وأخرى.. حياة في ال inbox

وأخرى.. حياة في ال inbox

 

وكنت تحفر في الألم جيداً، ألملك، والناس في أعيادها. مثل «ليوفيري» العجوز الفرنسي، المطرب بشعره الأبيض كقطن والمتطاير خلفه. تحفر في الألم جيداً مثلما يفعل مغنياً للفوضى وأصحابها. للوجوه التي التقيناها صدفة أو بحثنا عنها تحت المطر.
لسفر الاشياء والذكريات في غيابها وابتعادها تدريجياً ومع الوقت. مغنياً للمطر والقطارات والوداعات التي تحصل بلا توقف على أرصفة محطاتها. مغنياً لعصفور عُثر عليه متجمداً ووحيداً في عشه. مغنياً المواعيد التي لا تتحقق ولا تأتي والرسائل التي تضل عناوينها ولا تصل. مغنياً الدموع التي لا تنزل وتبقى في العيون لسنوات حتى تصيب اصحابها بالعمى. مغنياً العمر الذي يذوب كقطعة سكر في ماء. مغنياً للريح التي تأتي منتصف ليال باردة طارقة باطابعها على الابوا، كأنها تذكر بأحبة وأصدقاء غائبين يكاد سقوطهم في النسيان وشيكاً.
تحفر في الألم جيداً. كنت، وتقوم بتأجيلة، التلاعب والقفز عليه. كنت تفعل هذا مأخوذاً وبشغف بطريقة صموئيل شمعون في الحياة والمنهج الذي كان يسير عليه قافزاً على آلامه بواسطة تأجيلها. هو صموئيل شمعون من طرح بين يديك طريقة حياته تلك وانت تلهث بعينيك ملتهماً سطوراً وصفحات كتابه «عراقي في باريس» أو سيرته الذاتية. صموئيل الذي عاش لسنوات بلا مأوى وما يفعله هذا من آلام كثيرة. وعندما كانوا يسألونه كيف يتعامل معها كان يجيب بتلقائية وبسرعة: «أؤجلها.. أحاول أن أؤجل آلامي إلى وقت آخر».
هو فن تأجيل الألم. السير بعين مغمضمة والقفز على نتوءات اليومي وما فيها. ما يخرج امامك فجأة محاولاً التعكير عليك والنيل من اصرارك عدم الالتفات لكل ما يؤلم ويجرح ويشوش. هو فن تأجيل الألم أو مشاهدة الصورة من جهتها الخلفية، الجهة التي لا يراها أحد سواك، الجهة التي لا شيء عليها وتبدو بيضاء تماماً. الجهة التي ترقص لك وحدك وتبتسم كأنها تورطت بك واختلطت بما لا يمنح بعد ذلك امكانية لانفصال او فراق. أو كأنها تشفق عليك وأنت الوحيد تماماً والبردان والذي بلا أهل أو صحبة.
والأن، وأنت في صباح يناير 2007 والناس تنام على أعيادها كما تصحو راقصة مغنية عليها. تبدو رخيصاً ولوحدك مثل حصى منثورة بهباء على طريق جبلية. تبدو وحيداً كأكثر ما تكون الوحدة مهينة مترمدة ووسخة. وحيداً كعلبة مشروب غازي، صدئة، مدهوسة وملقية في صحراء. وأنت في 1 يناير 2007 وفي البرد، مطروحاً كخروف بين يدي سكين حادة ومبرودة كما ينبغي حتى تليق بأداء مهمتها. وأنت مسلوخاً ومعلقاً بحبل تم تثيبته جيداً على جدار، على خشبة ناتئة فيه. مسلوخاً ومعلقاً من قدميك، رأسك إلى الأرض فيما عينك ذاهبة في عد ذرات ترابه، وانت في 1 يناير 2000٧.
وأنت في كل ذاك لكنك بدوت هادئاً في اليوم التالي ومطمئناً إلى راححة بالك وقلبك. بدوت مطمئناً وواثقاً ان الرسومات البيانية التي خططتها لقادم ايامك تظهر سائرة إلى هدفها بوثوقية خطوات جندي أصيل، لا يتألم لا تصدر عنه أنه واحدة، ولا يشكي للسماء.

- جمال جبران