فسحة.. القتلة يجولون بيننا

فسحة.. القتلة يجولون بيننا

كل ليلة، أجلس الى النافذة لساعة او نحوها، يقظة مذعورة. كل ليلة، اصل الى النتائج نفسها، الحيرة نفسها، التي اصل اليها دائماً: فإما ان اتعايش مع ما يخوضه هذا البلد، مع ما يتهدده، وإما ان اهرب الى بلد آخر، وأبدأ حياة جديدة تماماً. التفكير في البقاء جنون، والتفكير في الهرب مرعب. فلديّ الكثير جداً لتوضيبه، تصفيته وترتيبه، حتى اني لا اعرف متى، او كيف أبدأ. هناك كتبي، أهلي واصدقائي وعملي، هرتي المكتئبة مثلي تماماً، فكيف يتأتى لي فعلاً، التخطيط للهرب. يلزمني دهر لإلقاء نظرة اخيرة على البحر والاشياء. البلاد الجديدة والبدء بكل شيء من جديد مرعب بالمقدار نفسه الذي يرعبني فيه البقاء. الرحيل والكد، بأشلاء هذا الجسد الزاوي والروح النافقة مغامرة معذبة تعادل مغامرة التريّث هنا، ولو الى حين.
بالنسبة لكائن له مثل مزاجي، والعالم كله على ما هو عليه، لا يوجد اي أمل بالنجاة على الاطلاق. لا حل لي على وجه الخصوص، لا هنا، ولا في اي مكان آخر. إنني في البرزخ الصعب من العيش، وحتى إن تيسّر امر هربي، وتسنت لي الاقامة في احدى المدن الغريبة، فلن يكون خلاص، فما من رغبة اولية في إنزال همّ هذا الوطن عن اكتافي، كما لا تلوح عندي ادنى اشارة الى الكفاح بعد ان اتفق انني كافحت ما كافحت كما انني لا احب في العمق فكرة ان أكون عضوة نافعة لا في مجتمعي، ولا في اي مجتمع آخر، كما تخيفني فكرة النضال من اجل العيش، لا هنا ولا في اي من البلدان.
أجلس إذاً الى النافذة، كما في كل ليلة احملق في البيوت بنور النوم الضئيل، ناسها وقاطنيها في نهاراتهم البشعة ولياليهم الأشد بشاعة وبلا معنى، شأن الكائنات المأسورة والمنذورة لقلق الفناء الدائم.
من نافذتي إذاً، وتلّح فكرة انني اتقاسم مع غرباء عني، مصيراً مشتركاً واحداً، هو الموت الجماعي في جولة من جولات الحرب هنا، فكرة تصدمني كل ليلة، من كونها عذاباً مترفاً وانتهاكاً، وجنوناً محضا.
لبنان كله يذعرني. لبنان الفردوس الصغير يغدو العيش فيه أعلى مراحل الجنون. انتقي بنظري الليلي اليقظ، بيتاً بعيداً ومهموماً، واحدس ان أحداً نائماً فيه الآن، ويقاسمني سأمي وخوفي وهواجسي. هل احد آخر يكلم نفسه مثلي الآن؟ يجلس الى شرفته في الليل إن بقيت لا تزال شرفته، وإن بقي بيته ويحسب ان الحياة برمتها لم تعد تطاق، لا في لبنان ولا في سواه. سوف لن اعدم احدا مثلي، في هذا البيت او ذاك، أرقاً لاعناً مثلي، ولعلي ألتقيه في صباح القهوة، نثرثر الى الاوضاع والى نهاية العالم، والى ان القتلة يجولون بيننا، متأنقين متعطرين، فلا نعرف من أيّهم، يأتينا الموت.
- عناية جابر، عن «السفير»