صنعاء 19C امطار خفيفة

خلاصات متأنية لأحداث ملتهبة: الحوثيون، إسرائيل، وخسائر اليمن

منذ أن بدأت الولايات المتحدة توجيه ضربات جوية وصاروخية مباشرة للحوثيين في اليمن في مارس الماضي، أخذ المشهد اليمني في التفاقم والتعقيد، بخاصة أن واشنطن دخلت هذه المعركة دون تنسيق مع حلفائها الإقليميين أو الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا.

 
الهدف الأميركي كان واضحًا: إضعاف الحوثيين، وإجبارهم على التوقف عن تهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر، في إطار مقايضات جارية مع إيران حول ملفها النووي، الذي لم يعد مسموحًا له أن يُدار كما كان سابقًا.
 
قبل يومين، دخلت إسرائيل رسميًا على خط المواجهة بعد وصول صاروخ حوثي إلى مطار بن غوريون للمرة الأولى. ردت إسرائيل بعنف، كما هو متوقع، باستهداف منشآت حيوية تحت سيطرة الحوثيين، دون أي اعتبار للضحايا المدنيين أو الكلفة البشرية والاقتصادية الباهظة الناتجة عن تدمير هذه البنية التحتية.

 

وقف اليمنيون مذهولين أمام الشاشات، يشاهدون تدمير مطار صنعاء بالكامل، وحرق ما تبقى من طائراته المدنية في غارات إسرائيلية كانت قد دكت محطات الكهرباء، ومصانع الأسمنت، وميناء الحديدة، من قبل. لكنهم، رغم كل ذلك، لم يكونوا قادرين على تجاهل حقيقة الكارثة الكبرى التي مهّدت لكل هذا، ألا وهي انقسام اليمن وتفككه بعد انقلاب الحوثيين عام 2014، وما تبع ذلك من قمع واستعلاء وخطاب طائفي عنصري ومناطقي مقيت لم يشهد له اليمن مثيلًا.

 
في الليلة ذاتها التي خرج فيها مطار صنعاء عن الخدمة، أعلنت سلطنة عُمان عن وساطة نتج عنها تفاهم غير معلن بين الحوثيين وإدارة ترامب، الذي قال: "نقبل قرار الحوثيين بوقف الهجمات، وقررنا وقف القصف فورًا".
 
هنا وجد اليمنيون أنفسهم أمام معادلة قاسية: إسرائيل والحوثيون في مشهد واحد، وهدنة تُعلن دون حضور حكومتهم المعترف بها دوليًا. وكالعادة، انقسم الرأي العام: هل هذا انتصار دعائي للحوثيين، أم تراجع قسري بعد خسائر موجعة؟ خصوصًا بعد أن خرج المتحدث باسم الجماعة من مسقط قائلًا: "هذا التفاهم لا علاقة له بالموقف من إسرائيل"، مشيرًا إلى أن الطرف الأمريكي هو من طلب وقف إطلاق النار.
 
الحكومة اليمنية التزمت الصمت، ويبدو جليًا أنها لم تكن طرفًا في الاتفاق، هذا ما أدركناه من الأصوات التي أتت من بعض قيادتها وهي تطالب سلطنة عُمان وواشنطن بالكشف عن تفاصيل ما جرى، مبدية انزعاجها من تجاوز حكومتها.
 
في ظل هذا المشهد المتسارع والضبابي، أرى أنه من الضروري الوصول إلى خلاصات واضحة تساعدنا على قراءة الواقع بعيدًا عن زحمة التجاذبات الإعلامية، التي لا تزيد الصورة إلا غموضًا.
 
ومن أبرز هذه الخلاصات:
نفذت إسرائيل، وبدم بارد، من خلال غاراتها المزعومة على الحوثيين، ضربات استهدفت ما تبقى من البنى التحتية الحيوية في شمال اليمن، وذلك على مرأى ومسمع من العالم العربي والإسلامي والدولي، دون أن يتحرك أحد. هذا الصمت يكشف عن توافق ضمني، أو تواطؤ صريح، له أسبابه ودلالاته العميقة، والتي يدركها اليمنيون جيدًا قبل غيرهم، بدءًا من الفجوة الشاسعة والمتسعة يومًا وراء يوم بين الحوثيين والمواطنين في كل مكان، وانتهاءً بإدراجهم ضمن قوائم جماعات الإرهاب.
 
غياب التفاصيل بشأن الاتفاق بين الحوثيين وإدارة ترامب، الذي أعلنت عنه سلطنة عُمان، واعتبره ترامب بمثابة استسلام للحوثيين، فيما وصفه الحوثيون بأنه انتصار على الولايات المتحدة، يكشف بوضوح استعداد أمريكا للتعامل المباشر مع الجماعات المسلحة، وعقد صفقات معها، كجزء من تفاهماتها الأوسع مع إيران، دون الرجوع إلى الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا.
 
تمكنت الولايات المتحدة (ومعها إسرائيل) من تحقيق ما كانت تسعى إليه: إضعاف الحوثيين، وإجبارهم على وقف (أو على الأقل الاستعداد لوقف) تهديداتهم للملاحة في البحر الأحمر.
ثمة سوء فهم شائع لدى العديد من الأطراف اليمنية التي تتبنى مشروع استعادة الدولة، وفي مقدمتها الحكومة الشرعية، يتمثل في الاعتقاد بأن الولايات المتحدة، ومعها بريطانيا ودول الإقليم، معنية بمحاربة الحوثيين بما يتجاوز مصالحها المباشرة.
والحقيقة، وهي منطقية إلى حد بعيد، أن هذه الدول لا تتدخل إلا في ما يمسّ أمنها ومصالحها، وتعتبر أن ما دون ذلك من قضايا يعود لليمنيين أنفسهم باعتباره شأنًا يمنيًا خالصًا.
 
الحوثيون، الذين دخلوا (أو أُدخلوا) في مغامرة كبيرة، ومعركة دولية محفوفة بالمخاطر، دفعوا ثمنًا باهظًا دون شك، بغضّ النظر عن قدرتهم المعروفة على الترويج والدعاية، وما قد يدّعونه عبر وسائل التواصل أو أمام أتباعهم والمتعاطفين معهم، أو حتى في مناطق سيطرتهم من انتصارهم ومقاومتهم الباسلة نصرة لغزة.
إنهم بلا شك اليوم في أضعف حالاتهم على الاطلاق عسكريًا وسياسيًا واجتماعيًا. صحيح أنهم لايزالون يستفيدون من فشل خصومهم وترددهم، ومن موجة التعاطف الشعبي التي حصدها موقفهم من غزة، إلا أن هذا لا ينفي واقع ضعفهم البنيوي الراهن.
سوف تتدهور الحالة الاقتصادية والإنسانية لليمنيين عمومًا، وللسكان في مناطق سيطرة الحوثيين على وجه الخصوص، بوتيرة متسارعة، بفعل الخسائر الفادحة التي تسببت بها الضربات الإسرائيلية الأخيرة، بخاصة ما لحق بميناء الحديدة، ومطار صنعاء، والمنشآت الحيوية الأخرى، وكذلك بفعل الإجراءات التعسفية والجبايات القهرية التي من للمتوقع أن يقوم بها الحوثيون تعويضًا لهذه الخسائر، وهو ما سيفاقم بالضرورة من معاناة المواطنين. إن هذا التدهور الاقتصادي المتوقع يشكل خطرًا بالغًا، ويستدعي تحركًا جادًا للتفكير في آليات فاعلة للتخفيف من حدّته، وفتح قنوات إمداد عاجلة لإغاثة المتضررين، وهو واجب تقع مسؤوليته أولًا على عاتق الحكومة الشرعية بمساعدة دول الجوار، وفي مقدمتها السعودية.
 
تبدو الحكومة الشرعية رهينة لعدة عوامل معقدة، بدءًا بالانقسامات داخل صفوفها، وضعف تجسيد مشروعها الوطني في إرادة قيادتها، مرورًا بعلاقتها الحتمية بالتحالف العربي، وما يترتب على ذلك من غياب كامل لاستقلالية قرارها الوطني ومسؤوليتها المباشرة عن اليمن ومواطنيه في كل المناطق.
خلاصة الخلاصة إن استمرار الوضع كما هو عليه ينذر بتبعات كارثية على مختلف المستويات والأصعدة، ذلك لأن:
استمرار سيطرة الحوثيين على المشهد في شمال اليمن، بالقوة المفرطة، وبمشاريع ما قبل وطنية، وارتباطها الأصيل بالمشروع الإيراني في المنطقة، فوق رماد من الغليان الشعبي، مع مواصلتهم تدمير مؤسسات الدولة ومقوماتها؛
بقاء الحكومة الشرعية، بمكوناتها الحالية، في حالة من الضعف والارتهان، وانعدام الرؤية الوطنية، فوق غليان شعبي مماثل في المناطق الخاضعة لسيطرتها، إلى جانب تصاعد المشاريع الانقسامية وضعف السيادة؛
غياب القوى السياسية اليمنية المؤثرة عن المشهد، وانكفاؤها إلى الهامش، في ظل انعدام المبادرات السياسية والمجتمعية الجادة والوازنة، بما في ذلك مبادرات السلام الوطنية الجامعة؛
كل ذلك لا يمكن إلا أن يعمّق الفراغ الوطني المدمّر، ويفتح الباب على مصراعيه للتدخلات، ويغلق أي أفق حقيقي لاستعادة الدولة أو الوصول إلى سلام عادل وشامل، والبدء في عملية إعادة الإعمار. سيُفضي هذا الواقع، إذا لم يتغير، عاجلًا أم آجلًا، إلى ضياع تدريجي لليمن، أرضًا وإنسانًا، بكل ما تحمله العبارة من معنى وألم.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً