ماذا لو أصبح ضريح الجندي المجهول معلوماً؟

ماذا لو أصبح ضريح الجندي المجهول معلوماً؟ - أروى عثمان

(1)
ما الفرق بين الغرفة السابعة السرية للجرجوف* والغيلان الجاثمة في حكاياتنا الشعبية التي تحذر البطلة /البطل من الاقتراب منها أو فتحها، وبين ضريح الجندي المجهول "السري" الذي ظل ويظل مجهولاً؟
لماذا يحذر الجرجوف زوجته/ فتاة الدوم /البطلة، من معرفة ما تحتويه الغرفة السابعة؟ ولماذا تحذرنا الأنظمة والسلطات من معرفة ما كنه الجندي المجهول؟ وما تحويه بطنه؟
لماذا السرية والمجهولية للغرفة السابعة ولضريح الجندي المجهول؟؟
(2)
غريزة المعرفة جعلت فتاة الدوم /البطلة /الزوجة تضرب بتحذيرات الجرجوف جانباً، لتفتح الغرفة السرية وتعرف حقيقة أنها غرفة الموت والدمار. كان ذلك من خلال رؤيتها لأكوام الجثث والأشلاء التي يتغذى عليها الجرجوف، كونه من آكلي لحوم البشر.
دفعت فتاة الدوم ثمناً باهضاً للمعرفة ابتداء من حالة الرعب /الصدمة، التي روعت بها عند اكتشافها ما تحويه غرفة زوجها الجرجوف، (الغرفة السابعة)، مروراً بتبعات ما بعد الاستكشاف، وحالة الشك التي انتابت الجرجوف عند مشاهدته التغير البادي على حالة زوجته، ثم تحقق شكه الذي انتهى به إلى يقين أن زوجته قد فتحت غرفته المحظورة وكشفت سره، وأخيراً ترتيبه للعقاب المناسب المعنف لانتهاكها المحرم والمغيب، التابو الجرجوفي (الغرفة السابعة).. أي ثمن المعرفة... إذ قام بقتل أخيها المنقذ لها، والى آخر ضريبة المعرفة التي دفعت ثمنها فتاة الدوم بطلة حكاية الجرجوف.
(3)
ماذا لو فكر كل واحد منا – المسألة لا تحتاج إلى بطولة تخرج من بطون الحكايات الشعبية وحزاوي الجدات، مطلقاً، فزمن البطولات قد انتهى - لكن أتحدث هنا عن غريزة المعرفة البشرية. ماذا لو قام أحد منا باقتحام مجهولية /سرية ضريح الجندي المجهول الذي شيدته الحكومات والأنظمة خصوصاً العربية والإسلامية، إذ لا يختلف عن غرفة الجرجوف السابعة.
ماذا لو تحولت الشعوب إلى شعوب "الدوم " لتمارس غريزتها في حب المعرفة، واقتحام المجهول.. ماذا لو؟

(4)
مثلاً:
< نتحرر من " الوطن" الذي لا يختلف عن الغرفة السابعة للجرجوف، بل هو الجرجوف ذاته، وهو الغرفة السابعة المحاطة بالكتمان والسرية. وطن، جرجوف، يتسلى بنا تارة باسم الدفاع عنه، وتارة باسم هتك لسيادته، وأخرى بحجة انهمار الأعداء الذين لا ينتهون، الطامعين في خيراته.
< أن نقول للوطن /الجرجوف: كف عن مناداة أبنائنا ليضحوا من أجلك، فتلتهمهم فداء لك، قرابين عند أقدامك، تلحسهم بـ"سبلتكـ" المشوكة لتشفي نهمك للموت والدم والأشلاء. نحن نتيتم، نستوحش، نبتلع غصصنا، التي تصنعها دوماً بإتقان، تهدينا إياها بانتظام لتزين أعيادك الوطنية. تكافئنا ببضعة ورود ذابلة من تحت علم ومارشات وأناشيد، وبضعة عسكر لا ندري ما كنههم، أنس، جن،جراجيف وغيلان؟ لا ندري.
< نقول لك: كف عن هباتك السخية بمكرمة أم / أب الشهيد. كف أيها الوطن عن نثر قصائدك وملاحمك التي تعطسها عقب كل معركة تمددها عند أقدام قبر الجندي المجهول.. لقد تعلمنا أن الجراجيف لا تصنع القصائد.
(5)
الوطن، الغرفة السابعة السرية، الغول، جرجوف الشجر والحجر والهواء... وظيفته الوحيدة استبدال كل ماهو حي أو حتى جامد بما هو جثثي، وفي لحظة ظهور منقذ أومخلِّص يلتهمه ليظل هو آلهة الدمار ومهلكة الفرح بلا منازع. يجبرنا جرجوفنا الأرعن أن نطبخ لحم أخونا / المنقذ، أن نتلذذ، كما يتلذذ هو بفصفصة العظام وقرططتها.
(6)
فتاة الدوم عرفت أن ذلك اللحم لحم أخيها، وتلك الأصبع الصغيرة المزينة بالخيتم /الخاتم، هي إصبع أخيها... وبحجم الحزن والألم والفجيعة دفنت لحم وإصبع أخيها في "مشقار" لتخلقه من جديد. نحن أيضاُ نعرف لحم أخوتنا، وأهلنا وبشرنا، مازالت أصابعهم تزينها الخواتم حتى اللحظة إنها في جوف الجندي المجهول.
(7)
نحن عكس فتاة الدوم، نأكل لحم أبنائنا وإخوتنا، بعضنا بعضا، برغم أن كل إصبع ماهي إلا جثة مزينة بالخاتم. بمعنى أننا نعرفهم تمام المعرفة. أصابعهم بخواتمها تؤكد لنا أن المشقار قريب منا، ما علينا إلا نخلقهم من جديد، من المشقار المعلوم وليس عند ضريح الجندي المجهول الذي لا يشبع. إنهم يخلقون من جديد عندما نعرفهم من خواتمهم، ومن الخواتم نعرف ما يحويه بطن الجندي المجهول.
من معرفتنا لنصب الجندي الذي يصبح معلوماً، نضع حداً للأوطان وللجراجيف. نكبح غرائزنا المظلمة التي دمرت المشقار وسحقت الريحان في غفلة من أمرها، أو في سرية من أمرها.نقتل كل الجراجيف المتغولة في داخلنا، التي تماهت ذات يوم مجهول بالجرجوف الأب – الجرجوف الرمز، ساعتئذ ننتصر للحياة كما انتصرت فتاة الدوم.
جرجوف متلوّن.. وطن متلوّن
< ما أحوجنا في مثل هذه الأيام، أن نكون قليلاً مثل فتاة الدوم. ندرك أن المعرفة حياة. أن الوطن ماهو إلا جرجوف وغرفة سابعة، تاجه ضريح مجهول متخم بالقتلى والجثث والأشلاء، أو ما يطلق عليهم شهداء؟
< قليلاً من فتاة دوم ندرك أن وطننا لا يتغذى إلا على جثثنا، يتلون مثل الجرجوف، يلون المعارك تلو المعارك، يلون القيم والأخلاق يخبز وطن من دين، ودين من وطن، يشحننا بغرائز غضبية متفجرة: إغضاب الوطن هو إغضاب لله ولولاة الأمر، يدهن شفاهنا بزيوت الأعداء والمقدسات وانتهاكات، وعدم الاستسلام، ولا تراجع، ولا حوار، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة ووووإلخ.
< قليلا من فتاة دوم نقتحم سرية الغرف المغلقة المحشوة بجثث البشرية على مر الأزمان.
< قليلا من فتاة دوم نرفض اللعب مع الجرجوف الوطن فلا نثني الضربة القاتلة، ولا نخطه، ولا نتفله، ففي كل حركة تثنية إعادة لحياته. نحيه من جديد، بمعنى نعيد عجلة" المهلكة، فتبدأ من جديد ولا تنتهي.
< نعيش ما تبقى لنا من حياة اختصرها الجرجوف الوطن في بطنه التي ليست فقط "ساع " قبة الصوف"، بل تتجاوز قبة الأرض والسماء والكون بأكمله.
(8)
أوقفوا الغرفة السابعة في صعدة.
* إنظر حكاية الجرجوف (الغول) وهي حكاية شعبية دونها الأستاذ علي محمد عبده، في كتابه المعروف "حكايات وأساطير يمنية".
 arwaothmanMail