وأخرى.. حياة في ال inbox

وأخرى.. حياة في ال inbox

والروح يمكن أن تصبح باردة. الأمكنة والمباني والاشجار كذلك.
الاشجار التي تنام على الرصيف بهدوء بال. الاشجار التي كنت تذهب إليها لأخذ صورة للذكرى كما ولتعليقها بعد ذلك على حائط في غرفة جلوس أو في غرفة نوم، لا فرق. الاماكن لا تثير أية إشكالية مهما كانت هيئتها. المشكلة في الصورة.
هذه التي تبقى في الحاضر دائماً في مواجهة بصرك تاركة ماضيك خلفها. الأيام التي ذهبت وكانت حلوة. المشكلة في الحنين.
والسرد أيضاً يمكن أن يكون بارداً. الكلام والحكايات والقصص. ولهذا لا ترغب في قول شيء أو حتى الاعلان عن بردك الشخصي. بردك الذي يقتل ويدمر ويمسخ الروح.
وقبل كل هذا وبعده وخلاله، يأ أنت، يا أيها المعزول والمقصي والمنكوبة حياته في inbox.
مات محمد حسين هيثم وأنت لا تعلم أو لا تود معرفة فتثقل بالك. مات محمد حسين هيثم وأنت في غيابك البارد والوسخ. أتخيلك الآن كاتبا عنه. هيثم الذي كنت تترك له دائماً مساحة شاغرة في قلبك. أتخيلك الآن كاتباً عنه وله وتقول:
«وأصلاً.. أنا لم أصدق بعد!!
كما لم تقل لي يوماً يا محمد أن الخفة تحتاج موتاً حتى تنال تثبيتها، كيما تصير حياة ثانية ودائمة. وهكذا إذ تموت، وأنت العليم بكل أصول الضيافة. تحمل قهوتك وتوزعها بيديك وتعزي المعزين ثم تهيئ أكفانك وتسير مع النعش في أول الصف.
تمشي ثقيل الصدى صامتاً، وتحوقل. تذرف أوقاتك كلها دفقة، دفقة. ثم من فتحة القبر تنزل معتذراً أنك تشغل الاخرين بأوهامك وتسبب للناس هذا التعب.
ألم تقل أنت هذا الشعر واصفاً «عبدالعليم إذا مات»!! أو واصفاً موتك الشخصي خاصتك وبشكل استباقي من باب الحيطة تحسباً لأية مفاجاءات لم تكن في بالك.
وأصلاً.. أنا لم أصدق بعد!!
وأنت الذي وعلى الرغم من كل ذلك الغبار، والكآبة كنت تطور طرقاً للحفاظ على «هذه الرأس» رأسك التي استحققتها عن جدارة. أنت الذي كنت تعصر لحظتك وبقبضة حديدية حتى النهاية، وحتى تتعب هي منك. «هذه الرأس» التي كان عليك أن تقطع بها أطول مسافة ممكنة وأن تمضي بها بعيداً «قبل أن تسقط من تلقاء نفسها». «هذه الرأس» التي كنت تغمدها وبقوة بين كتفيك حتى لا تسقط منك في الزحام «بسبب صفعة خاطئة، من شرطي، تأخر راتبه الشهري».
وأصلاً.. أنا لم أصدق بعد!!
أحتاج فعلاً يا محمد إلى مطرقة على رأسي أنا، «هذه الرأس» التي لا أودها الآن ولم أعد بحاجتها. «هذه الرأس» التي صارت عبئاً ثقيلاً على كتفي. «هذه الرأس» الفائضة عن حاجتي تماماً. «هذه الرأس» المؤذية والتي تجلب لقلبي التعب الذي بأظافر حادة ويخدش حياتي».
ألم أقل لك.. أن الروح يمكن أن تصبح باردة. الأمكنة والمباني والاشجار كذلك. الاشجار التي تنام على الرصيف بهدوء بال... ولاتبالي!!

- جمال جبران