مرة أخرى، يجد اليمن نفسه ساحة لصراع النفوذ، تتداخل فيها مصالح القوى الإقليمية والدولية، لكنها تلتقي عند نقطة مشتركة إبقاء جماعة الحوثيين في المشهد السياسي، لا كمنتصر ولا كمنهزم، بل كأداة ضغط يتم توظيفها وفق مقتضيات اللحظة.
آخر فصول هذا التوظيف كان مع التدخل السعودي-العماني لوقف التصعيد عقب استهداف الحوثيين لإسرائيل ورد الأخيرة بقصف مطار صنعاء. جاء هذا التحرك -كما سابقاته- ليس من منطلق الحرص على حياة اليمنيين أو وقف معاناتهم الممتدة، بل بدافع حماية الملاحة في البحر الأحمر، واستقرار سوق الطاقة، واحتواء التوتر الذي قد يهدد مصالح الغرب والخليج.
في هذا السياق، تتعامل الولايات المتحدة مع اليمن باعتباره ملفًا أمنيًا بحريًا. لا تسعى لحل جذري للنزاع، بل لإدارته ضمن توازنات إقليمية، تضمن استمرار نفوذها دون كلفة سياسية أو عسكرية عالية. فلا هي تدعم بجدية الحكومة المعترف بها دوليًا، ولا هي تمضي في إنهاء جماعة مسلحة تهدد الاستقرار. النتيجة: تثبيت واقع هش، يفاقم معاناة اليمنيين، ويطيل أمد الحرب.
في الجانب الإعلامي والسياسي، تلعب قطر دورًا ملتبسًا؛ تُظهر نفسها كوسيط محايد، لكنها تساهم في تلميع صورة الحوثيين عبر منصات إعلامية ومنظمات حقوقية تغض الطرف عن الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها الجماعة، من قمع الصحفيات والناشطات، إلى اختطاف النساء والفتيات، ونهب المرتبات، واحتكار الموارد. في الوقت ذاته، تصوّر الحوثي كمقاوم في وجه إسرائيل، متجاهلة تداعيات الرد الإسرائيلي الوحشي على اليمنيين، ومختزلة معاناة شعب بأكمله في صورة صاروخية واحدة.
أما الإمارات، فقد أعادت تموضعها في اليمن منذ 2015، من تدخل عسكري مباشر للخلاص من جماعة الحوثي وعودة الشرعيةإلى نفوذ غير مباشر عبر وكلاء محليين. دعمت تشكيل كيانات سياسية وعسكرية موازية للشرعية قبل دمجها في اطار مجلس قيادي، كالمجلس الانتقالي في الجنوب، والمجلس السياسي في الساحل الغربي. ركزت أبوظبي على السيطرة على الموانئ والجزر والمناطق الساحلية، لضمان مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية بعيدًا عن حسابات الشرعية اليمنية أو التزامات التحالف.
في المقابل، تستخدم إيران الحوثيين كورقة تفاوض في كل جولة من مفاوضات الملف النووي. كل تصعيد عسكري يفتح بابًا للمساومة، وكل تهدئة تتزامن مع محادثات في فيينا أو غيرها. لكنّ الجماعة تجاوزت في الآونة الأخيرة هذا الدور الوظيفي وبشكل مستقل ، حين استهدفت إسرائيل في سلوك محسوب، يهدف إلى انتزاع اعتراف دولي بها كسلطة أمر واقع، والسعي للخروج من قوائم الإرهاب، في إطار صفقة كبرى قد تُعيد تطبيع وجودها السياسي والاقتصادي.
إسرائيل، من جهتها، تنظر إلى الحوثيين كذراع إيرانية تهدد أمنها البحري والجوي ضرباتها الأخيرة لمطار صنعاء جاءت كرسالة ردع، لكنها تتجنب مواجهة مباشرة مع طهران، ما يجعل اليمن ساحة بالوكالة، يدفع ثمنها المدنيون.
داخليًا، تُعد الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا جزءًا من الأزمة. فشلها الإداري، وفساد مؤسساتها، وعجزها عن تقديم الخدمات الأساسية، ساهم في ترسيخ سردية الحوثي لدى بعض الأوساط الدولية كطرف قوي ومنظم. لا مشاريع تُنجز، ولا كهرباء تعود، ولا قرارات سيادية تُحترم. حتى ملف اللاجئين اليمنيين في دول العبور، أصبح خاضعًا لتدخلات خارجية، تُعرقل إنصافهم بذريعة أن اليمن يعيش حالة سلام واستقرار ويسلب حقهم بالمعيشة او التوطين لدول تمنحهم الأمان الاكثر.
هذه الصورة المهزوزة للشرعية اليمنية تُفاقم مأساة الداخل، وتضعف موقفها في أي مفاوضات قادمة، وتترك اليمنيين بين جماعة مسلحة تنتهك حقوقهم، وسلطة عاجزة لا تدافع عنهم.
اليمن لا يحتاج إلى هدنة مفروضة من الخارج تُدار بأدوات محلية، بل إلى سلام وطني عادل، يستند إلى تمثيل حقيقي، وعدالة انتقالية، وسيادة مستقلة. استمرار تدوير الجماعة الحوثية كأداة سياسية، وتسويقها كقوة أمر واقع، هو وصفة لتكرار الحرب بصيغ جديدة.
فإلى متى سيظل اليمن ساحة اختبار لتوازنات الخارج؟ ومتى يكون المواطن اليمني هو الأولوية، لا مجرد هامش في معادلة لا تضعه في حساباته