حين تعود بي الذاكرة إلى شارع 26 سبتمبر وحارة الأصنج ووجوهها بمدينة تعز، مطلع ثمانينيات القرن الماضي، يحضر فيها بهيًا قاسم البصير (بائع الجرائد الأعمى) الذي كان أحد معالمها.
كان يعرف الناس من روائحهم قبل أصواتهم، بعد صلاة الفجر وبعد خروجه من مسجد الحارة، كان يمسك بيد (عبده علي) أبو الخمير، وينزل معه عبر الدرج الحجرية إلى المقهى لتناول إفطاره من الخمير والشاهي الملبّن، ثم يصعد عقبة شارع 26، أو عقبة العرضي كما كانت تعرف أيضًا، بسيارة (الكدم) التي تكون عائدة من الباب الكبير وباب موسى وسجن الشبكة إلى مطبعة جريدة الجمهورية بالقرب من ميدان الشهداء؛ حيث يأخذ حصته من جريدة الجمهورية، قبل أن يعود راجلًا ممسكًا بحزمة الجرائد، وتسبقه عصاه قبل أن تصحو المدينة.
كان يبدأ غالبًا، من منتصف العقبة وبالقرب من مسكن الفنان الراحل (هاشم علي)، بوضع الجريدة أسفل الأبواب المغلقة لبعض المتاجر والمحلات وعلى الجانبين وينتهي في الثامنة في الباب الكبير. كان له زبائنه، ولا يمنعه أيضًا، مروره في الشارع، من عرض بضاعته الورقية على المارة بالمناداة بصوت جهوري “جمهورية... جمهورية...” قبل أن يعود صعودًا لجمع قيمة مبيعاته حين تفتح المحلات.
كان يسكن في (صندقة) من الزنك في بقعة منتصف الحارة، بالقرب من دار قديم “يشبه دُور المدينة القديمة كنا نعرفه بدار (شمهان)، كان يقيم بدوره الأرضي مجنون شاب، ولا يرتاح بالجلوس سوى مع قاسم البصير، ويحدثه عن عوالمه الأخرى بكل وداعة. في إحدى عصاري صيف 1983 اشتعلت بالصندقة النيران... لم أزل أتذكر بكاءه المحروق بصوت عالٍ، وأتذكر أنقاض الصندقة ومحتوياتها المحروقة، ومنها النقود الورقية الكثيرة التي تبقى منها أطرافها، وكان يُعاد أمر إحراقها بفعل فاعل، من أجل الاستيلاء على البقعة. بعد سنوات استحضرت بعضًا مما علق بذاكرتي عنه، وكتبت نصًّا مجمَّعًا من أكثر من حالة تشبهه وتعرفت عليها في أكثر من مدينة... سميت النص "أعمى يبيع الجرائد، ويأكل الآيسكريم، ويتقدم الجنازات كبهلوان".
صورة قاسم البصير من أرشيف الصديق فهد الظرافي
______________________________
(*) من مسودة كتاب "الوقت بخطوات عجولة" قيد الطبع