فلسطين.. من أين يأتي الخطر؟!

فلسطين.. من أين يأتي الخطر؟! - عبدالباري طاهر

يتعرض الشعب الفلسطيني حاليا لمحنة قاسية لا تقل هولاً وخطرا عن كارثة 48 الشنيعة. وربما كانت المحنة الداخلية أقسى لأنها قتال "الإخوة الأعداء وظلم ذوي القربى" وقتال قابيل وهابيل كترميز العهد القديم والقرآن الكريم. وأيضا لأن هذا القتال لو استمر وتصاعد سيأتي على ما تبقى من حلم استعادة الأرض المغتصبة، وعودة اللاجئين، وبناء الكيان الوطني، وإظهار نظام الفصل العنصري -إسرائيل- وكأنها ارحم من قتل "قابيلـ" أخاه "هابيلـ".
والسؤال المتفجع، ما الأسباب الحقيقية وراء التوتير البالغ نقطة اللاعودة، وحملات التخوين والتكفير، وحرب التصريحات المجرمة، وبدء مسلسل الاغتيالات التي وصلت إلى الأطفال وامتدت إلى الزعامات، ثم انفجرت في مواجهات شاملة في ارض محتلة تتعرض يوميا للاجتياحات المتكررة، وتغتال إسرائيل فيها الحياة، حياة الناس والشجر والحجر؟!
وإذا كان من أهم ايجابيات وانجازات أوسلو عودة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وكوادر من مختلف الفصائل فإن الأكثر خطورة هو سرعة التحول إلى جهاز دولة، وبالأخص في الأجهزة الأمنية ذات التسميات العديدة، والتركيز الكبير على بناء القوة الأمنية، والأذرع المسلحة المرتبطة ببروقراطية فاسدة لا سلطان لها إلا على ارض محتلة، وشعب يخضع لنظام فصل عنصري ويتعرض يوميا بالاحتلال للإهانة’ القومية، والتدمير والتقتيل. فيعاني الفلسطيني من قهر مركب و ظلم مزدوج. فهو ضحية الاحتلال القاسي والعنصري و“لدولة“ تفاوض باسمه تحكمه وتعجز عن حمايته.
ولجهاز بيروقراطي، وأحزاب ذات مليشيات عسكرية. وبالأخص التابعة لفتح وحماس والتي غالبا ما يكون وجودها في الشارع موجها ضد بعضها وضد الحياة السياسية بعامة.
لقد عملت هذه المليشيات المسلحة على عسكرة الحياة والزج بالانتفاضة الثانية في مواجهات عسكرية غير متكافئة، وعشوائية. وأحيانا تتجه للأهداف المدنية التي تعود بالخسران والضرر على القضية الفلسطينية وسمعتها وعدالتها أكثر من أي شيء آخر!
إن خطورة عسكرة الحياة لا تتجلى في شيء كتجليها في إضعاف التعاطف العربي الضعيف أصلا. وفي إعطاء التبرير للقمع الفاشي الإسرائيلي المتواصل منذ أمد بعيد. كما انه يخلق الالتباس والخلط بين الضحية والجلاد. وينزع عن القضية الفلسطينية العادلة طابعها الإنساني وروحها الأخلاقية وقيمتها الكفاحية.
وحقا فان تزايد نفوذ هذه الأذرع المسلحة قد بهت منطق المطالب الوطنية، واللغة السياسية. ووضع السلاح كخيار رئيس ووحيد وذلك ما يفسر ضعف القوى الديمقراطية و خفوت صوت المنطق والعقل في صراع الإخوة الأعداء.
فسوء استخدام السلاح سواء في مواجهة العدو المغتصب الأرض أو الرهان عليه في حسم الخلافات الداخلية، وانغماس القيادات الفلسطينية في الفساد، والرضوخ للضغوط الخارجية: عربية كانت أو غربية أو إسلامية، وتغليب ما هو ثانوي في الصراع على ما هو رئيس، كلها أخطاء قاتلة.
كانت الخطيئة الكبرى ولا تزال، تصرف القيادات الفلسطينية، سواء منظمة التحرير أو حماس، بعد الانتخابات وكأنها دولة كاملة السيادة غير مقدرة خطورة صراعاتها الثانوية في ظل الجنوح الإسرائيلي المجنون لشطب القضية وتحويل الشعب الفلسطيني إلى لاجئ داخل وخارج أرضه.
الاحتياجات الإسرائيلية شبه اليومية والاغتيالات المتكررة للزعامات الفلسطينية وبالأخص في حماس في الفترة الأخيرة طبعا، والتوسع في بناء المستوطنات، والجدار العازل كلها قوّت عضلات العنف و سهلت على حماس والأذرع المسلحة في فتح والشعبية والجهاد عسكرة الانتفاضة وتبهيت السياسية والعقلانية. لذا فلا غرابة أن ينتصر التشدد ويشيع العنف.
كان انتصار حماس نفسها تعبيرا عن أزمة حركة التحرير الوطني الفلسطيني وفشل الرهان على حل سياسي عبر الحوار والتفاوض. الأمريكان بعد أحداث ال11 من سبتمبر مالوا أكثر فأكثر للعنف.
التطرف الأمريكي رافد كوني تمتد آثاره التدميرية إلى زوايا الدنيا الأربع. ويمثل الشرق الأوسط مصبا من اكبر المصبات بفضل الثروة النفطية الكبيرة، والموقع الاستراتيجي المائز وضعف وهشاشة دوله. فهذا التطرف يضاعف من تزايد تطرف الدولة العبرية المتطرفة أصلا. كما أن التطرف الأمريكي والإسرائيلي يخلق تطرفا على شاكلته في طبيعته الايديولوجية الدينية، وتطويع السياسة للسلاح. كان انتصار حماس “ غير المتوقع “ معطى من معطيات الحرب الإرهابية التي يقودها بوش باسم مكافحة الإرهاب خصوصا في العراق وافغانستان. ويمثل الإرهاب الصهيوني أحد تجلياتها الكريهة.
 ما نشهده من انفلات العنف في الشرق الوسط: العراق، فلسطين، السودان، الصومال مظهر من مظاهر التطرف الأكبر في البيت الأبيض، وتجل من تجلياته. ويرفد كل منهما الآخر.
لا شك أن لهذا التطرف الدامي جذوره في البيئة المحلية، وفي فساد واستبداد عريقين ولكن ما يعطي لهذا العنف ضراوته هو الامتزاج والترافد بين التطرف الخارجي والداخلي ويصبح الخارج أقوى من العوامل الداخلية ويطوعها لرياحه الآتية وتوجهاته الجهنمية.
في فلسطين، كلبنان، يصبح العامل الخارجي في بعض الجوانب أقوى من العوامل الداخلية. فالحرب الإسرائيلية المستدامة لعقود من الزمان ضد كل ما هو فلسطيني، والخذلان العربي والحصار الجائر الواصل حد التجويع، كلها قد أضعفت الداخل لصالح الخارج كما أضعفت سياسة الحوار والسياسية لصالح الاقتتال الداخلي، والتغاضي عن سلاح الاحتلال المصلت على رقاب الجميع.
لا يبين التمايز بين المتقاتلين، فتح وحماس، في الخطاب السياسي الذي يتماهى حد التلاشي والاندغام في حين يتصاعد التصارع حد الاقتتال والاغتيال والخطف وكأن الطرفين يستجيبان للرغبة الشريرة لأولمرت، الذي قال بتشف بعد نجاح حماس: سوف نتفرج على قتل الفلسطينيين أنفسهم.
في قيادة فتح يحجب الفساد و الاستبداد الرؤية. وتغيب تجربة ثلث قرن من الزمان من كفاح قومي أشعل المنطقة العربية التي نظرت إليها كخط دفاع أمامي للأمة كلها. أما حماس فان دخان الايديولوجيا الكثيف قد غام على الأبصار والبصائر بحيث لا تدرك الحركة ان معاناة الناس وصبرهم لا يمكن ان تعوض عنه المواعظ الحسنة، أو الجملة الحماسية الفارغة. ويكون الاقتتال على جلد الدب قبل اصطياده مكشوفا لا يبرر برفض الاعتراف بإسرائيل من قبل حماس، ولا بضرورة الاعتراف بمنظمة التحرير من قبل فتح. فالاعتراف هنا و هناك شكلي بعد القبول بالانخراط في اللعبة السياسية المظللة باتفاقات أوسلو. ويبقى الشعب الفلسطيني محاصرا بالإرهاب الأمريكي الأكبر وبطبعته الإسرائيلية غير المنقحة، وبعمى القيادات الفلسطينية “الحاكمة“!! فهل تكون الدعوة الى انتخابات مبكرة نافذة للتحاور والوصول الى قواسم مشتركة وتوافق على قيادة كفاح موحدة وتحديد أساليب النضال وصولا للوحدة الوطنية، أم بوابه للمجهول؟!!