أنا مراسل "الجزيرة".. لكن في العصر العباسي

أنا مراسل "الجزيرة".. لكن في العصر العباسي

* أحمد الشلفي
أحاول أن أعيد كتابة مقال مرة أخرى.
الوضع بالنسبة لي لم يعد يحتمل، أو هكذا يخيل إليَّ بعد أن أصبحت قناة "الجزيرة" التي أعمل فيها مع زملاء مهنيين ومحترفين، في كفة، ووحدة الوطن واستقراره في كفة أخرى.
غير أن عليَّ أن أكسر حاجز الصمت القاتل وأتحدث قليلا عن يقين مكرر وجازم أن وطنا رائعا كوطني الذي أنتمي إليه وأحبه، ولا تستطيع كل سلطات العالم أن تحاول إقناعي بغير ذلك، لا يحتاج في لحظات الحشرجة هذه سوى إلى جرعة حرية فقط لا أكثر.
جرعة الحرية هذه لا يهم كيف ومتى وأين تقال؟
سأتجنب فعلا أن أقدم عريضة دفاع عن "الجزيرة" في اليمن.. هذا ما لا أحبه بالفعل، ويجدر بي أن أبحث عن أسلوب مختلف للحديث عن جرعة حرية ضرورية قد تكون بملء الكف وقد تكون أكثر من ذلك.
لست أيضا معنيا بالحديث مرة أخرى عن التزامي والتزام زملائي المهني، فمن لا يريد أن يقتنع سوف يجد ألف طريقة لذلك.
اليوم لم يعد من المجدي الحديث هل إن وسائل الإعلام تكذب أم لا؟
الصور التي تتجاوز كل وسائل المنع والرقابة أصبحت ملك الناس قبل القنوات، لدرجة أنها تزيد أحيانا على الحاجة بعد أن تعددت وسائل الاتصال والتكنولوجيا.
والطرق التي توفر إمكانية النقل أصبحت سهلة لدرجة أن عدم السماح بدخول أجهزة البث أو الخوف منها تبدو سذاجة لا تنم عن ذكاء يحتاجه العاملون في مجال الإعلام وما أشبه.
إذن كيف تكذب وسائل الإعلام إذا كان الأمر على هذا النحو من التطور والتقنية والمشاهدة المباشرة؟
يعرف الذين يصرون على مواجهة الإعلام الحر كل ذلك، ولكنهم لا يريدون القيام بشيء في اتجاه تعامل مختلف مع هذه الحقائق.
لا تريد السلطات في عالمنا العربي أن تجهد نفسها وموظفيها في النظر إلى الإعلام الجديد والتعامل معه من زاوية مختلفة على الأقل من جهة التعامل معه كخصم شريف أو حتى خصم يستحق مجموعة من الاستراتيجيات لمواجهته بشكل جدي.
منذ عرفت الإعلام قارئا وعاملا في الصحافة اليمنية، لم أجد تغيرا في اللغة المستخدمة لدى أجهزة الأمن والإعلام تجاه ما يصفونها بوسائل الإعلام المضادة.. يعود الأمر إلى كسل موظفي هذه الأجهزة وإلى انعدام وسائل الابتكار وتجديد حتى لغة التخوين والشتم.
ربما قبل مئة سنة لم تدخل هذا القاموس إضافة جديدة لا على مستوى اللغة ولا حتى الإمكانيات.
اليوم تدار وسائل الإعلام الرسمية بنفس الطريقة التي أديرت بها أول صحيفة عرفت الحياة.
لست هنا بصدد مناقشة مكامن الإخفاق والنجاح، ومدى إمكانية تعديل السلوك الرسمي في النظر للحاجة إلى إعلام حر مهني وملتزم يتواكب والحاجة إلى إحداث إصلاحات جذرية في أي نظام وفي أي بلد.
في الأصل أنظر إلى مفهوم إثارة البلبلة الذي يلصق بالصحافة أياً كانت، على أنه مفهوم بال لا يتسق ومقتضيات مواجهة المعلومة.. تذكرني عبارات إثارة الفتنة والبلبلة بعصور غابرة، وبالشرط والعسس وما أشبه.
إثارة البلبلة لم تعد صيغة مناسبة في عصر الصورة والانترنت وأجهزة البث المتعددة، وفي عصر المواطن الصحفي الذي يستطيع أن يمارس دور الصحفي دون أن ينتمي إلى مؤسسة صحفية.
تضيع وسائل الإعلام الرسمية وقتا طويلا لتبحث عن تصنيفات وشتائم للصحفيين ووسائل الإعلام، وتنسى أن عليها مثلا أن تجهز ناطقين رسميين على قدر كبير من التمرس، ومراكز إعلام، وأن تزودهم بمعلومات صحيحة لقطع أي طريق على معلومات خاطئة.
بل إنها إذا فعلت تزود أجهزتها بمعلومات مغلوطة بداية النهار.. ثم تقضي بقية نهارها في شتم الوسائل التي فبركت تلك المعلومة.
تضيع السلطات وقتا أطول وهي تشتم معارضا ووسيلة إعلامية استضافته، وتنسى أنها بحاجة إلى معاونين أذكياء يستغلون المنابر الإعلامية، ويقدمون حججا دامغة بدلا من استهلاك مفردات عفا عليها الزمن.
تضيع السلطات أوقاتا طويلة من أعمارنا ونحن ندقق في معلومة تافهة أحيانا لنقلها للجمهور، لنجد بعد أيام مثلا أنها غير صحيحة، وأن الكتمان منحها البقاء وأحيانا المشروعية.
اليوم، وبعد سنوات من العمل، أشعر بأهمية كوني صحفياً، ولكن أحتاج لمن يقول لي بأن إساءة فهم الصحفي على هذا النحو المقزز مع توفر كل وسائل الاتصال هذه، لا يمكن أن تحدث إلا في العصر العباسي مثلا.