حكاية اسمها: فريما

"قـد كفتْنـي نظرة مـنـي إلـيـهِ = مـن بـهـائـي فـي غَداةٍ في رَواح
هـامَ قـلـبـي فـي هـواهُ كـيف هامَ = راحَ روحـي فـي قفـاهُ أين راح؟
لم يفـارقْنـي خـيـالٌ منه قطٌ = لـم يـزلْ هُوْ في فؤادي لا بَراح"
من أشعار، الطاهرة "قرة العين" البهائية

**
تذكري، يا فريما عندما كنا جيران..
تذكري يا فريما، جلستنا بالبلكونة الصغيرة المزينة بالريحان والشذاب وورود المسيح والرنجس، وو، نجتمع على فنجان الشاي الأحمر بالنعناع، ونحكي ونضحك!
طيب وتذكري، يا فريما عندما كنتِ تأتين إلى متحف بيت الموروث الشعبي -تراث التنوع، بباب البلقة، وصديقاتك البهائيات اللواتي يزرن اليمن، فنتناول قهوة القشر في "الحياسي" الطينية، ونتأمل الصور والأزياء، على أصوات موسيقى يمنية!
وتذكري يا فريما، ومئات الذكريات،...
نعم، هي فريما جارتي الطيبة وجيراننا البهائيون الأجمل لأكثر من 15 عامًا، بصنعاء، بشارع هائل.

فريما،صنعاء2009(من إرشيف الكاتبة)
فريما،صنعاء2009(من إرشيف الكاتبة)

فريما الطبيبة في المستشفى الجمهوري، ارتأت أن تشتغل وتعالج المرضى، وتساعدهم، ومحبة الناس هي رأسمالها الرمزي في اليمن.

جاءت بعد عرسها على المهندس الكبير بهروز روحاني، إلى اليمن، في عام 1978، وسكنت في شارع حدة، مجاورة لبيت الرئيس إبراهيم الحمدي، وتنقلت في صنعاء القديمة، إلى شارع هائل، حيث تعارفنا.

كانت فريما محبة للناس والجيران، وهم بدورهم منحوها الحب، فهي الطبيبة التي يستدعونها في أوقات الشدة، ترافقهم إلى الأطباء، وتضرب لهم الإبر، ويستفسرونها عن الأدوية... الخ، وبالمثل ابنتها الدكتورة نورا، فقد درست الطب في اليمن.. وبدورهم يتجملون منها، ويمنحونها مع الحب هدايا من الكعك والذمول، والمقصقص، ترفض، وتقول لهم: هذا واجبي، شغلي، لا أريد منكم سوى المحبة، تقول، وكلها شجن: "أمام طيبة اليمنيين الكرماء، يقنعونني بأنه لا بد أن يكون صحن الجورة متبادلًا، وحالًا في بيتها وبيتهم"، أي "عيش وملح".

تكرر فريما في كل اتصال بيننا، ومن منفاها القسري في كندا، بعد تعرضهم للتنكيل، ومن سجن وترويع، بما فيه سجن النساء والأطفال، ثم الترحيل الإكراهي: "كيف أنسى اليمن، واليمنيين، وجوههم، ابتسامتهم، وكرمهم، والدفء، البساطة، هل أنسى تلك المريضة وهي تعطيني السمن البلدي بالكباء، آه. إني أتكلم معكِ الآن وأنا أشتم رائحة السمن البلدي، ياااالله ما ألذ طعمها وأزكى شمها".

وتواصل: أنا تعلمت من اليمنيين الكثير، ثم تستذكر: أتذكر الراحلة رؤوفة حسن، وسمراء جارتي من عدن، وأم نشوان، وعائلة عبدالله الكرشمي، التي تكونت صداقة بيننا، بحكم أن زوجي بهروز، كان يشتغل مهندس طرقات لسنيين طووويلة، ووو.

"فريما" وكل البهائيين، بالرغم من أنواع العذابات والاضطهاد الديني والجسدي، والتفتيش في الضمير، والمعاناة اليومية، والتهديد بالإعدامات، والترحيل القسري، فلا يذكرون اليمن إلا بكل الخير والمحبة، نعم فريمتنا الجميلة ذات القلب الواسع، مكثت هي وزوجها وابنتاهما، يعملون بتفانٍ لأكثر من 35 عامًا، بدون حتى جنسية، ولا كلمة شكر، بل عذابات مزمنة، كانوا يتوقون لأن يحظوا بلقب: مواطن يمني.. تذكرت وأنا أكتب، المهندس الكبير بديع سنائي (على روحه السلام)، ظل يحلم ويتمنى الحصول على الجنسية اليمنية، ومكافأة لعمله الطويل، وعمل زوجته الطبيبة فائزة، سُجن وهو في السبعينيات من عمره، لم تشفع له أمراضه، ونفي، ومات في منفاه -لكسمبورغ، في 2023، وبالمثل أسرة قادري، وو... الخ.

أرجع إلى فريمتنا الجميلة:
كيف كانت وصديقات العمر، يساعدنني في نقل متحف التراث الشعبي، بعد 2011، كانت متحمسة لأحلامي الكبيرة، في واقع مهووس بالمنع والتجريم للعمل الثقافي، وللتنوع، وأي مختلف. تجاريني فريما في أحلامي: هنا، ستكون المكتبة الجديدة، هنا سيكون مسرح الحكايات الشعبية "الحزاوي"، هنا المقهى مع الموسيقى اليمنية وموسيقى الشعوب، ياااالله على أحلاااااام، قصفتنا قبل قصف الحرب، ليغلق المتحف إلى الأبد، بعد الغزو الحوثي في 21 سبتمبر 2014.

رحلت فريما وبهروز، مثلما كل البهائيين، ومن كندا، يظل بهروز يحاكيك كأنه ما خرج من باب اليمن، يظل يحدثك، عن الطريق الفلاني الذي اشتغلوا عليه، وعن الطريق العلاني، في مدن اليمن وأريافها، يحدثك باستمذاق عن الأكلات الشعبية، والتقاليد اليمنية، وعن نكات صديقه الحميم الراحل عبدالله الكرشمي، وحنينه للأصدقاء ولليمن بشرقها وغربها، ويقسم إنه سيزورها في المستقبل، بهروز حكاية يمنية -بهائية لا تمل ولا تنتهي.
وليس بآخر: الله أبهى..

تتجاذبنا المنافي، لكن، نبقى على اتصال وتواصل، وزيارات، بنفس طراوة الذكريات، ونبتعد عن ذكريات الألم، نشتاق ونبكي في حضن بعضنا، رأيت فريما وبهروز في آخر زيارة، لقد أتيا لزيارتنا قبل أشهر، وكانا ورفاق الجورة والحياة، إلهام الزارعي، وزوجها المعروف حامد حيدرة، وبناتهما، جواهر، وبشائر، وإيميلي.

قالت فريما، في اتصال أخير، بمناسبة أعياد النيروز:
يا أروى، أشتي أقولك حاجة: أريد أن أرجع اليمن، لأشوف المتحف المفتوح، اشتقت له..
اعتجمتْ، وسايرتها في حلمها، كلنا يا فريما نشتاق، لكن بيني وبين نفسي، أقول: يا فريما، اغضبي الشيطان، كفي، ولا تحلقي كثيرًا، البلاد كلها راحت في ستين داهية، تتناهبها المليشيات الإلهية بفائض العنف والدمار، تقحط الأخضر واليابس، من بشر وشجر وحجر، عاد متحف الموروث الشعبي، بيفتح! بسسس يا فريما، بس!
كم هو الأمل والأحلام عند فريما وبهروز، وكم هو العكس عندي: أنا...
هذه حكاية صورة الـ"فريما" الباهية، وبس والله، عليها وعلى كل البهائيين السلام.