بإعلان حزب العمال الكردستاني حل نفسه، بعد عقود من النضال من أجل وطن في جزء من تركيا، تبدأ سردية تلاشي النضال المسلح ذي الميول اليسارية في العالم، ليبقى حلم عالم متساوي الطبقات وعدالة اجتماعية واسعة، بعيد التطبيق، بخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي ضم 16 جمهورية اشتراكية في عضويته والعشرات من الدول والمكونات الثورية حول العالم.
لم تصمد تجربة الاشتراكية، ولم يصل مؤمنو اليسار العالمي إلى مرحلة الشيوعية، لتتوحش الإمبريالية أكثر، وتسحق على حجر رحاها ملايين البشر.
النزعة الثورية من أجل وطن كردي، والتي ناضل عبدالله أوجلان من أجلها، وسُجن بسبب مبادئها، تتهاوى وتتلاشى.
ترك الحزب أرشيفًا كبيرًا من العمل المسلح والثقافة اليسارية الممتلئة بالفكر الاشتراكي الثوري في أرواح جزء من الأكراد على مستوى العالم، وتخلى عن قيم الثورة المسلحة، ليدخل ميدان الفعل السياسي مُجبرًا، كما فعلت مئات التنظيمات الثورية من قبله.
على مدى عقود، حاولت الآلة السياسية والإعلامية التركية تسويق فكرة النضال الكردي كنموذج للإرهاب المنظم، وكل فعل مسلح تعيده تلك الآلة إلى (PKK) -وهو اختصار لحزب العمال الكردستاني- حتى إن الحزب ظهر في العديد من المسلسلات التركية ككيان خالٍ من أية قضية، وعملٍ يسعى لخلق عنف مسلح في جزء من الجمهورية التركية دون مبرر أو حاضنة شعبية.
قضية عادلة وحامل ضعيف
القضية الكردية قضية عادلة، يتواجد أبناؤها في أجزاء من أربع دول (تركيا، العراق، سوريا، وإيران)، تربطهم العادات واللغة الكردية، وتفرق بينهم حدود الدول التي يعيشون فيها.
العمل السياسي والنضال المدني اللذان أفضيا إلى تحقيق بعض الحقوق للأكراد في الدول الأربع، لم يكونا مُرضيين لجميع الأكراد، بل اعتُبرا سلبًا مُمنهَجًا للهُوية الكردية والقومية الكردية لصالح أنظمة سياسية.
انخرطت بعض القوى الكردية في العمل السياسي، وحققت بعض الحقوق، أو عززت على الأقل الحضور الكردي في خريطة الفعل السياسي لتلك الدول، بعد أن تخلت عن فكرة دولة مستقلة أو حكم ذاتي أو امتيازات مدنية في أول صراع انتخابي أو مفترق طرق سياسي. لتبقى فكرة الدولة والكيان الواحد للقومية الكردية حبيسة تكتيكات الأحزاب المترددة، التي ناضل -ومايزال بعضها يناضل- من أجل الوصول إلى اليوم الذي يُرفع فيه علم دولة كردية.
مع أن القضية عادلة وجديرة بالتقدير، إلا أن الحامل السياسي لها كان ضعيفًا، في تقديري، ولم تُساعده الظروف الإقليمية، ولم يستفد من التقلبات السياسية التي تعصف بالعالم.
حلم الدولة
باستثناء الأكراد في العراق، الذين بات لهم إقليم خاص يتمتع بحكم ذاتي (كردستان العراق)، تعاني بقية القوى الكردية في الدول الثلاث الأخرى أزمة وجود حقيقية.
في سوريا، ابتعد كثيرًا حلم حكم ذاتي أو دولة مستقلة، كما كانت تشير الوعود الغربية للقوى الكردية المسلحة في سوريا خلال معاركها الضارية مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (المعروف اختصارًا بـ "داعش").
جمعت الفصائل الكردية في سوريا قوتها لتشكيل "قوات سوريا الديمقراطية" اختصارًا "قسد"، وفي الوقت الذي كانت سوريا تُلتهم من قبل قوات داعش، صمدت مدينة سورية صغيرة بالقرب من الحدود التركية أمام المد الداعشي، وتحولت مدينة "عين العرب -كوباني" إلى "ستالينغراد" في روسيا إبان الاحتلال النازي للأراضي الروسية خلال الحرب العالمية الثانية.
صمدت كوباني منفردةً، وكانت عنوانًا للنصر وأسطورة فريدة في التضحية، وعليها انكسرت قوة داعش، وبدأت الفصائل الكردية المسلحة -وعلى رأسها "قسد"- في مد نفوذها إلى الكثير من المناطق السورية ذات الأغلبية الكردية، وهي الآن تدخل في اتفاق مع الحكومة السورية الجديدة لدمج قواتها مع بقية الفصائل السورية المسلحة ضمن مكونات الجيش السوري.
نضال لعقود
حزب "الكوملة" وهو اختصار للحزب الثوري لكردستان إيران، حزب يناضل منذ سبعينيات القرن الماضي، من أجل حقوق ووطن للأكراد في شمال غرب إيران، ويخوض صراعًا وجوديًا مع الدولة الإيرانية.
لذا، ولخلق قاعدة وسط الحرب المستمرة والقبضة الأمنية والقمع الرسمي لأفكار الحزب، يستقبل الحزب منذ عقود أفرادًا مؤمنين بالقضية الكردية من الأكراد الإيرانيين، للتدريب في كردستان العراق، بدعم من بعض الدول الغربية على رأسها بريطانيا.
فكرة التشبع الفكري للمجتمع في مناطق تواجد أكراد إيران، قبل الانتقال للخطوة التالية، تحتاج إلى قدرات عسكرية وإيمان مطلق بالقضية قبل أن تحين الفرصة لاقتطاع أجزاء من إيران لتكون دولة مستقلة أو انتزاع الحكم الذاتي على الأقل.
خطوة تحتاج إلى أن يتشبع المجتمع بالفكرة وسط الضخ الإعلامي المناهض لفكرة وطن للأكراد في جزء من إيران، ناهيك عن القبضة الأمنية الإيرانية ضد الفصائل الكردية المسلحة.
ولن تتحقق فكرة الدولة القادمة إلا بتثقيف المجتمع -بخاصة الشباب- على مدى عقود، وخلق قاعدة كبيرة بالتدريب العسكري، ونشر أفكار الحزب، وهذا ما يفعله الحزب تمامًا منذ أكثر من أربعين عامًا.
حتمًا، إن إغراء الطريق الذي سلكه أكراد العراق -والذي انتهى بحكم ذاتي- يبقى حلمًا لأكراد سوريا وتركيا وإيران، لكن طريقهم لم يكن سوى منزلق لدوامة من العنف والوعود، وورقة سياسية غير مُجدية للإرادات في تلك الدول.