإسلاميون - بوصفهم النظير "الضدي" لليسار- أنه ألقي على عاتقهم مسؤولية الذود "عن حياض الإيمان". وبالطبع خاضوا حرباً ضروساً، كان الرئيس "صالح" في أمس الحاجة إليها.
في تلك الآونة انهمك الإخوان، إلى جانب كونهم يقاتلون في "الجبهات"، في نسج علائق متينة مع رموز قبلية, كانت بمثابة الروافع السياسية لنظام الحكم. وأكثر من ذلك: بدأوا يجنون بعض الامتيازات التي رتبتها هزيمة الجبهة اليسارية (قد نستطيع القول إنهم تقاسموها مع الرئيس, لكن في حالة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر فقط).
على الرغم من كل شيء، ظلت العلاقة في مستوى متين، بل وآخذة في النماء. فبعد أن تبادلوا قدراً لا بأس به من المنافع، تبادلوا كذلك النوايا الحسنة.
إنه, ومثلما أضفى الإخوان مسحة إسلامية على دستور الوحدة، أضفوا, قبل ذلك، أي في 1982، على الميثاق الوطني ملمحا إسلاميا طاغٍيا، وحملوا بقية القوى، التي انضوت تحت لافتة المؤتمر الشعبي العام، على الإذعان لكون الميثاق ذاك هو الصيغة النظرية لهوية اليمن السياسية, وفي كل مرة كان الرئيس يغض الطرف، إن لم يؤازر مسعاهم.
بالتأكيد وجد الرئيس في الإخوان ضالته: احتياطيا أيديولوجيا في أوج عنفوانه. وبالموازاة هم وجدوا في دنوهم منه ما يصبون إليه: توطيد أوتاد فكرتهم، وتغلغهم في النسيج الاجتماعي والسياسي.
وإذ كان الرئيس "صالح" في فبرار 1983، يتحدث همساً، عن عزمه على التنحي عن الحكم، فإن الإسلاميون حشدوا أنصارهم وجابوا شوارع صنعاء وتعز والحديدة لإثنائه عن قراره. حتى أعيد انتخابه في 23 مايو 1983 من قبل مجلس الشعب التأسيسي.
على أية حال، وفيما كان الإخوان يضمرون تجاه الرئيس شعوراً بالعرفان والامتنان، ويتوخون مبادلتهم الشعور نفسه, فإنهم لم يغرهم هذا الشعور كي يجازفوا بإلغاء المسافة الفاصلة والضئيلة، التي ظلت ترسم ملامحهم بعيداً عن الحاكم. ولئلا يحدث ما ليس في مقدورهم هضمه، بقي فريق آخر يرقب عن كثب مدى هذه المسافة ويتدخل في ضبطها. إن أحداً لا يعرف ما الذي كان يضمره لهم الرئيس.
فبإيعاز منه، وعلى حين غرة، تزعم عبد الملك منصور نائب المراقب العام حركة انقلابية ناعمة، على المراقب العام ياسين عبد العزيز، عندما أرغم الأخير في 1984 على الفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية, لشغل منصب الملحق الثقافي, كيما يتسنى له دمج كوادر الإخوان في إطار المؤتمر الشعبي العام، ما يعني التغاء الحد الفاصل الذي يجب أن تنتهي عنده العلاقة.
 الإخوان تجاوزوا المأزق، وباءت محاولة منصور بالإخفاق (تم فصل طاقم الانقلاب من الجماعة, واستوعبوا في مواقع قيادية لدى نظام الحكم).
بدأ الحذر يلف الموقف. وأدراك الإخوان قيمة أن تكون هناك مسافة "حمائية" كافية، تقيهم نوائب السياسة.
رفدت المعاهد العلمية حركة الإخوان بذخيرة ضخمة من الأعضاء، وهو ما أثار توجس الرئيس.
وفي 1985 صدر قرار بتشكيل "المجلس الأعلى لتوحيد المناهج التعليمية"، لكنهم قاوموا هذا القرار بجلد حتى جمدت الحكومة مشروع الدمج في عام 1986(دمجت لاحقا في 2002).
في 1990 كان عود الإسلاميين قد اشتد، وزاد صلابة. فحالما التأم برلمانا الشطرين في 21 مايو1990 (كلاً على حدة) لإقرار مشروع دستور دولة الوحدة، غادر ممثلوهم في مجلس الشورى، القاعة احتجاجاً على عدم تلبية مطالبهم, المتمثلة في تعديل بعض نصوص الدستور.
بعد عام 1990 استمرت غواية الخصم المشترك تداوي ما تهدم من المنظومة البنيوية للتحالف المفعم بالغموض. تضعضع ذاك التحالف وترنح لكنه لم ينفرط. وفي 1994 اصطف الإخوان، امتثالاً لمشيئتهم السياسية, بعد أن أصبحوا حزبا، في معمعة قتال, لكسر شوكة الحزب الاشتراكي.
ظنوا أنفسهم, في أعقاب الحرب, شركاء, لكنهم كانوا "كرت" ليس إلا. استفرد بهم الرئيس بعد ذلك، وألقى بهم بعد انتخابات 1997 إلى هامش اللعبة. ذاقوا العلقم، لا شك، إلا أنهم استوعبوا الدرس. وراحوا، بخيبة أمل موجعة، يتلقون الضربة تلو الأخرى، لكن هيهات، فليس من السهل إطفاء جذوتهم.
التزموا "تكتيكاً" سياسياً حصيفاً: الانضمام إلى تحالف آخر مع فرقاء سياسيين مغايرين، يقوم على فكرة كون الرئيس خصماً مشتركاً للجميع (اللقاء المشترك), باعتبار ضرره طاولهم على السواء.
الحال أن التجمع اليمني للإصلاح بدأ يفعل ما يفترض به. فعندما اندلعت حرب صعدة في 2004، لزم الصمت. وكان ينتظر أن تستدرجه تلك الحرب إلى قعرها.
الآن الجنوب موَّار بالتظاهرات والشعارات, والتي كانت في ظرف زمني آخر، لتحرض الإصلاح على محاكاة مواقف السلطة، سيما فيما خص الوحدة، غير أنه أصاخ سمعه لمطلبية المتقاعدين، وأرجأ حديث الوحدة إلى أجل ملائم.
 ما يبدو أنه مؤكد هو أن الرئيس هو الآخر يذوق مرارة انفراط العلاقة, والراجح أن يبذل مجهوداً كبيراً كي يبدو غير مكترث.
alalaiyMail