رصيف نمرة 6!

تنويه:
الأجيال العتيقة أمثالنا تتذكر لا شك نتفًا مما مازال عالقًا بالذهن من أحداث تضمنها أحد الأفلام الرائعة للسينما المصرية أيام الزمن الأجمل فنًا ومعنى وكفاحًا وثقافة، زمن الناصر جمال عبدالناصر، إذ كانت السينما المصرية تشكل الوجدان والقيم، وكانت لنا زادًا ثقافيًا وترفيهيًا ليس له نظر.
لم يكن اسم الفيلم "رصيف نمرة 6"، بل كان اسمه "رصيف نمرة 5".

الفيلم كان مباراة تمثيل بين عملاقة السينما المصرية آنذاك، بين فريد شوقي الضابط في حرس الموانئ، وعملاق الزمن الماضي محمود المليجي، أنتوني كوين السينما العربية، مباراة في فن التمثيل وحركيته.. رمزية صراع الخير والشر بين عصابات التهريب وأجهزة التحري وانضباط النظام منعًا للتهريب، أيًا كان شكله، سلاحًا مخدرات... الخ.

تلك أيام خلت شهدنا خلالها عزة أمجاد العرب في أوج أيامها؛ أيام تصاعد المد الثوري، مثل واقعة سفينة كليوباترا التي قاطعها عمال الشحن بميناء عدن، تضامنًا مع شعب مصر أيام العدوان الثلاثي على بورسعيد، إلى جانب تصاعد ثورة الجزائر، وتأثيرها على مجريات أمور العدوان الثلاثي، وخطوة ناصر لتأميم قناة السويس، ثم انطلاق معركة بناء السد العالي كتحدٍّ ومواجهة لبناء جدار عالٍ للتنمية والتحرر الاقتصادي.

تلك لمحة سريعة كان لا بد منها، ولكن وبغمضة عين سريعة أنقلكم سادتي القراء الأعزاء إلى حاضرنا البائس، حيت الضياع والتمزق والذل والهوان، وها نحن نرى رأي العين غزة الصمود تذود عن شرف أمة تغط في سبات عميق خشية اهتزاز أركان حكم هنا أو هناك من كيان عربي مفتت الأركان والأوصال من المحيط إلى الخليج.

في هذا الخضم المتلاطم الأمواج الخافت الأصوات إلا من صوت غزة، يهرع مخرج الحرب الأمريكي ليعيد لوحة الزمن بلون شاحب وانتحال جديد، مقترحًا إنشاء ما سماه رصيف بحري عائم على شط غزة، سبيلًا لإدخال مساعدات الغذاء لشعب وأطفال غزة المحاصرين من قبل قوات عصابات صهيون المحميين أصلًا من قبل الراعي الأمريكي الذي تطوع ورق قلبه لينشئ رصيف نمرة 6، وليس رقم 5، تهربًا من اسم زمن ناصر العروبة، يوم كان للعروبة سيف أبي تمام وحضور عبدالناصر.

نعود لحكاية رصيف نمرة 6 الأمريكي العائم على شط غزة بالبحر الأبيض المتوسط... تصوروا تكاليف إنشائه على عجل قد بلغت ما يربو على الثلاثة ملايين دولار أمريكي.

فيا لهالة الرحمة والإحساس بالإنسانية التي هبت على أمريكا، وهرعت تنشئ هذا الرصيف... نسأل: ما المراد؟ إن كان الأمر لغاية سامية، فلم الدعم اللامنقطع النظير تسليحًا وتمويلًا لإسرائيل، بينما كان يكفي عدم اللجوء المتكرر لاستخدام حق الفيتو أمام دعوات مجلس الأمن لإيقاف إسرائيل حربها وتدميرها وإبادتها لغزة؟
يا له من عجب عجاب أمر هذا الرصيف، وعجيب أمر مخرج الروائع الأمريكي وهو يسرح ويمرح كذبًا وتلفيقًا، فالمراد من وراء إنشاء الرصيف العائم تحت اسم سماه رصيف نمرة 6 رصيف الهاجاناه رصيف ذي القرنين في قرارة نفسه أقامه وهو يقرأ مستقبل الصراع في المنطقة وفق مصالح أمريكا أولًا وأخيرًا، وإسرائيل ثانيًا لمواجهة تغول المد الروسي بشرق المتوسط وقبالة ميناء طرطوس، حيث الوجود الروسي المقلق لأمريكا وإسرائيل والغرب برمته.

رصيف نمرة 6 الأمريكي هدفه تجاوز مفهوم تهريب المخدرات، وكم قطع السلاح تمارسها فهلوة وشيطنة المليجي، إلى ما هو أبعد من ذلك كما يذكرنا فيلمنا العتيق رصيف نمرة 5.

رصيف نمرة 6 الجديد المنشأ على عجل فيه تدوير زوايا فيه مخططات إعادة ترسيم المصالح والحدود في منطقة الشرق الأوسط الكبير الجديد التي بشرت به الخارجية الأمريكية منذ فترة، أي هي مهمة لها شأن في التخطيط الاستراتيجي الأمريكي، كما لها ذات الاهتمام بمستقبل الغاز بالجرف الغازي الكامن تحت مياه بحر المتوسط، مع ما يعنيه تواجد عربي ينبغي دومًا لجمه وإضعافه، لذا فإن فلسفة الوجود امريكيًا والتواجد ضمن رصيف غزة كموطئ قدم له دلالات وأهداف، والأيام حبلى كما ستبدي لنا الأيام.
ورعى الله أيام رصيف نمرة 5، يوم كان البحر مازال يتكلم عربي، يوم كان المد من المحيط إلى الخليج.
لبيك عبدالناصر... البعض سيقول تلك ترهات ما أنتجت غير الهزائم.

كلا لم يكن مقبولًا لأمريكا والغرب ومشروعهما الاستيطاني نجاح ذلك النموذج، والمنطقة من حينها تدفع ثمن ما تريد أمريكا وحلفاؤها من واقع استعماري ومن تشظٍّ للكينونة العربية، وهو ما نراه اليوم، وتدفع غزة وحيدة ثمن المواجهة ليتسلل الأمريكي جهارًا نهارًا ينشئ رصيفًا يمد من خلاله الغذاء والدواء للأفواه الجائعة بغزة، وهو والعين ترى مساهم ومشارك بقتل غزة وأطفالها.
حدث يا زمن الذل، فلا حرج على الصامتين.