صنعاء 19C امطار خفيفة

"سأغني"... حين يتحوّل الحزن إلى لحن، ويصير الفن وطناً

"سأغني"... حين يتحوّل الحزن إلى لحن، ويصير الفن وطناً

بصوتٍ رخيمٍ شجي، وبأوتارٍ ناطقةٍ من عمق الوجع اليمني، يعود إلينا الموسيقار العربي الكبير، وملك العود الدكتور أحمد فتحي، بأغنيةٍ جديدة ليست كأي أغنية، بل بمثابة وثيقة وجدانية تُغنّى باسم كل قلبٍ يمني، وتهدي الأمل في زمن الجراح. إنها "سأغني"… تلك القصيدة التي نبضت بها روح البروفيسور آمنة يوسف الحشيبري، وأعاد الموسيقار أحمد فتحي تشكيلها لحنًا وصوتًا وصورة، ليقدّم لنا عملاً فنياً متكاملاً يليق بمقام الشعر والموسيقى والوجدان.

 
تبدأ الأغنية من جرحٍ مفتوح، من "آلامي" و"أحزاني" و"أحلامي"، ولكنها لا تستسلم، بل تنهض من بين الضلوع وتُغنّي. الصوت الذي نسمعه ليس فقط صوت الفنان أحمد فتحي، بل صوت وطنٍ مثخن بالجراح، ومع ذلك يصر على الحياة عبر الفن.
 
الإخراج المصاحب للعمل كان بمثابة ترجمة بصرية دقيقة لكل بيتٍ شعري. فقد رأينا اليمن كما نحب أن نراها: جبال شامخة، أودية خصبة، مآذن تلامس السماء، بيوتٌ طينية تحكي تاريخاً ضارباً في الجمال والسلام. لكن الكاميرا لم تغفل عن عرض المشاهد الموجعة: وجوه متعبة، أطفال يحلمون، وقلوبٌ لا تزال تنزف. كل ذلك جاء بمزجٍ بصريٍّ متوازنٍ بين جمال الذكريات ومرارة الواقع.
 
الدكتور أحمد فتحي في هذا العمل لا يلحن فقط، بل يُترجم. الترنيمات التي افتتحت الأغنية جاءت هادئة، حزينة، كما لو أنها تنهض من رماد الألم. وحين تصل الكلمات إلى "الصبح مني"، يبدأ الإيقاع في التصاعد، فيبزغ الأمل مع كل نغمة، ويتحوّل التوجع إلى شوقٍ للغد.
 
وقد جاء توظيف آلة العود غاية في العذوبة والدقة، حيث استخدمها فتحي كما يستخدم الرسام فرشاته، يرسم بها ملامح الشجن، ويملأ بها فراغات الصمت بالنغمة، وكأنما العود يبكي ويغني معاً.
 
قصيدة “سأغني” لا تحكي قصة شخصية فقط، بل تعبّر عن وجدانٍ جمعي. كل يمني يشعر أن القصيدة كُتبت له. وكل من تجرّع مرارة الفقد يشعر أن "سأمحو ذكريات الأمس" هي جملة خلاصه.
نجد في أبيات القصيدة ازدواجية الألم والأمل، الماضي والمستقبل، الوجع والغناء. وهذا التوتر الشعريّ هو ما يجعل القصيدة قابلة للغناء، ومهيّأة لأن تتحوّل إلى رسالة فنية خالدة.
لا يمكن الحديث عن هذا العمل دون الإشادة بإخراجه الذي جاء كأنه مرآة لكل جملة شعرية. الكاميرات تمر على مناظر منتقاة بعناية، تتنقّل بين مناطق يمنية نابضة بالتاريخ والجمال، وعكست أيضًا عمق الحزن الذي يسكُن الملامح. كانت منار الصورة صادقة: لا مبالغة، ولا تصنّع، بل عرض جمالي حزين يشبه اليمن كما هو: جريحٌ وجميل.ويذكرنا بمطلع قصيدة الخالد الذكر الأستاذ عبدالله البردوني الموسومة ب: "ابوتمام وعروبة اليوم"
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي؟
مليحة عاشقاها: السلُّ والجربُ!!
لو أن هذه الأغنية خرجت من بلدٍ آخر، من مصر أو لبنان أو حتى من أوروبا، لكانت اليوم حديث الصحف والقنوات، ولسُجّلت كعملٍ خالد في أرشيف الغناء العربي والعالمي. لكننا، رغم كل شيء، محظوظون بأن لدينا فناناً مثل أحمد فتحي، لا يزال يُغنّي رغم "هذا الحال والأحوال"، وأن لدينا شاعرة مثل آمنة يوسف، تكتب الألم بمداد الأمل.
"سأغني" ليست مجرد أغنية…
إنها رسالة حياة، ووثيقة فنية، وسفرٌ شعريٌّ ناطقٌ باليمن الجميل والجريح.
فشكرًا لأحمد فتحي على الصوت واللحن،
وشكرًا لآمنة يوسف على الحرف والنور،
وشكرًا لكل من ساهم في هذا العمل،
الذي سيبقى شاهدًا على أن الفن هو آخر ما يموت، حين يموت كل شيء.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً