إذ تتقاذفك أصوات كما لو كنت في «سيرك».. ترويج لكلام.. أم معرض لكتاب؟!

إذ تتقاذفك أصوات كما لو كنت في «سيرك».. ترويج لكلام.. أم معرض لكتاب؟! - جمال جبران

لطمة على خد، أو ما يعادل هذا الوصف، تواجهك حال التصاق خطوتك الأولى بأرضية معرض صنعاء ال23 والدولي للكتاب. للقارئ، هنا، حريته التامة في وضع مفردة «الدولي» بين مزدوجين كبيرين وفادحين، هذا إن أراد ذلك.
لطمة على خدٍّ هي، أولاً: بسبب حالة ارتجال بادية وجداً في مدخل المعرض. ازدحام المشتغلين فيه غير مبرر بالمرة. أكثر من بوابة تفتيش هناك. بوابتان تحديداً، تطالبك بترك كافة حمولتك اليومية المعتادة، كأنك سارق كتب محتمل. لا ينقذك من كل هذا الارتجاج سوى الشاعرة سماح الشغدري بابتسامة تسع الدنيا وتفيض، وهي الجالسة وتحمل مايكروفونها التنبيهي بين بوابتي الدخول الاحترازيتين تلك.
سماح -إذن، ووحدها فقط- عامل تعديل مزاج. لكن هذا ما يلبث أن يتبدل كيما يصبح معكراً من جديد. هذا يحصل في البوابة أو المنفذ الثاني والأخير المؤدي لولوجك أرض الكتب، أو الاراضي الاسلامية المقدسة. وكأنك تقضي زيارة عمرة، إذ و أنت محاصر في تلك البوابة ومطالب لمرة ثانية بإفراغ حمولتك اليومية، أي: حقيبتك السوداء، تتناهى إلى مسمعك اصوات تسجيلات دينية - اسلامية طبعاً، وهي تحذرك من عذاب القبر وتنبهك لضرورات الجهاد والدعوة وما إلى ذلك.
أصوات تتقاذفك كما لو كنت في «سيرك».
أصوات تنتبه إليها رغماً عن حالة انشغالك في مفاوضات مضنية وشاقة مع حراس البوابة الثانية.
تخبرهم، أي أشاوسنا العسكر، والمنتبهين تماماً، أنك غير مستعد، بأي حال من الأحوال أن تترك حقيبتك في خانة الامانات، الواقعة قبالة المدخل الأول، الواقع في تلك الفسحة الافتتاحية لمعرض اكسبو، تحديداً أمام أكشاك بيع الشيبس والملابس النسائية المزركشة والجميلة جداً.
تخبرهم، كحل أخير ومنقذ من هذا العبث الدائر حولك, ان حقيبتك الجلدية الصغيرة التي تحملها أينما ذهبت, بها ما يوازي وبأضعاف كثيرة حجم ما يمكن لها اخفاؤه من كتب. وأنت بالطبع سارق كتب محتمل في عيونهم. تخبرهم مؤكداً لمرة ثانية ان ما فيها من أوراق نقدية ما يوازي قيمة أضعاف أضعاف ما يمكن لحقيبتك سرقته من كتب. وهنا فقط كان لحجتي نجاعتها, وكان لي، أخيراً، دخولي إلى الاراضي المقدسة.
ودخلت..
في الواجهة، وتماماً, رجال وبعقالات خليجية. يتعمق شعورك الاخير ويزداد. تضاعفه أصوات منطلقة من تسجيلات دينية.
ملاحظة أولى تلصق بك حال جولة أولى وسريعة: ارتفاع نسبة الواجهات العارضة لسيديهات اليكترونية. يبدو كما لو أن المعرض داخل العصر، فيه ويسايره، كما لو أن المعرض في الحداثة ويتفاعل معها. لكن غالبية ذلك المعروض على هيئة أقراص اليكترونية يتكلم في القديم، في الزمن الغابر، في التراث وتفسير ابن كثير والاجرومية. تقابل مثير لأكثر من علامة استفهام وكبيرة.
لسنا ضد هذا المعروض وما فيه من قديم، لكن لابد من التنوع، أن يكون من هنا وهناك وليس سائراً على موجة واحدة. غياب التنوع يقف ضداً لأصل الحياة وماهيتها.
أن يعرض القديم من تراث واجرومية وألفية ابن مالك أمر مقبول، لكن بشرط ان يكون هذا لصق منشورات دار الريِّس، التي كان غيابها لافتاً، ودار أزمنة، ودار الساقي، والمركز العربي للثقافة، ومنشورات المجلس الأعلى للثقافة المصري. نريد هذا التنوع ونطلبه بشدة، لهذا أن يبعدنا عن هواية السير في دوائر مغلقة من زمان لا تؤدي إلى شيء بطبيعة حالها.
والسؤال هنا: لماذا غابت دور النشر تلك؟ هل كان لحرب حزب الله واسرائيل دور في غيابها؟ لكن الحرب لم تصل بيروت، مركز النشر العربي ونبعه، حيث تقع مخازن كبريات دور النشر. كما ان المعروف عن بيروت انتظام مشاركتها في كل معارض الكتب العربية تقريباً وبشكل منتظم حتى في أيام الحرب الأهلية. ثم: ما معنى معرض للكتاب بدون مشاركة دور النشر اللبنانية؟! هل نكتفي بمهرجان افتتاح لمساحة عرض القديم بغرض اجتراره ثانية ورابعة وفي طبعات أنيقة غالباً، لكنها تباع بأثمان متدنية عن كلفتها الأصلية؟!
هناك من يتحدث عن ارتفاع أسعار الكتاب اللبناني، منشورات دار الريِّس والساقي مثالاً، ويقف هذا عائقاً أمام اقتنائه.
صحيح، كتب دار الريِّس مرتفعة الثمن غالباً لكنها تقدم الجديد دائماً. معرض الكتاب يمثل مناسبة وحيدة تقام كل عام تمكننا من لمس ما يحدث من حركة نشر في البلاد العربية، حركة النشر النوعية والمتميزة، وذلك عن طريق دور النشر اللبنانية.
كما أن أي حديث عن ارتفاع أسعار الكتب في هذا البلد غير منطقي وغير مقبول ونحن نشاهد غالبية القراء هنا وهم مستهلكون دائمون للقات وينفقون في هذه العادة الكثير. لنأخذ مثلاً كتاب مثل «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» لميشيل فوكو ومن منشورات المركز الثقافي العربي، ثمنه ثلاثة آلاف ريال، لم يكن في المعرض على كل حال ولكنه يباع في مكتبة الميثاق بصنعاء. غالبية من سمع بسعر الكتاب اعتبر قيمته مبالغاً فيها. دائما ما نعمل اعتبارات للقيمة المادية للكتاب وليس لقيمة الكتاب وأهميته. ثلاثة آلاف ريال ليست كثيرة على كتاب مرجعي وهام كـ«تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي». اعتقد أن الاشكالية ليست في سعر لكتاب بقدر ما هي إشكالية في غيابه أو في صعوبة الحصول عليه.
على كل حال..
لمعرض صنعاء «الدولي» للكتاب هذا العام حكايته، المتفرعة إلى حكايات وقصص. ليس بداية من حنق رئيس الوزراء باجمال من الوزير الرويشان, وليس نهاية بنزاع الأخير مع الدكتور السقاف على ملكية المعرض والتي انتهت بخاتمة معروفة للجميع. وبين كل هذا تقف مشكلة البلد وأزمته، إدارته بالعاطفة والموقف من الاشخاص. واضح أنه، أي البلد، يدار بعامل الدفع الشخصي وبحسابات هوى القلب وميلها نحو هذا وذاك من عدمه. معيار الحكم فيها يتعلق دائماً بمؤشر تيرمومتر العلاقات الشخصية وحدها. معرض الكتاب هنا نموذجاً فقط.. وقبله كثير..
مع ذلك, لمعرض هذا العام حسنته. حفل توقيع الاصدار الاول للطفلة سلمى عبدالغني (11 سنة)، في فعالية أقيمت على هامش المعرض ومع ذلك كانت عصبه الرئيسي وبهجته. قرأتْ نصاً واحداً من مجموعتها القصصية «في مكان ما»، فأمتعت بلغتها وثقتها وتمكنها. قرأت وكأنها تشير بأصابعها الصغيرة التي تعزف على البيانو، أن في البلد هذا أملاً يتيماً ووحيداً، لكنه مبهج ومفرح ويتقدم بثبات على الضد من كل هذا الخراب الحاصل في كل شيء.. تحية كبيرة بحجم سلمى عبدالغني هنا.. تحية تليق بها كما ينبغي، ولسلمى وحدها تليق التحايا.
jimy