فلسطين وعودة الوصاية

فلسطين وعودة الوصاية - عبدالباري طاهر

ليست هناك قضيةٌ من قضايا الشعوب اليوم تواجه خطر التصفية كالقضية الفلسطينية. فهذه القضية التي تمثل قصة احتلال استيطاني يمتد لأكثر من نصف قرن، ويعاني الفلسطينيون من حرب إبادة وتشريد متكرر 48 و56 و67، واجتياح بيروت 5 حزيران 82 والتي كانت موجهة –بالأساس- ضد قيادة “منظمة التحرير الفلسطينية”. ثم الحرب ضد الانتفاضة الأولى87، والثانية 2001، ولا يزال حبل الحرب على الغارب.
في الماضي كان مصدر الخطر ماثلاً في الاحتلال الإسرائيلي، والدعم الغربي الاستعماري. وكان رهان الفلسطينيين الخائب على الجيوش العربية الَمُحَرِّرَة.
 كانت 67 بداية تحول نوعي في التفكير الفلسطيني؛ فقد أسقط الفلسطينيون من حسابهم الرهان على الجيش العربي بل والنظام العربي برمته، بعد أن تهاوى هذا النظام بصورة راعبة وخرافية تحت مجنزرات وقذائف الدبابات والطائرات الإسرائيلية. وكانت النقلة الأهم في مؤتمر الرباط 1975، حين تم الاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني. وخرج الفلسطينيون من الوصاية العربية وبالأخص وصاية مصر والأردن، بعد أن أسقطها الإسرائيليون باجتياح الضفة الغربية وغزة في 5حزيران 67. وكان أهم إنجاز حققه الفلسطينيون أخذ قرارهم بأيديهم بعد أن كان نهباً للمساومات والمزاودات العربية والخلافات. ومع أخذ الفلسطينيين حقهم في صنع خيارهم فقد ظلت التدخلات قائمة: ظاهرة، ومستترة في الغالب. ولم تكن الصراعات الدامية بين الأجنحة الفلسطينية المختلفة بعيدةً عن خلافات وصراعات هذه الأنظمة. ومثلث الانتفاضة الأولى النقلة الأهم؛ لأنها قد أسقطت نهائياً وصاية الخارج على الخيار الفلسطيني، ونقلت المعركة السياسية عبر حجر الطفل الفلسطيني والاحتجاجات المدنية التي جسدت الإرادة العامة للفلسطينيين، ووحدت الاتجاهات المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في قيادة مشتركة للانتفاضة. لقد فضح الاحتجاج المدني السلمي الطبيعة الدموية والفاشية لجيش الاحتلال الإسرائيلي وللدولة العنصرية والفاشية بما في ذلك قيادة حزب العمل (اليسار الصهيوني) الذي وعد زعيمه إسحاق رابين بقمع الانتفاضة خلال أسابيع أو أشهر، وأوغل في تكسير أيدي أطفال فلسطين الذي يتصدون للدبابات بصدورهم.
 استطاع حجر الطفل الفلسطيني أن ينجز في بضعة أشهر ما عجزت عن تحقيقه الجيوش العربية على مدى أكثر من ثلث قرن. ورغم الضغوط الراعبة على الشهيد أبوعمار إلا أن عظمته كانت دائماً تتجلى في الإصرار العنيد على استقلال القرار والإرادة الفلسطينية، ورفض الانحناء للاحتلال والحصار؛ وهو ما أدى إلى التخلص منه في ظل حصار جائر وصمت عربي مريب!
وظل التدخل الأجنبي والعربي –بخاصة- قوياً لتطويع الإرادة الفلسطينية بأساليب وأشكال مختلفة. ومنذ اتفاقات كامب ديفيد 77 بدأ الضغط العربي -وبالأخص المصري- يوظف غالبا أو يستجيب للإملاءات الأمريكية والإسرائيلية. ومارس الرئيس السادات هذه الضغوط بقدر كبير من الفجاجة. وربما كان الملك حسين أكثر حذراً ودهاءً في ممارسة هذا الضغط. وجاءت اتفاقات مدريد وأوسلو ومفرداتهما الكاثرة لتفتح الباب على مصراعيه أمام الضغوط العربية والدولية، وبالأخص الأمريكية التي لا تُخفي انحيازها المطلق لإسرائيل. وأسهمت الانتفاضة الثانية 2001، وأحداث ال11 من سبتمبر المشؤومة وما تلاها من حرب ضد العراق وأفغانستان، في المزيد من الضغط الجهنمي ضد الفلسطينيين، ووصم انتفاضتهم بالإرهاب. ومَكَّنَ ذلك إسرائيل من تصعيد حربها الإجرامية والعنصرية، مسنودةً بالانحياز والدعم الأمريكي، وتذبذب الأوروبيين، وانخذال الموقف العربي. وحقاً فإن الانتفاضة الثانية -وتحت وطأة حرب الإبادة الشارونية، واجتياح المخيمات، واغتيال الزعامات، وتوسيع المستوطنات، وتهديم المنازل، واغتيال الأشجار، وتمزيق أوصال الضفة والقطاع- قد انجرت إلى العسكرة، والقيام بأعمال ألحقت الضرر بالقضية، وساهمت في إعطاء غطاء للوحشية الإسرائيلية؛ فالاعتداء على المدنيين الإسرائيليين، واستهداف الكنائس والمقاهي والباصات والأسواق، وضعف منطق إدانة قيادة المنظمة كلها، قد ساعدت على تصعيد الحرب، واستكمال حلقات الحصار، بما في ذلك جدار الفصل العنصري. وإذا كان أحد أهم أهداف كامب ديفيد هو الالتفاف على مطلب الحل الشامل والعادل لقضية الصراع العربي الإسرائيلي، واعتماد الحلول الجزئية والانفرادية، وإلغاء البعد العربي لهذا الصراع؛ فإن استمرار الانتفاضة -رغم الجوانب السلبية لها- قد أرغم الأمريكان على الضغط على مصر والسعودية والأردن للانخراط مجدداً في الشأن الفلسطيني، ولكن هذه المرة لصالح القبول بالإملاءات الأمريكية، ومثلت أحداث سبتمبر وحرب العراق خلفية لهذا المنحى.
 في السياق إياه جاءت المبادرة العربية في قمة بيروت عام 2002 في ظل غياب الزعيم الفلسطيني أبو عمار، وقد رفضتها إسرائيل؛ لأنها تلبي الحد الأدنى من الحق الفلسطيني في بناء كيانه المستقل، والانسحاب الإسرائيلي إلى حدود 67، وإيجاد حل لعودة اللاجئين. وهو ما ترفضه كل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، يمينية كانت أم يسارية. فوز قيادة حماس في انتخابات حرة ونزيهة قد فتح أبواب الجحيم على الشعب الفلسطيني؛ فقد أكمل طوق الحصار، ليشمل البر والبحر والجو، ويمتد إلى لقمة العيش الكفاف والدواء. واستجابت الحكومات العربية لهذا الحصار. وللأسف الشديد فإن هذا الحصار ربما خلق رغبة لدى بعض قيادات فتح للخلاص من حماس. وتساوق الضغط الدولي مع إرادة عربية ورغبة داخلية. ذروة هذه الاستجابة تتجلى في التلكؤ في إقامة حكومة وحدة وطنية. وفي حين يرمي كل طرف في الصراع على الآخر في التراجع فإن الخطأ مشترك. ويبقى الخطر الحقيقي هو الاحتكام للسلاح، ونزول قوات الأمن القريبة من فتح إلى الشوارع، والاعتداء على المقرات الحكومية ومجلس النواب، والانجرار للحرب الأهلية تحت تأثير نيْر الاحتلال وحربه المستدامة وحصاره القاتل. ولعل ظهور محور “مصر – السعودية - الأردن” مؤشر جد خطير لعهد وصاية جديد، واستكمال حلقات الضغط على إرادة الفلسطينيين، المنقسمة أصلاً!