بعد ثورة سبتمبر كانت مدينة صنعاء هي الملاذ الآمن للشرائح المجتمعية الدنيا التي وجدت فيها فرصة للهروب من التمييز الطبقي الذي يُمارس ضدها في القرية والقبيلة، فتوسّع مدينة صنعاء وتقبّلها جميع أطياف المجتمع، مكّن الجميع من الذوبان المجتمعي،
وكانت صنعاء بمثابة بلاد الفرص لمن أراد التخلّص من القيود المجتمعية، والبدء في حياة جديدة معتمدًا على جهده ومثابرته بعيدًا عن أصله وفصله، فمثلما تخلّص الهاشميون من جنبية "التوزة" ولبسوا جنبية القبائل، كذلك فعلت الطبقات الدنيا، فتمكنوا من لبس أغلى أنواع الجنابي، وارتداء ما يشاؤون من ملابس فاخرة كانت حكرًا على طبقات معينة ومحرّمة عليهم، صار بإمكانهم الجلوس في صدر الديوان من دون أي اعتراض، وسكنوا في أحياء صنعاء الحديثة، وكونوا لهم حياة اجتماعية خاصة، درسوا واشتغلوا وتاجروا، وأصبح بعضهم من ضمن النخب الاجتماعية.
لكن هذا البناء كان هشًا، فعند أول منعطف سياسي أو اجتماعي يذهب كل ما بنوه في مهب الريح، فبمجرد أن ينافس أحدهم على منصب سياسي أو يدخل في إشكالية ما، يتم نبش تاريخ أسرته، وإلى أية شريحة ينتمي، وما هي أصوله، في مجتمع يعتبر الفساد نوعًا من التذاكي، لا يمكن محاربة شخص لكونه فاسدًا، لكن قد تُقلب الطاولة عليه بمجرد أصله وفصله، لعل أشهر هذا النبش السياسي هو "عفاش"، الرجل الذي حكم أكثر من ثلاثين سنة بدون لقب (علي عبدالله صالح) في خلال سنة من ثورة، قام منافسوه السياسيون بنبش تاريخ أسرته وأصله وفصله، وألصقوا به لقب "عفاش"، اللقب الذي بات يُعرف به من 2011 حتى الآن، الدكتور الذي كان مضرب المثل في النشاط والكفاءة، بمجرد تعيينه رئيسًا للجامعة، استنكر دكاترة الجامعة أن يرأسهم أحد أبناء الشريحة الدنيا، واعتبروه إهانة في حقهم، وشنوا عليه هجمة إعلامية، وفي كل هجمة يتم الهمز واللمز إلى شريحته الاجتماعية، رجل الأعمال المشهور الذي يمتلك مؤسسات خيرية، والذي يشيد به الجميع، عندما قرر خوض منافسة عضوية مجلس النواب، قام الحزب المنافس بتذكير الناس بأصوله، وهل تقبلون أن يكون أحد أبناء هذه الشريحة مسؤولًا عنكم؟
وهناك الكثير من قصص المشاكل الزوجية والطلاق وإنكار نسب الأطفال أو تغيير ألقابهم، لأنه تم الاكتشاف أن الأب أو الأم من أبناء الطبقة الدنيا.
مسألة الطبقية في اليمن معقّدة، وتحتاج إلى الكثير من الدراسات والبحث للإجابة على الأسئلة الجوهرية حول الشرائح والطبقية في اليمن التي لم يتفق عليها الباحثين: هل ممارسة تلك الحرف والمهن هي التي جعلتهم ضمن الشرائح الاجتماعية الدنيا؟ أم أن من يمارس تلك الحرف والمهن بالضرورة أن يكون من تلك الشرائح؟ وهل ممارسة الحرف والمهن من قبل أفراد من شرائح اجتماعية رفيعة، تقلل من مكانتهم الاجتماعية؟ وهل قضية احتقار بعض المهن والحرف دخيلة على المجتمع اليمني، أم أنها قديمة ومتجذّرة؟
الاستنقاص من الحرف والمهن يكون عادة من تلك القبائل والعشائر غير المستقرة التي تعتمد الترحال والاقتتال والحروب من أجل توفير الغذاء والماء، والتي ترى أن أبناءها يجب أن يكونوا مقاتلين في المقام الأول، ولا يليق بهم الأعمال اليدوية أو تقديم الخدمات للغير، بينما المدن الحضرية المستقرة تنشط فيها الصناعات الحرفية والمهن الخدمية، واليمن بلد زراعي في المقام الأول، والإنسان اليمني صاحب حضارة عريقة، والمجتمع اليمني ينقسم بين مزارعين بارعين في السهول والمرتفعات، وصيادين في السواحل، وحرفيين مهرة في المدن والريف، وهم أصحاب فن معماري مميز وحرفيون مهرة منذ القدم، وقد اشتهرت اليمن بصناعة السيوف وأدوات الزراعة والبُرد والعقيق وغيرها من الصناعات.
في شرح نهج البلاغة في قول علي بن أبي طلب (رضي الله عنه) للأشعث "حائك ابن حائك"، يفسر هذا القول أن أهل اليمن يُعيَّرون بالحياكة، وقد قال عمر بن العلاء في اليمن: "ما أقول في قوم ليس فيهم إلا حائك برد، أو دابغ جلد أو سائس قرد"، وإن كان بهذا الكلام يريد الاستنقاص من اليمني من وجهة نظر أعرابي، إلا أن هذا اعتُبر دليلًا على تمدّن وتحضّر المجتمع اليمني، وإتقانه للحرف التي كانت سببًا في حضارته، هذه المقولات توضّح أن الحرف والمهن في اليمن كانت رائجة ومقبولة مجتمعيًا إلى فترة زمنية غير بعيدة.
سبب استمرار ظاهرة الطبقية واحتقار المهن والفنون هو انعدام الوعي والثقافة، وليس الجهل والأمية في المجتمع، فهناك كثير من دكاترة الجامعة يمارسون الطبقية واحتقار أصحابها بالرغم من حصولهم على أعلى الدرجات العلمية، كان جيل ما بعد الثورة أكثر وعيًا ونضجًا بسبب نوعية التعليم وقتها، حيث كانت لديهم حصص موسيقى ورسم وتدبير منزلي ورياضة، في التسعينيات تم إلغاء كل هذه المواد، وتم التركيز على دروس الحروب والمعارك والاستشهاد وعودة الأمة الإسلامية إلى مجدها عن طريق القتال والحرب.
لإلغاء الطبقية في اليمن يجب أولًا إلغاء النظرة الدونية للحرف والمهن ولمن يمارسها، ويتم ذلك بعدة ممارسات ربما أهمها هي:
أولًا: إدخال مواد وحصص متعلقة بالحرف التقليدية والرسم والرياضة والموسيقى، فعندما يتعلّم الطالب منذ الصغر في المدرسة سواء كان ابن الشيخ وابن القبيلي وابن الهاشمي، العزف والرسم والطبخ والنجارة والحدادة والخياطة والتطريز وغيرها من الفنون والحرف، حينها سيعرف قيمتها ويقدّرها ويحترمها ويمارسها.
ثانيًا: ممارسة هذه الحرف والمهن من قبل الشخصيات الاعتبارية ومن رؤساء القبائل، ستؤدي إلى تغيير في المفاهيم والقيم الاجتماعية لتلك المهن والحرف، بعد أن يمارسها مجموعة ممن يُصنّفون ضمن الشرائح الاجتماعية العليا. وهناك فعلًا بعض الحرف والمهن التي أصبحت مقبولة مجتمعيًا بعد أن تمت ممارستها من قبلهم، مثل حرفة الصياغة التي كانت حكرًا على اليهود، وبسبب تهجيرهم إلى فلسطين المحتلة قام العرب ورجال القبائل والهاشميون بممارسة هذه الحرفة، كذلك مهنة بيع القات كانت من المهن المصنفة في خانة "العيب"، لكن أمام الربح المادي الكبير قام بممارستها رجال القبائل وأبناء المشايخ، ومهنة السواقة كانت إلى قبل ثورة سبتمبر من المهن الوضيعة، لكن مع الوعي والانفتاح أصبحت السواقة من المهن العادية، وفي الوقت الحالي انخرط بعض كبار الأعيان والشخصيات الاجتماعية البارزة في ممارسة أنشطة تجارية متعلقة ببعض الحرف والمهن، مثل وكلاء مطاعم عالمية، ومصانع ملابس وجلديات، ومولات يُباع فيها أنواع اللحوم.