بينَ لَوْنَين، دَيانتين، قُرَيْشَين.. دردشة مع رفيق علي أحمد: بل زيتونة تعصر تنكتي زيت! - محمد العبسي

بينَ لَوْنَين، دَيانتين، قُرَيْشَين.. دردشة مع رفيق علي أحمد: بل زيتونة تعصر تنكتي زيت! - محمد العبسي

في «زواريب» لممدوح عدوان، يُمثِّل، رفيق علي أحمد، المسرحي اللبناني، دور زبّال. ومن أكياس الزبالة، التي يفتحها، يومياً، كيساً فكيساً، يعرف المستوى المعيشي، لكل كيس: مادياً وأخلاقياً!
إذْ، فالكيس الخارج من فيلا ما، أسمن، بالضرورة، وَأَفْيَد، من كيس الزبالة، القادم من شُقَّة، يقطُنها خضرواتي، في بناية سكنية. فضلاً عن أن الكيسين، كمحتوى، يقولان لك، علانية: إن في الأول أكَل، وفي الثاني كَنْس. إنّ الأول لثري لُحومي، والثاني لفقير نباتي. وان لدى الأول، افتراضاً، سيارة وسائق، وان الثاني، حقيقة لا افتراضاً، هو ذاته، «شُوفير البيك»، المُوجَّه، يميناً ويساراً، في السيارة وخارجها.
إزاء كل ذلك؛ لا يملك رفيق علي أحمد، الزبال في المسرحية، سوى التعبير عن نقمته وسخطه، بالسير، على خشبة المسرح، جيئةً وإياباً، والصراخ، في لحظة ذروة، بأعلى صوت: «إِنكُمْ حرامية.. إنكُم سراقين.. إنكم...!!».
بالمقابل؛ لو تجولت، في شوارع صنعاء، عشيةً، ستجد، بالتأكيد، أشخاصاً ملثَّمين، يبحثُون، بمصباح يدوي، في الزبالة، عن قطعة غيار تُؤكل. أو شِوَالٍ يُلبس. ثم؛ بعد حَكْشٍ ونَبْش، يختفُون، في غمضة عين، دونما احتجاج، وكأنهم، وهم كذلك، راضون وممتنون!
النمل؛ في الأصل، زبَّال، كهؤلاء. عدا أنه، وهو العُمالي، بطبعه وطبيعته، يجمع الروث الآدمي: قِشرةً وحُبوباً. قرعاً وذُرةً. لينقلها، بعدئذ، في شاحنات سوداء صغيرة، إلى مخازن، وصوامع غلال، تحت الأرض. هنالك، حيث الجميع متساوون: في الحَمْلِ والرّصِّ. في الحقوق والواجبات. في الإنفاق والإدخار. وفي الوقوف، صباحاً، بالطابور المدرسي. لا يوجد في مجتمع النمل، برميل قمامة، يجمع، في كيس: الزبّال باللص. المعزة بالذئب. موزارت بساليري، على سينمائيتها، كحقيقة. أو يجمع يوسف، الفرد، باخوته: العُصبة، الجماعة، الحزب، الطائفة!
في مجتمع النمل، يارفيق، لا يحرق أحد مسرحاً، كحالتك، أو يُغلق دار نشر. لن يأتي إليك «وفد» من القوات اللبنانية، الحزب، ليقول لك، بامتغاصٍ وبلاهة، إن مسرحية الجرس، التي لم يروها، تُسيء إلى المسيحية، ومعتنقيها، أيّما إساءة. وإنها، بعدئذ روأها، تسيء إلى الإسلام، حُكّاماً ومحكومين.
هذا كثير!!
ورفيق، اليساري لحيةً، المارسيلي سحنةً، والعكس، هو، بامتياز، نواة الكوميديا السوداء، عربياً. هو، في أعماله المسرحية، فرديةً خاصة، جُزئي الفكرة، كُلِّي التفكير والمعالجة. وهو، ويخطر الماغوط، «رصاصة مشحونة بالبكاء»، والضحك.
على خشبة المسرح الجماعي؛ المنقرض حالياً، بلبنان، ناهيك بغيره، بدأ، رفيق علي أحمد، في فرقة الحكواتي، بصحبة روجيه عَساف ونضال الأشقر، لينتقل، تالياً، إلى المسرح الفردي (منودراما)، فالمسرح الغنائي الرحباني، بُركنيه: منصور وعاصي؛ فكان جبران وسقراط. أبو عيسى المعاز وسعدون الراعي.
في الجرس، وهي من تأليفه، ينشر؛ غسيل المجتمع، بأمراضه وأوبئته، بقمصانه وسراويله، بلبنانيِّه وعربيه، على حبل «فضّاح». فالبطل، بعدئذ، يغسل الثياب، بيديه، كالقرويات، في الطشت النحاسي، المُثَّبت برجليه؛ يُخرج، من الطشت، على صُغره، ثياباً كثيرة: زرقاء وحمراء. صافية ومُبقّعة. فاخرة ومازقة.. وفي هذه الثلاثية: الثياب، القبّاض، الحبل، يُمكن قراءة المسرحية، على بساطة الفكرة وعمقها، قراءة بصرية مجردة، تجمع، في عدسة، دلالات، الدَّوَال الثلاث الآنفة، تكبيراً وتقريباً.
ففي اختلافية الثياب: لوناً ومظهراً. لبساً وخلعاً. جنساً وجنسية. فمذهباً واعتقاداً؛ تُختصر، تناقضات المجتمع وتلوّناته، وتنجح، رمية الهوكي، الأولى، في إصابة أهدافها و«تفوت».
القبّاض، ثانياً، مَمْسَك فوقي. أو شعار، تنتُجه، في صيغة حلم، وكفاح، السلطات الثلاث: دينية، سياسية، اجتماعية. للإمساك، من فوق، بالثياب. إمّا بدواعي أمنية أخلاقية (السقوط على الأرض) أو قومية (الوحدة). أو ماشئت. الحبل، حبل الغسيل، المغلوب على أمره، ثالثاً، هو الـ«وطن»، ولا شيء سواه.
قريش والأَرَضَة.. أوجلان و«الأخدام»
في قفص «أحلى الناس»، البرنامج الثلاثائي، على تلفزيون المستقبل، حلَّ، الأسبوع الماضي، رفيق علي أحمد، ضيفاً، على اسئلة زاهي وهبي، الشاعر والإعلامي، لثلاث ساعات إلاّ. خرج هو، بانتهاء البرنامج، من القفص. ودخلت أنا، بإطفاء التلفاز، إلى غرفتي. عدا أنّ أسئلة، من يفترض أن يكون مجيباً، انتقلتْ، بلفيفها وشتيتها، إلى رأسي، حاملةً، معها، تبغاً ومنفضة. وحجر نرد.
قُلتَ، بالعامية اللبنانية، للشباب، باستديو البرنامج، فتياتٍ وفتيانا: «أنتو بَدْكُم هذا النظام الطائفي». أخذتُ السؤال، على محمل الجد، وذهبت بعيداً، مُستبدلاً «أنتو» بـ«احنا» أو «هُمّا» فتُهتُ. أَو كِدت.
في روايته «مات الرجل» يصور النيجيري النوبلي، وول سونيكا، كيف كانت سجون حكومة غوون، من البشاعة والتمييز: فالسجناء، المنتمون إلى ابيادان أو لاغوس، يعيشون حياة مُرفّهة، قياساً بأقرانهم المنتمين إلى إقليم الإيبو -الغرب أوسطي. وإن كانوا، في نهاية المطاف، جميعاً، سجناء.
كان السجناء الأيبوويون ينامون، ُعراةً، على الأرض، فيما البطانيات، في العنابر المقابلة، مرصوصة إلى قُرابة السقف. دعك من السجائر. فالأقسى، حرمانهم من المناشف والاستحمام، واستنشاق الهواء الطلق، المباح لغيرهم، عدا في اللحظات الخاطفة، لتناوبهم، سجيناً فآخر، على تفريع سطل الخلاء: السطل «المنتظر»!.
 لو سألتَ، هؤلاء، المضطهدين، بالسجن وخارجه، يا سيد رفيق، ذات السؤال، «أنتو بدكم هذا النظام الطائفي»، لأجابوك ب: نعم ونعَمين. لو سألت، كذلك، رئيس حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، المعتقل في سجون أنقرة، لأجابك، في تعب: «ياريت»!
يمنيَّاً، ستسمع، إجابة مماثلة، على لسان شريحة، حاضرة في نسيج المجتمع وغائبة. داخله وخارجه، معاً. تحت، وليست، قطعاً، فوق: هم أصحاب البشرة السمراء، من نسل مقموع . والاسم اليمني، لهؤلاء، هو (أخدام). ربما لألوانهم، لشعورهم المكرونية، لطريقة عيشهم، المُزرية نوعاً ما، للروائح المتشنجة الطالعة، من بيوت الصفيح، حيث يسكنون، كفصل تائه من رواية باتريك زوسكيند العطر.
في شارع المطاعم، تجدهم، أطفالاً ونساء، يتسولون طعاماً. نقوداً، في غيره. بعضهم يعمل، في غسيل السيارات. وكثيرهم، يعمل، بالبرتقالي، في النظافة: مُكنِّسين وزبالين (ياللمفارقة)! لكنهم، كما أسلفت،ليسوا كزبال زواريب.
بشار مارسيل خليفة مُزَيِّناً!
وإذن: فالنظام الطائفي، بلبنان، نعمة للبرّاني. نقمة للجواني. قبل أسبوعين، صدمتُ، إذ عرفت، من صديق لبناني، أن بلد الأربعة فصول، لا يوجد فيه سجل للأحوال المدنية، كذلك الذي لدينا، من باب التباهي، في الخفجي!
أنّ بلد الأربعة فصول، يضيق بفصلي: الربيع والخريف، الشتاء والصيف، لو قررا، منفردين أو مجتمعين، الزواج، هكذا، نهاراً جهاراً، مارونياً بشيعية. سُنّياً بأرمنية.مطراً بثلج. خضرة بصفرة.
ولهذا قُتلتْ أميرة علي أحمد، شقيقة رفيق؟
لهذا اضطر والدا الصديق، إياه، أرمني وشيعية، إلى السفر لقبرص كيما يتزوجا. على أن اختلاف الدين والطائفة، سبب وجيه، نوعاً ما، بالنظر إلى ممانعة داخلية بين معتنقي الدين الواحد، كالتي لدينا. فالمجتمع اليمني، لا يزال، وائداً وحشياً، لكل محاولات الزواج، على ندرتها، بين: القاضي وبنت الجزار. الحلاق وبنت الشيخ. فالسيد وبنت المزمَّر أو الطبال!
ليست المسألة فارق طبقات، وغنى وفقر. انها هرمونات جهالة، أورثنا إياها، النظام الإمامي، شمالاً لا جنوباً، برفعه من شأن ثلاثة (السيد، القاضي، الشيخ)، وحطِّه من شأن ثلاثة (الجزار، الحلاق، المزمر) ناعتاً إياهم بـ«المزَاينَةْ»! وفارضاً عليهم.. مجتمعياً، التناسل، لعدة عقود، وفق تراتبية: الجزار للجزارة والحلاق للحلاقة، وهكذا..
 احترم الوجاهات والتخصصات، نوعاً ما خصوصاً القاضي، ذي المؤهل القانوني والفقهي. لكني، في الوقت نفسه، احتقر، بشدة، من يُنظر للحلاق، بازدراء، لانه حلاق، احتقر الإرث، الذي يُسمِّي بشار مارسيل خليفة، ذا اليدين الساحرتين، في لغته، مُزَيِّناً. وبالتالي، فليس بوسعه، لو أراد الزواج، سوى الزواج من مُزينة!
فضيعٌ جهل ما يجري. على أن لهذا، في التاريخ العربي، نماذج أبشع، يتصدرها أبو سفيان والقريشيون، إذ قاطعوا محمداً صلى الله عليه وسلم، كفرد، وبني هاشم كقبيلة، ومن والاهما، فلا «طعام يباع لهم، أو يُهدى، لا نتزوج منهم ولا يتزوجون منا لا بيع لهم ولا شراء» على هذا تعاقد سادة مكة، ليطرد المسلمون، إلى شعاب الجبال، حولين كاملين، حتى تدخّلت الأرضة!
أَيْنَكِ يا أرضة. اليوم؛ أمَا وقد ولى زمن المعجزات، واستبدلت الصحيفة القُرشية السياسية، بالعيب الاجتماعي؛ أظن الحب، والفن، وحدهما، أرضة الخلاص.
لو اردت الحب، ففي قران رفيق علي أحمد، المسلم، بعقيلته أم جبران، المسيحية، ذلك. بدءاً بـ«مرحبا»، من مارة لجالس، وانتهاءً، باقتسام سرير، وسقف، واحد.
ولو أردت الفن، إذ يثأر من المجتمع، فقد انتصر رفيق، لشقيقته المقتولة أميرة، لـ«زواجها من غير طائفة»، بمسرحية (قطع وصل) الحالم بطلها، وهو المقيم بمصحة، بوطن خارج الشعارات. وظنِّي انه لا يزال يحلم.
جزئياً؛ في لوحات، رائد التشكيل اليمني، هاشم علي، انحياز مطلق، للطبقة الأكدح: صياداً وحداداً. بائعة العمب وضارب الطار. فالمُزمّر والطبال.. كمواطنين درجة ثالثة.
أبعد من ذلك، واكثر تأثيراً وانتشاراً، العمل السينمائي، الرفيع والجاد، يوم جديد في صنعاء القديمة، للمخرج البريطاني، يمني الأصل، بدر الحراسي، المحظور، يمنياً، لتناوله الزواج بين الطبقة «السامية» (سيد، قاضي، شيخ) والطبقة «الوضيعة» (جزار، حلاق، مزمر)!
لبنان: فاست1975م
حيثما كان رفيق علي أحمد؛ أكان على خشبة المسرح، أو في مقابلة تلفزيونية أو حتى في مكالمة تلفونية، يستطيع، أن يُحدث لدى الطرف الآخر، المتلقي، انفعالاً. وهذا هو الفن: «أن يُحدث عندك انفعالاً».
في ذروة حديثه مع زاهي، تكلّم؛ واحمّرت عيناه، وغلَتْ نبرة صوته، عن زيتونة بالقرية كانت تعصر تنكتين زيت. اليوم، يشعر أنه، جذع صغير، في تلك الزيتونة، لا يصلُح لأن يكون حطباً للموقد.
سأله زاهي عن أجمل صوت، فحدثه، عن صوت طائر، قادم من الغابة، تعلق به صغيراً. كانت امه تقول انه من «الزيتونة الفلانية» فيركض إلى هناك، لكنه، لكثافة الأشجار، لا يراه.
ثم تأتي المصادفة، بعد عقود، في حديقة حيوانات بالشارقة. هناك، شاهد، لأول مرة، ذلك الطائر. سأل عن مختص الطيور، في الحديقة، لمعرفة اسمه، فكانت الإجابة «مسافر من جمعة!». وهكذا، هو حظ، وكوميدية حياة «شَأْفِة» الممثل.
قبل شهرين، احتفت صنعاء، العصامية، بلبنان، المنكوب بعد الحرب، مستضيفة، في صباحة ضافية، نقيب الفنانين اللبنانيين، المستقيل، على هامش معرض الكتاب. يومذاك، تحدث، بحميمة ودعابة، عن فكرة التمثيل، كيف بذرت ونبتت. عن ست الحبايب، إذ ودعته، بحنان وحكمة، قائلة: «ستمتهن مهنة جوعى شعبى». فيما قال والده، أو مختار الضيعة، كما أذكر: ضااااااااااع الولد!
أبدى، في أحلى الناس، رغبته بالسفر إلى كندا، كفترة نقاهة، وكذا هرباً من الضغط الطائفي، والبلد الذي صار «كِلَّو فاست فود». على أنه إذ يعود، بحماسة وطاقة، سيكون لبنان، ربما، فاست: 1975م.
يا رفيق: شكراً.
absi