في الوقت الذي ظن فيه البعض أن وتيرة الصراع الإقليمي ستتجه نحو التهدئة، عاد الحوثيون لتفعيل ورقة البحر الأحمر عبر هجمات استهدفت سفنًا مرتبطة بإسرائيل أو الولايات المتحدة والأوربية أيضًا، رغم إشارات متكررة إلى قنوات تفاوضية مفتوحة هذا التصعيد لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق الإقليمي والداخلي، ولا عن ديناميكيات الاقتصاد الموازي الذي بات يتغذى على الفوضى لا الاستقرار.
الحوثي كفاعل غير نظام دولة يراكم السلطة عبر الأزمات، لا يملك ترف التوقف عن التصعيد في لحظات مفصلية، فكلما اقتربت لحظة التسويات أو الترتيبات الإقليمية، عاد إلى طاولة الصراع بأوراق جديدة منها البحر الأحمر، بما يمثله من شريان استراتيجي، ليس فقط أداة ضغط على الغرب أو إسرائيل، بل أيضًا رسالة ضمنية لحلفائه وخصومه على حد سواء. كأنه يردد مازلت حاضرًا في المعادلة، ومازالت أوراق اللعب بيدي وأسعى لاعتراف رسمي مع خروجي من قائمة الإرهاب أمريكيًا.
لكن الأهم من الصراع السياسي هو ما يدور في عمق المنظومة الاقتصادية التي طورها الحوثيون خلال سنوات الحرب. الاقتصاد الرسمي في اليمن يكاد يلفظ أنفاسه، في حين تفرّعت شبكات اقتصادية بديلة يديرها ويحتكرها مقربون من القيادة الحوثية في هذا السياق، تأتي الهجمات البحرية كمعزز مباشر لهذا الاقتصاد الموازي، لا كتهديد له، فالانهيار الإقليمي للتجارة الرسمية يعزز تهريب السلع والسلاح عبر الموانئ الخاضعة لهم وللقرن الإفريقي، ويوسع من أرباح السوق السوداء. وكلما ارتفعت كلفة الشحن أو أُغلق ممر جديد، زادت حاجة التجار المحليين للمرور عبر قنوات حوثية غير رسمية، تفرض عليهم جبايات غير معلنة لكنها مُلزِمة.
الربح الاقتصادي هنا ليس في وفرة الإنتاج أو تحسن السوق، بل في تعميق الفوضى. فكلما زادت تكلفة الوصول إلى السلع، تضاعفت أرباح المشرفين الحوثيين الذين يحتكرون التوزيع. وكلما اشتد الحصار، زادت قدرتهم على فرض الإتاوات بزعم "المجهود الحربي"، وجباية ضرائب تحت مسميات دينية أو أمنية. حتى التبرعات باتت سوقًا موازية قائمة بذاتها، تغذيها خطابات الحشد الطائفي ومزاعم نصرة المستضعفين.
على المدى القصير، يبدو أن الحوثيين يكسبون، فهم يعيدون هندسة الاقتصاد لصالح شبكاتهم، ويثبتون قدرتهم على خلق التأزيم وقت الطلب. لكن هذه المعادلة لا تخلو من مفارقات خطرة. إذ إن استمرار الهجمات البحرية أعاد طرح الجماعة على طاولة التصنيف الدولي كجماعة إرهابية، وهو ما سيقوض قدرتها على العمل المالي عبر الشبكات الإقليمية التي تغض الطرف عنها حاليًا، من موانئ الإمارات إلى بنوك في ماليزيا وعُمان إلى القرن الإفريقي.
فعليًا، ماتزال الولايات المتحدة تصنف جماعة الحوثي ضمن الكيانات الإرهابية العالمية المحددة، وهو تصنيف يسمح بفرض عقوبات على الأصول والممولين والمتعاملين معهم. هذا التصنيف أعيد تفعيله بعد تصاعد الهجمات على البحر الأحمر. إلا أن الاتحاد الأوروبي، حتى اللحظة، لم يذهب إلى خطوة مماثلة، لأن هناك تحفظات أوروبية على إصدار تصنيف رسمي للجماعة كمنظمة إرهابية، رغم تصاعد الدعوات لذلك داخل بعض دوائر القرار، خصوصًا في الدول المتأثرة بالملاحة أو العاملة في قطاع الشحن البحري، يبقى الموقف الأوروبي حذرًا، لا لأنه متعاطف مع الجماعة، بل لأنه لا يريد تعقيد المسارات التفاوضية أو عرقلة العمل الإنساني والمعونات الإنسانية التي باتت شحيحة في السنوات الأخيرة الماضية.
يصبح البحر الأحمر ليس فقط خطًا للضغط العسكري، بل حزامًا كاشفًا للاقتصاد السياسي الحوثي، وكل هجوم جديد لا يعكس فقط موقفًا سياسيًا، بل يكشف عن رهان جماعة اختارت أن تبني اقتصادها على الفوضى وعلى أنقاض المواطن، لا على التعافي، وعلى العزلة لا على الشراكة. ما يحدث ليس مجرّد فعل عسكري، بل امتداد لنموذج اقتصادي قائم على خلق الأزمة، والتموقع داخلها واستثمارها.
ومع ذلك، ليس الحوثيون وحدهم من يديرون اقتصاد الفوضى، فكل الأطراف اليمنية المتصارعة والمسيطرة على الأرض امتلكت نصيبها من شبكات المصالح والريع الموازي.
في الساحل الغربي مثلًا، يسيطر طارق صالح على ميناء المخا الذي يُدار كمنطقة اقتصادية خاصة لا ترتبط بالبنك المركزي أو المالية العامة، بل بجهاز أمني وسياسي موالٍ له وجهازه القومي عمار صالح. وتُشير تقارير متعددة إلى نشاطات تهريب وتحويلات مالية غير خاضعة للرقابة، فضلًا عن مشاريع إسكان تُمنح وفق الولاء لا الحاجة، ودون معالجة شاملة لأزمات تعز أو تحقيق تنمية حقيقية.
في عدن، تحوّل المجلس الانتقالي إلى قوة مالية مستقلة تتحكم بإيرادات الضرائب والجمارك والموانئ دون إشراف حكومي فعلي، والذي بات غائبًا في ظل حرب التعيينات. وتُوظف تلك العائدات في بناء شبكات النفوذ والتسليح والإعلام، بينما تغيب أية مساءلة مؤسسية.
أما في مأرب، فيدير حزب الإصلاح منفذ الوديعة والحقول النفطية والغازية بمنطق الحصص الحزبية، وتُضخ الإيرادات إلى مؤسساته دون مرور شفاف عبر الجهاز المالي للدولة، ما جعل المحافظة واحدًا من أكثر نماذج الدولة داخل الدولة وضوحًا. ومع تفكك سلطة البنك المركزي وانهيار البرلمان، أُتيح لهذه القوى أن تتحرك في السوق كأنها كيانات مستقلة تتجاوز منطق الدولة.
حضرموت تمثل الوضع الأكثر هدوءًا، لكنه لا يقل تعقيدًا. عوائد النفط من المسيلة تُدار وفق تفاهمات غير معلنة بين السلطة المحلية وقوى إقليمية، وتُستخدم لتمويل أجهزة أمنية مثل النخبة الحضرمية، أو مشاريع خدمية بلا رقابة. في الوقت نفسه، تنقسم المحافظة بين نفوذ إماراتي في الساحل وقوات تابعة للإصلاح في الوادي، بما يُنتج شبكتين اقتصاديتين تعملان في الظل، إحداهما تستفيد من الامتيازات والتجارة، والأخرى من الموارد والتحويلات. وتتحرك الموانئ والمصارف في هذه المناطق كأذرع اقتصادية محلية لا ترتبط مباشرة بالحكومة المركزية، ما يجعل حضرموت مثالًا على اقتصاد موازٍ مقنن تُعاد فيه صياغة النفوذ خارج أطر الدولة، وإقليم مستقل بذاته.
حتى المجلس الرئاسي الذي وُلد كأداة لتجاوز الانقسام، بات ساحة جديدة لتقاسم العوائد وتوزيع النفوذ. في غياب القضاء والبرلمان، تنشأ مصالح داخل الرئاسي ترتبط بالبنك المركزي، وتمر عبرها رواتب جميع الموظفين في المناطق المحررة، لكنها غير كافية لمواجهة غلاء المعيشة، والتحويلات الدولية، والتسهيلات المالية، وتُستثمر أحيانًا في تجارة موازية مدعومة بالحصانة السياسية لبعض السياسيين. معظم هذه المصالح موزعة بين قوى المؤتمر والإصلاح وشخصيات نافذة تُمثل الشرعية في الظاهر، بينما تبني نفوذًا خاصًا في العمق، لكنها لم تضع قدمًا لإقليم مستقل على الأرض بشكل ذاتي.
الكثير يعتقد أن أحمد علي عبدالله صالح غائب، لكنه يتواجد في الاقتصاد الموازي، فرغم غيابه العسكري، لايزال لاعبًا اقتصاديًا فاعلًا من خلال شبكة مالية وتجارية تحتفظ بها عائلته في الإمارات ودول أخرى. هذه الشبكات تنشط في العقارات والخدمات اللوجستية والشحن البحري، وبعضها متداخل مع المصالح الإماراتية في البحر الأحمر، وتُستخدم كأدوات ضغط واستثمار طويل الأمد، ما يجعلها واحدة من أكثر أدوات الاقتصاد السياسي غير المعلنة تأثيرًا في اليمن.
لم يعد الصراع في اليمن مواجهة بين دولة ومليشيا، بل صراعًا بين نماذج من الاقتصاد الفوضوي المتشابك الذي يتغذى على الانهيار ويعيد إنتاجه، الفارق بين الحوثيين وخصومهم لا يكمن في مجرد وجود اقتصاد موازٍ لدى كل طرف، بل في طبيعة هذا الاقتصاد وآليات عمله، فالحوثيون أسسوا نموذجًا اقتصاديًا مركزيًا صارمًا، يخضع لأيديولوجيا دينية مغلقة وقمعية، تُدار عبر شبكات أمنية واقتصادية تحتكر السوق، وتفرض الإتاوات على كل ما يتحرك، ولم يتوقف الأمر عند الجباية والتهريب، بل امتد إلى ممارسة الخطف والضغط والابتزاز بحق مسؤولي المؤسسات والمنظمات المحلية والدولية التي لا تتماشى مع خط الجماعة، بعض تلك الكيانات أُجبر على الإغلاق، والبعض الآخر تحول إلى واجهة تمويل غير مباشرة لأنشطة الحوثيين، أو إلى حقل استثمار قسري لخدمة الاقتصاد الحربي.
في المقابل، لم يكن أداء الأطراف المناهضة للحوثيين أفضل حالًا، إذ تعاملت مع الفوضى كوسيلة للبقاء وتوسيع النفوذ دون تقديم بديل وطني شامل أو مستدام. تداخلت شبكات المصالح مع الولاءات الحزبية والمناطقية، وتم تقاسم العوائد بدلًا من بناء مؤسسات دولة، في ظل غياب أي مشروع جامع حيث استُخدم المال العام كأداة لشراء الولاءات والتطبيل، وبُنيت طبقات مالية جديدة خارج أية رقابة وفي هذا المشهد، بقي الشعب مجرد وقود لصراع اقتصادي-سياسي داخلي وخارجي، يردد معاناته على المنصات، بينما لا أحد يعترف فعليًا بحقه في الشراكة أو الحماية، لا في الداخل ولا في الخارج.