المناضل الجنوبي بجاش علي محمد الأغبري الصبيحي

المناضل الجنوبي بجاش علي محمد الأغبري الصبيحي

يمضي عامه ال16 خلف قضبان السجن المركزي بصنعاء (1)
د. حسين مثنى العاقل
بجاش الأغبري: رجل مفعم بالحيوية وصلابة المراس، جسد نقي يشع من هامة شموخه روح الإباء وقدرة التحدي، إنسان تسامت فيه معاني النبل الصادق والأخلاق الحميدة، رجل تجلد في معمعان النضال والتضحية في سبيل عزة وكرامة شعب وأرض الجنوب الغالي.. من ملامح وجهه الحزين ونظرات عينيه المثقلة بهموم حياته الأسرية، ومن مشاعره الصابرة على مكابدة القهر والضيم ومظالم السلطة المستبدة، تتكشف رزايا التعسف وأوجاع تحمل ما لا يطاق حمله من عذابات السجن وأهوال المعاناة، التي يدفع ثمن حبه لوطنه وشعبه سنوات عمره في أقبية وسراديب السجون تحت الأرض، وزنازين الاعتقالات المظلمة التي أمضى فيها أجمل سنوات عمره، حيث وصل الحقد ضده من أجهزة سلطة صنعاء البوليسية، أن تضعه في زنزانة ضيقة لمدة 4 سنوات لا يرى فيها الضوء ولا يشم الهواء الطبيعي، ويتجرع مرارة تناول 3 وجبات من قوالب (الكدم) مع قليل من الماء المسموح ارتشافه يقدم له بواسطة جنود الحراسة المشددة.
قد لا يصدق البعض أن ما سنرويه من حقائق مثيرة عن هذا الرجل الصنديد والذي استحق أن يطلق عليه المعتقلون والأسرى السياسيين على ذمة الحراك السلمي، بعميد الأسرى الجنوبيين، لما يتصف به من شجاعة وصبر طوال سنوات اعتقاله، بأنه فعلا من عاش وواجه تلك الأحداث والمغامرات التي نجا من بعضها بأعجوبة، لا يسلم من عواقبها المميتة إلا من كتب له الله العلي القدير عمرا مديدا وحظا سعيدا بالبقاء على قيد الحياة!
السيرة الذاتية لبجاش الأغبري
من مواليد عام 1958 بقرية هقرة المضاربة بمديرية الصبيحة -محافظة لحج، تربى في كنف أسرة فلاحية فقيرة، تعتمد في حياتها ومصدر دخلها على الزراعة الموسمية، وعلى أساليب الرعي البدائي. عانى من الحرمان وشظف العيش، لكنه رغم الأحوال الاجتماعية شديدة العوز والفقر، تربى على قيم الشهامة والرجولة المتأصلة على طبائع العفة والنزاهة وحب الخير والعمل الصالح لخدمة المجتمع في ذلك الوسط الاجتماعي المحروم من أبسط مقومات الحياة العصرية، فضلا عن اكتسابه صفات التواضع ودماثة الأخلاق وقوة العزيمة وروح الفداء والاستبسال في الحالات الطارئة والعصيبة.
في أكتوبر من عام 1974، التحق مناضلنا الجسور بجاش الأغبري في العمل العسكري كجندي بوزارة الدفاع لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، والتحق بدورات تأهيلية في مجال المسح الميداني لزراعة الألغام والعبوات الناسفة. وبعد كارثة الأحداث الأليمة عام 1978 والمعروفة بأحداث الشهيد الخالد الرئيس سالم ربيع علي (سالمين)، اضطر الشاب بجاش النزوح إلى الجمهورية العربية اليمنية، وبقي هناك يعمل في تشذيب (توقيص) الأحجار الخاصة بالبناء.
ونتيجة الحماس القومي ومشاعر العروبة التواقة، تمكن من مغادرة صنعاء إلى سوريا عام 1981، وهناك التحق بجيش المقاومة التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية (فتح)، وبقي فيها عامين، ثم تحول إلى الجبهة الديمقراطية (نايف حواتمة)، وحصل على دورة قصيرة في المدرسة الحزبية، وبعدها انضم مقاتلا في كتبة أبو يوسف النجاح، وكلف بمهام نائب سرية الشهيدة دلال المغربي.. وفي 1982، اختير من قبل المناضل الفلسطيني قيس أبو ليلى، مع 4 من الأبطال الانتحاريين، للقيام بعملية انتحارية ضد مواقع عسكرية إسرائيلية بجبل لبنان، حيث وضع أبو ليلى خطة الهجوم الانتحاري، ورسم طريقة الإعداد والتنفيذ لتلك العملية، وفي مساء ليلة 5/8/1982، قرر الانتحاريون مهاجمة موقع نقطة مراقبة للجيش الإسرائيلي الذي كان فيه الجنود الإسرائيليون يمرحون ويبتهلون باجتياح الجيوش الإسرائيلية للبنان، ويتفرجون من موقعهم كيف تدك قنابلهم العدوانية والإجرامية مدينة بيروت الحبيبة، وبتوقيت مناسب هاجمت المجموعة الانتحارية الموقع، وتمكنت من قتل حوالي 17 جندياً منهم 3 ضباط، وتدمير وإحراق عربة مدرعة وسيارة جيب. وأثناء الانسحاب أمطرت المواقع العسكرية الإسرائيلية الأخرى المجموعة وابلا من القصف الكثيف، مستخدمة مختلف الأسلحة الخفيفة والثقيلة، ونتيجة ذلك أصيب البطل الانتحاري بجاش الأغبري بطلقة نارية اخترقت الجزء الأيمن للبطن وهشمت الحلقة الخامسة من العمود الفقري، وبرغم محاولة زملائه الفلسطينيين الأبطال حمله وإسعافه تحت كثافة القصف الإسرائيلي، وخطورة التأخير وبطء الانسحاب والوقوع في الأسر، إلا أن الفدائي بجاش طلب من زملائه الهروب والنجاة بجلودهم، وتركه لوحده حتى لا يقعوا جميعهم تحت قبضة الإسرائيليين.
بعد اقتناع الفدائيين الفلسطينيين بذلك المقترح وتوديعهم لرفيقهم بجاش، تمكن هذا الرجل الجسور من الزحف (الزحك) بصعوبة إلى داخل مزرعة لبنانية مغطاة بأشجار الزيتون والكروم، وعند طلوع الصباح شاءت قدرة الله أن تلهم صاحب المزرعة اللبناني بالعثور على بجاش الذي كان في تلك اللحظة في حالة إغماء بفعل النزيف وخطورة الإصابة. تمكن اللبناني من إسعاف الجريح إلى مستشفى في البقاع، ثم تولت إدارة المستشفى إسعافه إلى دمشق. وبحكم خطورة الإصابة قرر الأطباء السوريون والفلسطينيون سرعة إنقاذ حياة بجاش بنقله فورا على ستوكهولم عاصمة السويد، برعاية منظمة الصليب الأحمر السويدية، وبرفقة المناضلة الفلسطينية ليلى الخالد.

الحلقة الثانية:
الشفاء وعودة بجاش إلى عدن الحبيبة.