صنعاء 19C امطار خفيفة

الملف النووي الإيراني: من التهديد بالحرب إلى البحث عن صفقة

2025-05-05

عندما دخل ترامب البيت الأبيض للمرة الأولى، لم يكن في رأسه غير الملف النووي الإيراني والإسهال التجاري والصناعي الصيني الذي ابتلع السوق الأمريكية، وحققت الولايات المتحدة عجزًا تجاريًا معتبرًا أمام الصين.

 
حفز الغرب والولايات المتحدة أوكرانيا على خوض حرب بالوكالة مع روسيا. تم نسف ألف عام من التاريخ المشترك والعقيدة الأرثوذكسية والجذر اللغوي الواحد. تمت تغذية الحرب بالسلاح والمال والخبراء والمرتزقة والدبلوماسية باسم الدفاع عن سيادة أوكرانيا واستقلالها وحريتها، وجد الغرب نفسه مستغرقًا في تناقضات حادة مع القيم التي يروج لها حول (الحرية والاستقلال بالذات)، ففي الوقت الذي وجه الغرب كل طاقاته لإسناد أوكرانيا فعل نفس الشيء لدعم حرب إسرائيل ضد الفلسطينيين (ليس ضد حماس فقط)، وقد تنبه لذلك النائب في البرلمان الأوروبي مارك بوتينغا، فبعد وصفها روسيا بالدولة الإرهابية سأل بوتينغا وزيرة الخارجية البلجيكية، عن الوصف الذي ستطلقه على إسرائيل بسبب العدد المهول للضحايا في فلسطين، بخاصة بين الأطفال، ومنع دخول الغذاء والدواء إلى غزة.
 
الموقف الملتبس من أوكرانيا وفلسطين ينسحب على الاتحاد الأوروبي كذلك، ويظهر سافرًا للعيان، ومحل نقد كذلك، ففي مقابلة له مع صحيفة "EL PAIS" الإسبانية في فبراير 2024، وجه جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، الاتهام لرئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بالانحياز الكامل لإسرائيل في حربها ضد الفلسطينيين، ووصف زيارتها لإسرائيل بأنها شخصية، ولا تمثل الاتحاد، وأنها خلقت "تكلفة جيوسياسية عالية لأوروبا". وكان بوريل نفسه زار إسرائيل ودولًا عربية عام 2023، وسمع نقدًا للاتحاد الأوروبي الذي "لا يتعامل مع حرب إسرائيل على غزة بالمعايير نفسها التي يطبقها على حرب روسيا في أوكرانيا"، ومن شأن ذلك أن يفاقم العداء للاتحاد الأوروبي بين الشعوب الإسلامية، كما قال.
 
الجديد الذي جلبه ترامب معه عند عودته للبيت الأبيض، ليس الحرب التجارية. ولكنه حمل معه أيضًا مفهومًا متناقضًا للسلام والحرب، لكنه من ناحية أكد رغبته في إطفاء الحروب في العالم، وأولاها حرب أوكرانيا، مع اهتمام جدي بتحويلها إلى فرصة تنافسية نادرة. ورغم تصريحاته أنه سيوقفها قبل مراسيم تنصيبه رئيسًا، فإن تعقيدات الواقع الحقيقي كشفت عن نزق أو غرور سياسي ممزوج بوهم العظمة والهيمنة. وحتى كتابة هذه السطور مازالت الحرب في أوكرانيا تراوح مكانها مع تقدم ملحوظ للقوات الروسية. المتغير الوحيد الذي حدث هو أن أوكرانيا تحولت إلى فريسة لحلفائها.
 
التحول الدراماتيكي للموقف الأمريكي من داعم للحرب إلى مناهض لها، أحدث خلخلة هائلة في المواقف الغربية. ولم تتوقف المفاجآت هنا، بل يصر ترامب على استعادة الأموال الأمريكية المبذولة لأوكرانيا كقروض واجبة السداد قدرها بـ350 مليار دولار. الصيغة المقبولة للسداد وفقًا للرؤية الأمريكي الحالية، تكمن في تسليم المعادن النادرة الأوكرانية وبعض المؤسسات السيادية كقطاع الطاقة للولايات المتحدة لاستثمارها، هذه هي الصفقة التي يعرضها ترامب على زيلينسكي. هذه الصيغة فتحت شهية الاتحاد الأوروبي أيضًا، فقد صرّح ستيفان سيجورني، مفوض الاتحاد الأوروبي للازدهار والاستراتيجية الصناعية، لشبكة "CNN"، بأنه ملتزم "بتسريع الشراكة ذات المنفعة المتبادلة" بين الكتلة وأوكرانيا في ما يتعلق بتوريد المعادن.
وهذا يقود بالضرورة، حسب سيجورني، إلى توسيع مذكرة التفاهم لعام 2021 مع أوكرانيا من ثغرة "المنافع المتبادلة".
المهم هنا هو: لمن ستكون الغلبة؟ هل للمطالبين بنصيبهم من المعادن، أم لأنصار استمرار الحرب مهما كانت النتائج؟ لكن المحتمل الأقرب أن تتشارك الولايات المتحدة وروسيا المعادن الأوكرانية على صورة صفقة ما من صفقات ترامب.
 
على النقيض من موقفه من حرب أوكرانيا، فإن ترامب يريد إنهاء الحرب في غزة، ولكن ليس بنفس الصيغة. هو يريد من نتنياهو أن ينهي الحرب بالطريقة الفاشية نفسها، وقد أكد مرارًا على رغبته في أن تنهي إسرائيل المهمة بالصورة المطلوبة، ولذلك زادت الإمدادات الأمريكية من القنابل الذكية الثقيلة على إسرائيل. لا يمكن وصف الأمر بالتناقض، بل هو صميم الالتزام الأمريكي الذي تتبناه الصهيونية المسيحية المتغلغلة في عمق النخب الأمريكية على الدوام.
 

مفاوضات استهلت بالضغوط

 
يوم 12 أبريل 2025، انطلقت الجولة الأولى من المفاوضات غير المباشرة بين إيران وأمريكا، بوساطة عمانية. سبق البداية الواعدة للمفاوضات تهديدات وضغوط متبادلة حول ضرورة إجراء المفاوضات، ففي الوقت الذي بدت فيه الولايات المتحدة مصرة على مفاوضات مباشرة أو فلتكن الحرب، كانت إيران تتمسك بموقفها بأن تكون المفاوضات غير مباشرة. لاحقًا اتضح أن كل تلك المهاترات لم تكن سوى مقبلات لا أكثر. خرج الإيرانيون والأمريكيون في ختام تلك الجولة بانطباعات متفائلة بإمكانية أن تثمر الجهود عن نتائج مقبولة للطرفين. ورغم توارد إشاعات عن توقف المفاوضات، إلا أن الجولة الثانية عقدت في مقر السفارة العمانية في روما يوم 19 أبريل 2025، كما أنها "تتقدم بسرعة"، كما زعمت وكالة "أسوشييتد برس"، ووصفتها بأنها "لحظة تاريخية". وقد أبدت كل من إيران وأمريكا قدرًا عاليًا من المرونة والحرص على نجاح هذه المفاوضات منذ البداية، على عكس ما كان يتوقع من التشدد، فالطرفان يسعيان لقعد صفقة نووية قابلة للاستمرارية. على أنه ليس واضحًا حتى الآن ما إذا كان البرنامج الصاروخي الإيراني سيكون مادة للنقاش في هذه المفاوضات، أم أن الأمر سيقتصر على البرنامج النووي، وهذا مرتبط بمدى قدرة إيران على المناورة.
 
ونسبت مصادر إعلامية إلى بيان عماني القول إن كلًا من إيران والولايات المتحدة اتفقتا على إنجاز "اتفاق عادل ودائم وملزم يضمن خلو إيران تمامًا من الأسلحة النووية والعقوبات، ويحافظ على قدرتها على تطوير الطاقة النووية السلمية".
 
وربما تتوقع إيران أن يكون ترامب قادرًا على ضمان صمود هذه الصفقة، لأن استدامتها تعني بالمقام الأول رفعًا كاملًا لا لبس فيه للعقوبات الأمريكية والغربية، مع دفع مخاطر فرض عقوبات جديدة أو التلويح بالحرب. وتطمح إيران عمليًا لبلوغ هذا الهدف، أي التوصل لاتفاق مفيد وملزم مع الولايات المتحدة قبل أوان انقضاء أمد خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، "التي تسري لمدة عشر سنوات بداية من 18 أكتوبر 2015"، الموضوعة على أساس قرار مجلس الأمن. بمعنى أن إيران لن تبقى تحت رحمة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ووفقًا للقرار ستلغى كل العقوبات الدولية المفروضة عليها قبل الخطة، وعدم جواز إعادة العقوبات مرة أخرى على إيران، بعد هذا التاريخ. ذلك "أن التنفيذ التام لخطة العمل سيُسهم في بناء الثقة في الطابع السلمي الحصري لبرنامج إيران النووي"، و"أن خطة العمل تفضي إلى تشجيع وتيسير إقامة علاقات وأواصر تعاون طبيعية مع إيران في المجالين الاقتصادي والتجاري".
 
عندما انسحب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران فعل ذلك منطلقًا من تصوراته عن الصفقة، الصفقة لم تكن رابحة. ولم تكن هي الاتفاقية الوحيدة التي نبذها. وبالفعل فقد حقق مكاسب كبيرة بفعل تلك الخطوات. وسيشكل الاتفاق الجديد مع إيران في حال التوصل إليه فرصة لترامب والجمهوريين للحديث عن المهارة في عقد الصفقات المفيدة التي تميزه عن أوباما الذي تورط باتفاق 2015، الذي تم نقضه. تسليط الضوء على الاختلافات بينه وبين اتفاق أوباما 2015، فيما ستسعى إيران إلى الحصول على ضمانة لتنفيذه والالتزام به من جانب ترامب، وأن يليه رفع للعقوبات الأمريكية والغربية عنها.
 
تقوم الاستراتيجية النووية الأمريكية في المنطقة على عدم تمكين غير إسرائيل من البرامج النووية. إذ يؤكد هنري كيسنجر أنه إذا قادت مفاوضات "خمسة + واحد"، إلى "تخلي إيران عن برنامجها النووي العسكري، أن تمهد لنوع من التغيير الجذري في علاقة الغرب بإيران، لا سيما إذا جاءت معطوفة على نوع من الإجماع على أن الطرفين سيعملان على لجم الموجتين السنية والشيعية من التطرف الكفاحي المحموم الدائب الآن على تهديد المنطقة". لكن المنطقة التي يقصدها كيسنجر ليس فيها غير السنة والشيعة، فما هي المنطقة التي تهددانها إذن؟ إنها إسرائيل بالطبع... المفاوضات أوصلت إلى نتيجة عكسية أغضبت اسرائيل.
 
لقد تعجل كيسنجر النتيجة النهائية لغزو أفغانستان، فأطلق لخياله العنان، وقال في كتابه النظام العالمي الصادر عام 2014: "تبين أن التحذيرات الأولية حول تاريخ أفغانستان بوصفها (مقبرة الإمبراطوريات) بلا أساس. فبعد عمل سريع قادته قوات أمريكية، بريطانية وأفغانية حليفة، تمت إطاحة الطالبان وإخراجها من السلطة. وفي 2001، أعلن مؤتمر دولي عُقد في بون الألمانية، حكومة أفغانية مؤقتة برئاسة حميد قرضاي، وأطلق سيرورة مفضية إلى اجتراح مجلس قبلي/ عشائري تقليدي (Loya jirga) يتولى مهمة تصميم مؤسسات ما بعد الحرب الأفغانية وتصديقها. بدت أهداف حرب الحلفاء متحققة منجزة"، للأسف، صدر الكتاب قبل أن يشهد هنري الفصل الأخير من السردية، حيث تتأكد صدقية أن "أفغانستان "مقبرة الإمبراطوريات".
 
وهذا ليس كل شيء عند كيسنجر كمنظر للسياسة الخارجية الأمريكية، فقد كان لديه اعتقاد راسخ من أنه تم خلق الظروف المثالية لتحويل العراق إلى واحة للديمقراطية تغدو مصدر إلهام لعملية تحول ديمقراطية في المنطقة، وأن "الديمقراطية العراقية ستنجح، وذلك النجاح سيبعث برسائل إلى أمكنة كثيرة، منها دمشق وطهران، رسائل توحي بأن الحرية قابلة لأن تكون مستقبل جميع الأمم والشعوب". فعلًا، تحققت نبوءة كسينجر حول نشر الديمقراطية ولكن بصورة عكسية تبرهن للمرة الألف استحالة انتزاع مجتمع عن تاريخه وتقاليده وثقافته ووضعه في تربة ثقافية وتاريخية غريبة ورخوة، تنتج تعددية ما دون سياسية بل مناطقية وطائفية ومذهبية.
 
وإذا كان ترامب يركز بصورة أساسية على البرنامج النووي الإيراني كما إسرائيل وكثير من دول المنطقة، فإن الكاتب بريت ستيفنز، يعتقد في مقاله في "نيويورك تايمز" أن المشكلة لا تكمن في البرنامج النووي، بل في طبيعة النظام الإيراني "طابعها الأيديولوجي، وطموحاتها الجيوسياسية، ومعاداتها الشديدة لأمريكا والسامية، إضافة إلى سجلها الطويل في دعم الإرهاب"، وأن إيران عادة ما تضرب بالاتفاقات الدولية عرض الحائط، وأن "لإيران سجلٌ موثقٌ غنيٌ بالغش في اتفاقياتها"، وأن هذه الحقيقة قد "كشفتها إسرائيل عندما سرقت أسرار النظام النووية من مستودع في إيران عام 2018"، ولكن الكاتب يغض الطرف عن السجل الحافل للولايات المتحدة وإسرائيل وغيرها في نقض العهود والمواثيق.
 
ويستطرد الكاتب أن فرنسا وبريطانيا مثلًا، تمتلك السلاح النووي، ولكن "ليس كثير من الناس يشعرون بالقلق تجاههما"، في حين أن طبيعة النظام الإيراني "قد تدفعه إلى التلويح باستخدام الأسلحة النووية". المشكلة أن الكاتب يتناسى عن قصد أن استخدام السلاح النووي بدأ من قبل الغرب المتحضر (في اليابان وفي إسبانيا ولو عن طريق الخطأ، وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة هي من استخدم اليورانيوم المنضب في الحرب ضد العراق)، ويتجاهل عامدًا الدعوات الإسرائيلية لاستخدام السلاح النووي ضد غزة. والطيب في المقال هو توثيق أن إسرائيل (هي دولة السرق).
 
ويقترح الكاتب أمام المعضلة الحالية إبرام صفقة "التطبيع مقابل التطبيع" بين الولايات المتحدة وإيران، حيث تُستأنف العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين طهران وواشنطن، بما في ذلك إعادة فتح السفارات ورفع العقوبات وصولًا إلى توريد الأسلحة لإيران، يكون ذلك عندما تبدأ إيران "بالتصرف كدولة طبيعية". ويعدد مواصفات الدولة الطبيعية التي يجب أن تظهر بها إيران: "عدم تمويل أو تسليح جماعات إرهابية تُشعل حروبًا إقليميةً وتُعطّلُ التجارةَ العالمية، ولا تُخصّب اليورانيوم أو تُنتج البلوتونيوم، ولا تحرض الدول للقضاء على الدول الأخرى، ولا تشنق المثليين جنسيًا". ويقترح الكاتب على ترامب إرفاق ذلك بالتهديد العسكري كأن يوفر لإسرائيل الوسائل لضرب المنشآت النووية الإيرانية، في حال لم تستجب طهران، وهذا ما يحدث عمليًا، ولكن بسيناريو مختلف من حيث الشكل.
 

الأطراف اليمنية والرهان على المعادلة المستحيلة

 
في كتابه المشار إليه آنفًا، أشاد كيسنجر بتجربة الدولة الفارسية. فعلى الرغم من حدة النقد الذي كاله لنخبها السياسية والدينية ووصفها بأنها "راعية للإرهاب وتقتل المثليين وتصادر الحريات"، فمع كل ذلك نظر إلى التاريخ الفارسي بإعجاب، وأكد أن إيران تتكئ على تجربة تاريخية وسياسية غنية، وتمتلك إرثًا كبيرًا في فنون السياسة وإدارة الدولة. بمعنى أن إيران برغم المثالب التي تؤخذ عليها، إلا أنها تتصرف كدولة في كل الأحوال، وهي تعمل وتتصرف انطلاقًا من مصلحة الدولة بإرثها الفارسي الإمبراطوري بغية تطوير قدراتها الاقتصادية والعسكرية في آن. ويعني كذلك أن لديها القدرة على انتهاج سياسة برجماتية طويلة النفس مقترنة بالقدرة على التكيف وإعادة ترتيب أولوياتها وفقًا لمتغيرات موازين القوى الدولية.
 
وبالنظر إلى طبيعة تشُّكل النخب السياسية والدينية والقبلية اليمنية، تبرز شكوك كثيرة حول إمكانياتها في بلورة مشروع وطني جامع وشامل ينهي انخراطها في حرب لم تحدد هي أهدافها، ولم تعد هي الفاعل الأساسي فيها. ذلك أنها جميعًا مستغرقة في كيفية الاستحواذ على السلطة أو حتى الاحتفاظ بما وقع تحت يدها. الدولة مشروع مؤجل مادام الوضع الراهن يوفر منافع أكثر مما توفرها الدولة، في حالة وجودها.
 
لكن يمكن تقرير بعض الحقائق، التي لم تعد خافية على أحد:
 
أولًا: أن مشروع الحرب بإطاره الوطني أو حتى المناطقي قد صار إلى فشل.
 
ثانيًا: أن جميع الأطراف قد فشلت كذلك في إدارة المسألة الاقتصادية، كما فشلت في إدارة الحرب، وضع الخدمات يعطي صورة مكثفة لذلك الفشل. وازدهار الفساد المترافق مع شعارات مكافحته يرسم صورة كاريكاتورية أشبه بالكوميديا السوداء. كما رسم الإخفاق ملامحه على صورة التحالف، ليكون عنوانًا للفشل المركب الذي ينعكس على حياة كل فرد في هه البلاد.
 
ثالثًا: أن السياسات النقدية التي تم اتباعها برهنت على خطلها، وأكدت أن تحول البنك المركزي إلى صالون لبيع العملة الصعبة لم يعينه على كبح جماح انهيار الريال، لأن المشكلة ليست في انعدام العملة الصعبة في السوق، بل في سوء إدارة الكتلة النقدية الوطنية، وتصحيح اعوجاج دورتها من وإلى البنك المركزي.
 
رابعًا: أظهرت الحرب الحضور القوي للانتهازية عند الساسة والبنى السياسية والقدرة على القفز على مختلف الحبال مقابل غياب البراغماتية في التعامل مع مختلف القضايا الوطنية وتحديد أولوياتها مع كل منعطف جديد.
عندما اشتعلت الحرب في أوكرانيا قلنا إن الحرب في اليمن تحولت إلى مجرد تفصيل صغير في اللعبة الجيوسياسية الكبيرة التي تدار على المسرح العالمي، مع ذلك وجدت الأطراف المحلية نفسها محشورة في أتون تلك الحرب تبعا لمواقفها مما يجري هناك دون أن يعود ذلك بمنفعة على مسار الوضع الوطني. وبسبب من جوهر علاقات هذه الأطراف بحلفائها آل بها الحال إلى فقدان أطراف (الشرعية) وما أكثرها للموقف الروسي كحليف بصورة مبكرة للغاية، بينما لم يصبح الحوثيون حلفاء لموسكو، ولكن ذلك لن يمنع قيام تعاون الضرورة بين أنصار الله (الحوثيين) والروس، وهذا ما أشار إليه محللون روس بعد أن تم إعطاء أوكرانيا الضوء الأخضر لضرب العمق الروسي بالسلاح الغربي.
 
احتمال أن تصير المفاوضات إلى فشل مسألة واردة. لكن كما بينا أعلاه فإن هناك مصلحة للطرفين بعقد صفقة من نوع ما تحفظ ماء الوجه إذا لم تحقق مكاسب ملموسة، حتى لو برزت بعض إشارات التوقف أو إعادة تركيز الضغط.
 
تريد أمريكا من إيران تجميد برنامجها النووي بحيث لا يشكل تهديدًا جديًا لإسرائيل لأسباب معروفة بالنسبة للمصالح الأمريكية الإستراتيجية والعاطفية، كما تريد الوصول الحر للموارد الإيرانية كما كان عليه الحال في عهد الشاه أو بصورة متفق عليها، يعني تريد العودة على حالة التحالف السابقة. وتريد النفوذ إلى آسيا الوسطى وإزاحة روسيا والصين من هناك، بما يسمح من تطويق البلدين.
 
إيران لديها القدرة على إعادة ترتيب أولوياتها. هناك أولويات يمكن أن تتراجع للخلف. فاليوم لم تعد مهمة تصدير الثورة الإسلامية تشكل أولوية بالنسبة لإيران، ولم يعد مصير حلفائها الإقليميين من الأنظمة والجماعات يحتل أولوية قصوى كما كان قبل سنة تقريبًا، وقد ظهر ذلك بالمساومات التي تمت في سوريا. الأولوية الإيرانية اليوم تتمثل في حماية برنامجها النووي والصاروخي، وقبل ذلك حماية النظام ذاته، فبقاء النظام يمثل أولوية قصوى مقدم على أي اعتبارات. في هذه الحالة يمكن لإيران التخلي عن كل الجماعات في المنطقة.
 
أهم إنجاز لإيران في حال نجاح المفاوضات هو أنها ستحافظ على برنامجها النووي، وتستعيد أموالها المجمدة، وستُرفع عنها العقوبات المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231. هذا غير الفوائد الاقتصادية والسياسية التي ستتمتع بها تبعًا لذلك. وليس من المستبعد إعادة العلاقات الإسرائيلية الإيرانية.
إذن، ستقع الأطراف المحلية وبخاصة (تحالف المعهد الديمقراطي) في ورطة حقيقية لو وجدت نفسها في وضع لا تستطيع معه إعادة ترتيب أهدافها، والورطة الأكبر لو أنها راهنت على معادلة صفرية في المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران. إيران منطقيًا لا يمكنها تحقيق انتصار حاسم على الولايات المتحدة وفقًا لكل المعايير العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية، كما لا نتوقع أن تذهب أمريكا نفسها لهذا الخيار مع إيران، لأنه مشكوك فيه كما تبين تجربة أفغانستان، وهي إن حاولت فعل ذلك ستردم الهوة التي عمقتها بين الشيعة والسنة، كما أنها ببساطة ستفقد واحدة من أهم أوراقها: أن تظل إيران ورقة ضغط بيدها، ورقة للتخويف.
 
لكن ماذا لو راق مزاج ترامب المتقلب أثناء المفاوضات، وأبرمت في خاتمة المطاف صفقة إيرانية -أمريكية مربحة تضم الحوثيين؟
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً