صنعاء 19C امطار خفيفة

الاحتماء بعدو لتصفية عدو يرسخ الاستلاب ويعزز التبعية (الحلقة الثانية)

إهداء الحلقة الثانية:

إلى المناضل المخضرم، المجاهد المجتهد والمؤرخ والمحقق والمفكر السياسي الذي جعل من عمره سفرًا للنضال، ومن قلمه سلاحًا للحرية، شيخي وأستاذي العلامة الأستاذ زيد بن علي الوزير، مد الله في عمره، ومنَّ عليه بالصحة والعافية.

الرجل الذي يمتد نضاله من أعقاب ثورة الدستور اليمنية عام 1948م، وحتى اليوم، لم يكلّ ولم يملّ، يُصارع الاستبداد بقلمه وفكره، ويضحي بالغالي والنفيس في سبيل أمته. عرف التشرد والاغتراب، وتحمل البعد عن الوطن، لكنه ظل شامخًا كالجبل، يُنير الدرب للأجيال بكتاباته التي تزهر وعيًا، وبمواقفه التي تُحرّك الضمائر. مؤرخ اليمن الذي رفد مكتبتها بعشرات المؤلفات تأليفًا وتحقيقًا، وإلى صاحب "النظرية الإسلامية للدولة المدنية"، ومؤلف "الفردية" -أول بحثٍ في علم السياسة الحديث- الذي حوَّلَ تراث الأمة إلى مشروعٍ للتحرر والنهضة. فهو من الأقلام التي تنير دروب الظلام، وإلى العقول التي ترفض أن تكون صدى للزيف...

وإلى الباحث الرصين الذي يحفر في جذور اليمن بعمق مؤرخٍ وشجاعةِ ثائر، الأستاذ عيبان السامعي، مؤلف كتاب "إشكالات الواقع اليمني"، الذي جعل من كتابه مرآة تكشف تناقضات الثورة والحرب والهوية، فلا يتركُ حجرًا إلا قلبه، ولا جرحًا إلا مسحه بقلمه.

وإلى الكاتب الكبير الذي يُمسك بتلابيب الواقع ويقذف به في وجهِ المتخاذلين، الأستاذ عبدالرحمن بجاش، الذي حوّلَ كلماته سهامًا ضدّ التزييف، ومشاعلَ في درب الحقيقة الشائك.

وإلى هيكل اليمنِ الصحفي الكاتب الأستاذ حسن العديني، الذي يُشيّدُ بعقله صروحًا للوعي، ويُذكّرنا أن الوطن لا يُبنى بالشعارات، بل بوعيِ من يحملون ترابه في قلوبهم قبل نعالهم.

وإلى صاحب القلم الرشيق الذي ينسجُ الحلمَ الجميلَ من خيوط الواقع المرير، الأستاذ فتحي أبو النصر، الذي يُذكّرنا أن الجمالَ لا يموت، حتى لو صارَت الحقيقةُ شعرةً بيضاء في ظهر ثورٍ أسود!

وإلى ابن اليمن البار الذي لا يعرف قاموسه المناطقية والفرز العرقي أو المذهبي الكاتب المائز الأستاذ عبدالرحمن بجاش.

هؤلاءِ الذين يُقاتلون بالحرفِ كأنه السيف، ويصنعون من الكلمةِ منبرًا لا يباع ولا يشترى... إليهم هذه الحلقة، لأنهم -في زمن الأفواه المُقيّدة- يصرخون بالحقّ كأنهم الجبال!

لأن الحقيقةَ اليومَ ليست ضائعة فحسب، بل مُتناثرة بين سطورِ من يجرؤون على كتابتها!

 
 
لما وجدت الانقسام بين المبتهجين لحرب الكيان الغاصب على إيران، وبين من يتماهى مع الموقف الإيراني دون النظر لما تلقاه من ضربات موجعة، وجدت من واجبي أن أكتب هذه الحلقة الثانية، لتوضيح أهمية وجود قوة تحد من غطرسة الكيان وعربدته.
فمن المؤكد أننا لا يمكننا إنكار أن هجومَ حماس في السابع من أكتوبر شكل نقطة تحول استراتيجية في الصراع العربي -الإسرائيلي، أحدثت صدمة عميقة في أوساط مجتمع الكيان الصهيوني. لكن المفارقةَ الأكبر تكمن في كيف استطاعت إسرائيل أن تحول هذا الحدثَ إلى ذريعةٍ وجوديةٍ لتعزيز هيمنتها الإقليمية. فبعد تصريحات رئيس وزرائها الأخيرة ـوالتي وصفت إيرانَ بـ"التهديد الوجودي"ـ تمكنت من تسويق نفسها كضحية أمام العالم، مُحولة ردها العسكري إلى "حق دفاع شرعي" مكنها من تنفيذ "بنك الأهداف" المعد سلفًا منذ سنوات لتصفية ما أطلقت عليه أذرع إيران في المنطقة، فتمكنت بالفعل من القضاء على قدرات حزب الله، وإسقاط دولة سوريا وتجريدها من السلاح الثقيل، بل والمتوسط، وتدمير مئات الآلاف من الوحدات السكنية وتدمير 80% من البنية التحتية لغزة وتشريد السكان ويعانون من مأساة إنسانية أمام مرأى ومسمع العالم.
الأمرُ الذي يطرح تساؤلات مقلقة حول حقيقة ذلك اليوم الذي بدأ "فتحا مبينا" ثم تحول إلى وبال على الفلسطينيين والمقاومة. فالتسريبات الإسرائيلية الأخيرة -بما فيها التسجيلات الصوتية المزعومة بين قادة حماس ونتنياهو- تثير شكوكًا حول دوافع الهجوم وتوقيته، بخاصة مع فشل حماس في الحفاظ على مكاسبها، وتراجع حزب الله من دورها المساند بعد تاك الضربات الموجعة التي تلقاها، بينما تواجه إيران اليوم نفس تلك الضربات الموجعة بلا سابق إنذار، كل ذلك يكشف الأوراق واحدة تلو الأخرى: إسرائيل تعيد تشكيل المنطقة عبر استراتيجية هجومية مدعومة بتفوق استخباري وتكنولوجي، بينما تحَمِّل طهران مسؤولية كل الصراعات، مقدمة نفسها كـ"حامية النظام الإقليمي" بدعمٍ غربي غير محدود.
هنا يصبح السؤال المركزي: من المستفيد الحقيقي من تحويل إيران إلى "عدو أول"، بينما يعفى الكيان الصهيوني من جرائمه؟ وكيف تحول حدث كان يفترض أن يُعيد ترتيبَ موازين القوى إلى بوابةٍ لتصفية المقاومة؟ هذه الحلقة تُناقش كيف تُوظِّف إسرائيلُ الأزمات لصالحها، وكيف يُكرِّس البعضُ عداءَهم لإيران لخدمة مشروعٍ صهيو-أمريكيٍ يُفرغ الصراعَ من جوهره: تحرير فلسطين.
وغني عن البيان التأكيد على أن الصراع في المنطقة العربية اليوم ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمات تاريخية وجيوسياسية معقدة، تتصارع فيها إيران مع قوى إقليمية أخرى كتركيا والسعودية وإسرائيل، وكل يريد حصة الأسد في المنطقة، وبخاصة بعد سقوط نظام صدام حسين، وتراجع الدور المصري الناصري. فإيران لها مشروعها المنافس لبقية مشاريع الدول الأخرى المتنافسة على من يقود المنطقة بما يحقق مصالح دولته، وكل دولة تسعى لاستغلال مكامن قوتها لفرض هيمنتها على المنطقة، لكن الخيط الخفي الذي يحرك هذا الصراع هو المخطط الصهيوأمريكي الذي وجد في أحداث السابع من أكتوبر ذريعة لتنفيذ أجندته، تمامًا كما استُخدمت حرب 1967 لإعادة تشكيل خريطة المنطقة.
لا يمكن فهم العلاقة بين إيران واليمن بمعزل عن هذا الصراع الأكبر. فبينما تُتهم إيران بدعم الحوثيين، يُغفل أن الصراع اليمني له جذور داخلية عميقة، وأن التدخل الإيراني -رغم إشكاليته- ليس العامل الوحيد في تعقيد الأزمة. الأخطر هو تحويل إيران إلى "عدو عربي أول" بدلًا من إسرائيل، وهي سياسة تخدم المشروع الصهيوني مباشرة، بخاصة عندما يُختزل الصراع إلى مجرد مواجهة مع إيران، بينما تُبرأ إسرائيل من جرائمها اليومية.
لقد تجاوزت أساليب الحرب اليوم مفهوم الصراع التقليدي، فأصبحت حرب المعلومات والسيبرانية هي السلاح الأكثر فتكًا. بعد أحداث أكتوبر، ظهر ما يُسمى "بنك الأهداف" كجزء من حرب نفسية تهدف لتشويه المقاومة. وإيران -رغم كل الانتقادات- تتعامل بشفافية غير مسبوقة في إعلانها عن خسائرها، بينما يمارس الكيان الصهيوني سياسة التعتيم الإعلامي الممنهج.
تواجه إيران اليوم وضعًا بالغ التعقيد رغم ترسانتها العسكرية. فاغتيالات العلماء، والحصار الاقتصادي، والحرب المعلوماتية تضعها في موقع دفاعي صعب. ومع ذلك تبقى القوة الإقليمية الوحيدة التي تواجه إسرائيل مباشرة، بينما تقف بعض الأنظمة العربية في الصف الخلفي للمشروع الصهيوأمريكي تحت شعارات براقة تخفي حقيقة تبعيتها.
جوهر الأزمة لا يكمن في ولاء بعض القوى لإيران، بل في ولاء آخرين لأمريكا وإسرائيل تحت غطاء "العداء لإيران". فالقضاء على إيران ليس انتصارًا عربيًا كما يُروج، بل هو إلغاء لأهم توازن إقليمي يعوق المشروع الصهيوني. التاريخ الإسلامي يعلمنا أن الصراع بين القوى الكبرى كان دائمًا يُستغل لخدمة مشاريع هيمنة خارجية. اليوم يُعاد نفس السيناريو: شيطنة إيران لصرف الأنظار عن الاحتلال، وتفكيك أية مقاومة حقيقية تحت ذريعة "محور الشر".
المنطقة لن تتحرر بشيطنة قوى إقليمية، بل بالوقوف ضد المشروع الصهيوني أولًا. الصراع اليوم هو صراع وجود، والاختيار ليس بين ولاءات خارجية، بل بين مقاومة الاستلاب أو الاستسلام للتبعية. إيران -كدولة لها تاريخها ومشروعها- تخطئ وتصيب، لكنها تبقى القوة الوحيدة التي تقف في وجه إسرائيل دون مواربة. أما من يرفعون شعار "إيران العدو" بينما يصافحون الصهاينة، فتاريخ المنطقة سيتذكرهم كمن خانوا قضيتهم المركزية ولم يستفيدوا حتى من "نعال" من دافعوا عنه.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً