The Village*

خمس دقائق فقط بين قريتي، وادي الضباب، ومركز المدينة: تعز. خمس دقائق، بأي وسيلة نقل، بمقدورنا اعتبارها جسراً بين زمنين: وادي الضباب، غافياً في القرن الثاني عشر الميلادي، ومدينة تعز، ظامئة على مدخل الثامن عشر. يحيط بهذين الزمنين مجرّة من بلدان العالم الخارجي تنتمي كلها إلى القرن الواحد والعشرين، "إلا أنتِ!". سكّان قريتي ليسوا كثيرين في العدد، ومع ذلك فهم قادرون على حسم نتائج الانتخابات دائماً لصالح شيخهم، الذي هو ترس صغير في ماكنة كبيرة اسمها حزبُ الحاكم. ليصب أبناء قريتي الطيبون، نهاية الرحلة، في ذلك الثقب الأسود العظيم، حفاة ووحدويين. تماماً كما يفعل مجرى مائهم الوحيد: الغيل، حين يبلغ به الجهد مداه فتشربه ناقلات عملاقة تتجه به إلى المدينة لتنقذ سكانها من الموت عطشاً. الموت الذي لن يدفعه عنهم أمين عام المجلس المحلي، بقلابه الديهاتسو الوحيد. رأسمال مال شركته الجامعة المانعة التي تسلّمت مقاولات "ترميم قلعة القاهرة" دون أي عناء يذكر سوى إشارة لائمة من السيد الرئيس في تعز "مش كل واحد عنده قلابْ يفتح شركة مقاولات". قول ولا تخبيش يا زين، إيش تقول العين للعين.
 هذا مكتسب أبناء قريتي الوحيد من الوحدة والثورة: ناقلات عملاقة تشفط مخزونهم السطحي من الماء، تتبع أسماء بعينها ربّما من بينها شيخ القرية نفسه بصورة متخفّية. ستعمل الناقلات، بعد ذلك، في سوق الماء السوداء في مدينة تعِز. بينما ينشغل أبناء قريتي بعدّ هذه الناقلات وحفظ أشكالها، ومنحها ألقاباً وأوصافاً كاريكاتورية، جنسية ومهذّبة وخرافية، فهذه هي المتعة الوحيدة التي يمتلكونها.
 منذ الثمانينيات وهم يأتون بمن يريده النظام اليمني إلى بيوت التشريع (أيّاً طَلِي). بلغ بأسُهم أقاصيه حين تغلبوا على راوح، وزير التعليم السابق، بعد أن وقع حظ دائرته ضمن مدى قريتي في تجربة توزيع جغرافي مخلّة لمّت الشامي على المغربي. حدث هذا في انتخابات الشورى، أيام زمان. وفاز ابن شيخهم، البالغ من العمر حينها 18عاماً، بنسبة حاسمة، على الدكتور راوح، الذي سخر منه أبناء قريتي طوييييلاً لأنه "دكتور"، وبتحريض من شيخهم السخي ابن الأصول "اللي مش دكتور"!
 ومنذ الثورة وحتى الآن، مرورا بالوحدة وكل حروب الاسترداد، لم تقدّم قريتنا أي طبيب أو مهندس أو محترف أي مهنة مرموقة، باستثناءات نادرة لا تصلح للمزايدة. ومما أتذكره بيقين أني قضيت في المدرسة 12 سنة: ست سنوات قبل الوحدة، لم أر فيها ضوء الكهرباء، وست سنوات بعد الوحدة درستُ فيها فيزياء الكاثود والآنود وتعرّفت على الحاج أديسون، والحاجة مدام كوري، والنسبيّة الخاصة والعامة، وبوناكاريه، ونظريات آينشتاين في الحيود، مروراً ببوهر، وحتى تيللر وأوبنهايمر، وصولاً إلى عبد القدير خان. ومع كل هذا فلم أر ضوء الكهرباء ولم أكن قادراً حتى على تخيّله. وربما كان الفارق الوحيد بين الفترتين، قبل الوحدة وبعدها، هو دخول النشيد الوطني الجديد إلى مدرستي وتحوّل مدير المدرسة إلى مديرة مدرسة. ما تصلّوا ع النبي يا اخونّا!
 لقد كان العام 1995 جوهريّاً بالنسبة لي. ففي هذا العام، وكنت في المرحلة الثانوية، أمسكت لأول مرّة بسماعة التلفون في سنترال عمومي إثر وصولي إلى مدينة تعز عن طريق الغلط. ويومها عرِقتُ كثيراً وارتجفت كثيرا. لقد كان الأمر بالنسبة لي شبيها بليلة الدخلة في قلب فلاح ملتزم. تحدّثت ورغيتُ أمام أهلي لأسابيع طويلة عن تجربتي الفريدة مع التلفون، وعن الثقة التي اكتسبتها. وكيف أني عندما عكست موضع السماعة والميكرفون لأول مرّة لم أسمع الصوت، وأني ما زلت أخشى أن يكون الصوت قد تسرّب إلى حلقي، وييييييع. بالضبط كما فعل أبي قبل ذلك بعشرين عاماً عندما عاد إلى القرية ليحدّث أصدقاءه ومحظيّاته عن الماء الساقع الملوّن الذي شربه في تعز، يقصد الكوكا كولا. مع العلم أن شركة كوكا كولا تأسست سنة 1887، وأن ثاني أكثر كلمة يتم تداولها في العالم، في اليوم الواحد، بعد كلمة okay هي "كوكا كولا". أما أنا فقد كنت محظوظاً، فحتى الأشغال الشاقة التي كنتُ أنجزها في البيت رُفعت عني لمدة أسبوع، أو أكثر، ومنحوني لقب: المتطوّر، بعد هذه المغامرة المخيفة.
 من يصدّق أن أبناء قريتي يعتقدون ويحلفون، الآن في أغسطس 2007، أنهم صوّتوا لمصلحة بن شملان في انتخابات الرئاسة، لكن شيخ القرية الطيّب غيّر نتائج التصويت عن طريق العوبلي والشعوذة والكرامات الصوفيّة التي يحرص على التزام خطاها وإفشاء بعضها، بحسب نميمة الشبان في القرية. وأن آخر بطل من أبطال كرة القدم، لحد علمهم، هو غوليت. حدثهم عنه مغترب رُحّل من السعودية منتصف الثمانينيات. كما يعتقدون، مثل صحيفة "الثورة" الرسمية، أن الملك فهد لم يزل قائماً على عرش السعودية. لذلك فهم يذكرون اسمه في دعواتِهم كما تعوّدوا منذ عشرين عاماً، عملاً بنصيحة عجوز في القرية امتلكت راديو قبل أن يصيبه العطب بعد ذلك بأسبوعين. ومع كل هذا فخيالهم شاسع وكبرياؤهم الشخصي مستمد من الأساطير. إنهم يتداولون بكل فخر حكايا الطاعنين في السن، من جدودهم، في حرب الزرانيق وحرب الإنجليز. ويعتقدون أن خضوعهم لجبروت شيخهم وسجنه ومصادرته لحقّهم في الاختيار بين المرشّحين في حفلات الزار، الانتخابات، إنما هو احترام لأعراف أسلافهم وحفاظ على ذاكرة القرية. وليس لذلك علاقة بكرامتهم الخالدة في عروق جدّهم، طين الوادي.
 قريتي حظّها تعيس جدّاً. وأبناء قريتي حظّهم لم ينزل من السماء بعد. فمثلاً: في عيد الأضحى الأخير، خرج طفل من أبناء عمّي للفرَح، للركض وراء حمارِ ما، لمشاكسة يمامة متعبة، للسخرية من الحضارة، للبصق في وجه التغيرات المناخية، لأي شيء آخر لا يقع ضمن المتع الشخصية للشيخ عبد الرحمن محمد علي عثمان. كانت اللحظة مرعبة، ومألوفة: شيخ يدهسُ طفلاً بسيارته الفاخرة. وبإنسانية منقوصة، يُرمى به في مستوصف لا تساوي محصلة خدماته تعريفة. ويعود الشيخ إلى مجلسه الملَكي في أعالي مدينة تعز ليتحدّث سرّا عن طموحاته بالفوز بكرسي المحافظ. صورة شبيهة بأفلام الـ"فامباير"، أو مصاصي الدماء. لكن.. ولا يهمك يا شيخ، هي جتْ عليك إنتَ يعني!
 وفي الوقت نفسه، بمصادفة صوفية، تنشر صحيفة "26 سبتمبر" خبراً: الانتهاء من تخطيط مشروع منتزه الصالح السياحي في وادي الضباب - تعِز، بتكلفة إجمالية تتجاوز ال750 مليون ريال. إيه الهنأ والعز ده كلّه!
 بيوت وادي الضباب، اللصيق بمدينة تعز، لم تدخلها الكهرباء ولا أي خدمة عامّة أخرى يفترض أن تقدّمها أي دولة تحترم نفسها وتعتقد بشرعيّتها. وبغياب الكهرباء فلا شيء آخر يؤكّد أن وادي الضباب يقع ضمن موجودات القرن الواحد والعشرين. أبناء الوادي لا يرتدون البناطيل لأسباب كثيرة منها النهي عن التشبه بالنساء، مع أنّي أجزم أن أحداً منهم لم يرَ امرأة ببنطال في حياته كلها، وأنهم لم يدركوا كم في بنطال الصَّبيّةِ من المتعة للفقراء غير القادرين على الزواج. بيد أن كبرياءهم لا يسمح لهم بالحديث عن السبب الحقيقي. يعني العين بصيرة واليد قصيرة، والفوطة فيها الستر! وإذا كانت المرة الأولى التي جلست فيها على كرسي، وكمان بلا ترابيزة، في المدرسة هي عندما كنت في الصف الثاني الثانوي، أي بعد الوحدة بخمس سنوات تقريباً، فإن الحال لم يتغير منذ تلك اللحظة حتى الساعة. بمعنى: بعد الوحدة ب17عاما. وعندما تكون الصورة بهذا الجلاء الفاقع، بهذه العتامة الأسطورية: لا ماء، لا كهرباء، لا خدمة صحية، لا تعليم، لا سوق، لا دخل، ولا حتى قات، بحسبانه الضامن الوحيد في اليمن لحركة السيولة المالية بين الريف والمدينة، لا موظفين، لا مغتربين. لا شيء من هذا كلّه. على أقدام هذا الرفات البشري، هذا الحطام الوجودي، هذه الملهاة الشيطانية، يتقرّرُ برغبة كاليجولية متوحّشة: منتزه الصالح في وادي الضباب! إنتَ إيه؟ مش كفاية؟ حرام عليك... للاستماع – للتحميل، أغنية نانسي عجرم.
 في قريتي لا يمجّد المسنّون أي حدث ينتمي إلى ما بعد الثورة أو الوحدة. وليسوا على استعداد للحديث النظري عن الوحدة كفكرة والثورة كمشروع تحوّل. فهم يعتقدون أن العناوين الكبيرة هي مطايا وأحصنة للمهووسين بالتوسع ومد النفوذ. يسخر أكبرهم سنّاً: لا أفهم من معنى الوحدة إلا أن أشخاصاً بعينهم كانت لهم ممتلكاتهم الضخمة في صنعاء، أصبحوا يمتلكون أمثالها في عدن. يقهقه: مش قالوا: "أمّنا صنعاء والأخت عدن". هاذي هي الوحدة، الأم ترقد بغرفة الأخت. أما جدّي، عاش 103سنة رحمه الله، فلم تفتر شفتاه وهو يتحدّث عن عدالة الإمام الذي أعاد إليه حقوقه بعد أن سيطر عليها المشائخ في صغره وصادروا وثائق الملكية الخاصة به. يستطرد في حكايته: قال لهم الإمام رحمه الله، عندما وصلته شكوى من فلاحين مضطهدين، وبعد أن أخذت حقي كاملاً "هؤلاء رعايا الإمام مش رعايا لأبو أحد فيكم". يسخر بلكنته الجبليّة: ذلحين تشتي تقول لي إن الجمهورية حقك تقدر ترجّع لي شبر واحد؟
 قليلون من الوادي استطاعوا أن ينتقلوا إلى حضرموت، بعد الوحدة، للعمل. تحصّل البعض منهم على فرصة، عاد آخرون، بينما تورّط الأكثرون فقراً منهم في أعمال سرقة وشبكات آداب، وذهبوا مع الريح. من كان في قريتي بمقدوره أن يصدّق أن شابا في العشرين، من أبنائهم، سيسطو على ممتلكات التاجر العمودي من الذهب، بآلاف الملايين، ليلة احتفال حضرموت بعيد الوحدة، الليلة التي مر فيها موكب الرئاسة الضخم على كورنيش المكلا، بينما كان الشاب المسكين يخترق المبنى المخيف من خلال نافذة جهاز التكييف؟ يتساءل الناس في وادي الضباب: ما هي نسبة المفقودات الثمينة التي استعادها العمودي من السجن المركزي، في تعِز، عقب القبض على اللص..؟ بالمناسبة، فالسجن المركزي يقع على بوّابة وادي الضباب، فيما يبدو أن الجمهورية ومن بعدها الوحدة قرّرتا بحكمة ما أن يكون السجن هو بوابة أهل هذه البلدة إلى العالم. يعني تطلع من القرية تلاقي السجن في وجهك. إيه اليوم النحس ده!
 لن أغلق النص، فبلدتي هي كل البلدات في اليمن، هي الفضاءات المفتوحة على كل مزالق الوجود، والجثث الطافية فوق أناشيد التحرير. وبرغم كل ما ذكرته فلا أتصوّر أن تفصيلة واحدة يمكن اعتبارها خاصة بقريتي مائة بالمائة. كلنا في الهم ضباب. وقبل أن أغادر سأعتذر إلى الكاتب العظيم رسول حمزاتوف: عزيزي الداغستاني الشاهق، أردت أن أرسم لبلدتي تمثالاً من النور كما فعلت فعجزت. ربما ساعدك الحظ الذي خانني، فأنت من بلد لا يغرق سادته في أحاديث الوحدة والنصر كما هو شأن بلدتي الكبيرة. كما أنّ بلدتي، على خلاف بلدتك، ضبابٌ عرشه على الماء.
thoyazanMail

 
* "القرية" هو عنوان لفيلم أمريكي 2004، عن بلدة محاطة بالغابات، وبأولئك "الذين لا ينبغي أن نتحدّث عنهم". يعيش السكان في القرن التاسع عشر، منفصلين عن العالم الخارجي تماماً. وعلى مسافة عشرة كيلومترات من القرية ينطلق القرن الواحد والعشرون بكل عنفوانه. دراما عبقرية لM. Night Shyamalan. لكنها دراما واقعية في وادي الضبابNight Shyamala>.n