في حضرة الغياب* - محمود درويش

في حضرة الغياب* - محمود درويش

سطرا سطرا انثرك أمامي بكفاءة لم أوتها إلا في المطالع/ وكما اوصيتني، اقف الان باسمك كي اشكر مشيعيك الي هذا السفر الأخير، وأدعوهم الي اختصار الوداع، والانصراف الي عشاء احتفالي يليق بذكراك/
فلتأذن لي بأن أراك، وقد خرجت مني وخرجت منك، سالما كالنثر المصفي علي حجر يخضر او يصفر في غيابك، ولتأذن لي بأن ألمك، واسمك، كما يلم السابلة ما نسي قاطفو الزيتون من حبات خبأها الحصى. ولنذهبن معا انا وانت في مسارين:
انت، الي حياة ثانية، وعدتك بها اللغة، في قارئ قد ينجو من سقوط نيزك علي الارض.
وأنا، الى موعد ارجأته اكثر من مرة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في احدي القصائد. فليس على الشاعر من حرج ان كذب. وهو لا يكذب الا في الحب، لان اقاليم القلب مفتوحة للغزو الفاتن.
أما الموت، فلا شيء يهينه كالغدر: اختصاصه المجرب. فلأذهب الى موعدي، فور عثوري علي قبر لا ينازعني عليه احد من غير أسلافي، بشاهدة من رخام لا يعنيني ان سقط عنها حرف من حروف اسمي، كما سقط حرف الياء من اسم جدي سهوا.
ولأذهبن، بلا عكاز وقافية، علي طريق سلكناه، على غير هدى، بلا رغبة في الوصول، من فرط ما قرأنا من كتب أنذرتنا بخلو الذرى مما بعدها، فآثرنا الوقوف على سفوح لا تخلو من لهفة الترقب لما توحي الثنائيات من امتنان غير معلن بين الضد والضد. لو عرفتك لامتلكتك، ولو عرفتني لامتلكتني، فلا اكون ولا تكون.
هكذا سمينا، بتواطؤ ايقاعي، ما كان بيننا من هاوية سفحا. ونسبنا الي كتب قرأناها عجزنا عن الوصول الى ذروة تطل علي عدم ضروري لاختبار الوجود يا صاحبي! يا أنا ي النائم على بزوغ البياض من ابدية، وعلى تلويح الابدية ببياض لا لون بعده. فبأي معنى من معانيك اقيم الشكل اللائق بعبث أبيض؟ وبأي شكل احمي معناك من الهباء.. ما دامت رحلتنا أقصر من خطبة الكاهن في كنيسة مهجورة، في يوم احد، لم يسلم فيه احد من غضب الآلهة؟
لكنك مسجى امامي، اعني في كلامي الخالي من عثور الاستعارات على مصادرها، وعلى رابط خفي بين ارض متدينة، وسماء وثنية. من هناك الي هناك يرحل الغيم برفقة قمر لم يحرمنا افتضاح سره الصخري من تذكر حب سابق. ولم يمنعنا جفاف القلب من مداواة اوجاع المفاصل بذكرى التمدد علي العشب، تماما كما انت مسجى امامي في كلامي الذي لن يخذله غد شخصي كف عن الخداع، لا لانه تأدب وتهذب، بل لانه يحتضر الآن ويصير الي خبر، لا عدو له ولا صديق.. خبر عن مسافرين اثنين، أنت وأنا، لم يفترقا في مرآة او طريق.. لم يفترقا الا لساعات يتأكدان خلالها من سطوة الانثى علي الذكر/
حيث يري المرء نفسه في حرائق البرق، كما هي، معافاة مصفاة من شوائب التشبيه بما ليس موتا يحيي.. وحياة تُحيا على حصة العاشق من سخاء المودة بين المخلوق والخالق. فلا جنة معلنة بالحواس وبالحدس سوى العاشقة، ولا جحيم الا خيبة العاشق.
فلتأذن لي، اذا، ونحن نفترق على هذا البرزخ، بأن افسخ العقد المبرم بين عبث وعبث، فلا نعلم من انتصر منا ومن انكسر، انا ام انت ام الموت، لأننا لم نعترف من قبل، لننتصر، بأن العدو اذكى منا وأدهى، فلا شيء يغوي الهزيمة اكثر من مجافاة هذا الاعتراف، يا صاحبي المترف بالاوصاف النقيضة، المسرف في البحث عن عبث لا بد منه لتدريب النفس علي التسامح، ولتحظى بنعمة التأمل في ماء يضحك في الغمازات، ويطير فراشات فراشات تخلق الشعر من كل شيء حي. فالخفة، كالندي، قاهرة المعدن، وعذراء الزمن، هي التي تدرب الوحش على النفخ في النايات/
فلا تصالح شيئا الا لهذا السبب المبهم، ولا تندم علي حرب انضجتك كما ينضج آب أكواز الرمان علي منحدرات الجبال المنهوبة، فلا جهنم أخرى في انتظارك. ما كان لك صار عليك/
وعليك ان تدافع عن حروف اسمك المفككة، كما تدافع القطة عن جرائها. وعليك ما عليك: ان تدافع عن حق النافذة في النظر الي العابرين، فلا تسخر من نفسك ان كنت عاجزا عن البرهان، الهواء هو الهواء ولا يحتاج الي وثيقة دم. ولا تندم.. لا تندم علي ما فاتك، حين غفوت، من تدوين لأسماء الغزاة في كتاب الرمل، النمل يروي والمطر يمحو، وحين تصحو لا تندم لانك كنت تحلم، ولم تسأل احدا: هل أنت من القراصنة؟ فكيف تزود البديهة بالوثائق والبنادق، وفيها ما يكفيها من محاريث خشبية، وجرار من فخار، وفيها زيت يضيء وان لم تمسسه نار، وقرآن، وجدائل من فلفل وبامية، وحصان لا يحارب/
فلا تعاتب اسلافك على ما اورثوك من براءة النظر الي التلال بلا استعداد لتلقّي الوحي من سماء خفيضة، بل لعد النجوم علي اصابع يديك العشر. فأنّى لك ان تثبت البديهة بالبرهان، والبرهان متعطش لنهب البديهة تعطش القرصان الي سفينة ضالة؟ البديهة عزلاء كظبي مطعون بالامان، مثلك مثلك، في هذا الحقل المفتوح لعلماء الآثار المسلحين الذين لم يكفوا عن استجوابك: من انت؟ فتحسست اعضاءك كلها، وقلت: أنا أنا. قالوا: ما البرهان؟ فقلت: أنا البرهان. فقالوا: هذا لا يكفي، نحتاج الي نقصان. فقلت: أنا الكمال والنقصان. فقالوا: قل انك حجر كي ننهي اعمال التنقيب، فقلت لهم: ليت الفتي حجر، فلم يفهموك/
وأخرجوك من الحقل. أما ظلك، فلم يتبعك ولم يخدعك، فقد تسمر هناك وتحجر، ثم اخضر كنبتة سمسم خضراء في النهار خضراء، وفي الليل زرقاء/
مهما نأيت ستدنو/ومهما قتلت ستحيا/فلا تظنن أنك ميت هناك/وأنك حي هنا/فلا شيء يثبت هذا وذلك الا المجاز/المجاز الذي درب الكائنات علي لعبة الكلمات/المجاز الذي يجعل الظل جغرافيا/والمجاز الذي سيلمك واسمك/فاصعد وقومك/أعلى وأبعد مما يعد تراث الاساطير لي ولك/اكتب بنفسك تاريخ قلبك/منذ اصابة آدم بالحب/حتى قيامة شعبك/واكتب بنفسك تاريخ جنسك/منذ اقتبست من البحر ايقاعه ونظام التنفس/حتى رجوعك حيا الي/فانت مسجى امامي/كقافية غير كافية لاندفاع كلامي اليك/أنا المرثي والراثي/فكني كي اكونك/قم لأحملك/اقترب مني لاعرفك/ابتعد عني لأعرفك!
ولدنا معا على قارعة الزنزلخت، لا توأمين ولا جارين، بل واحدا في اثنين او اثنين في واحد. لم يصدق احد من الجالسين في ظل شجرة التوت أنك ستحيا، من فرط ما شرقت بحليب أمك واختنقت. نحيلا كنت كخاطرة عابرة. نحيلا كنبتة شعير خالية من الحب كنت. لكن لشهر آذار، القادر علي سفك دم المكان شقائق نعمان، مهارة الانقاذ من موت مبكر لا تنساه الا لتتذكر ان الحياة لم تأت اليك علي طبق من ذهب او فضة، هاشة باشة، بل جاءتك علي استحياء كجارية مدفوعة الاجر، صعبة وعذبة، وشديدة الممانعة. لكن التدريب الطويل على الألفة هو ما يجعل الحياة ممكنة.

* مقطع من كتاب محمود درويش الجديد وبذات العنوان