غزو رفح قيد التوافق "الديمقراطي" الأمريكي الإسرائيلي

قيل لنا إن الديمقراطيات لا تعتدي، وأيضًا قيل لنا إنه لا خطر علينا من السلاح النووي الإسرائيلي، لأن إسرائيل دولة ديمقراطية، وقيل لنا إن الغرب يتحالف مع إسرائيل لأنها ديمقراطية، وعندما كنت أنتقد سياسات إسرائيل في الإعلام البريطاني، كانت ردود اللوبي الصهيوني أن إسرائيل دولة ديمقراطية بعكس كل دول الجامعة العربية.

ولايزال اللامنطق هو هو، رغم تحالف أمريكا مع الأنظمة العربية غير الديمقراطية. الإشكالية الكبرى التي يدس العرب رؤوسهم في الرمال ولا يتعاملون معها بمسؤولية، هي أن أمريكا تراجعت عن مواقفها المعلنة حول الأراضي المحتلة بعد عدوان عام 1967 على مصر وسوريا والأردن وفلسطين، وترى بأن ما بقي من فلسطين التاريخية ليس محتلًا، وأن مقاومة الاحتلال "الديمقراطي" الصهيوني غير مشروعة وغير مبررة.

أمريكا "زعيمة العالم الأبيض الحر" تستضيف مقر الأمم المتحدة، وفيها كتب ميثاقها الذي ينبذ الحرب، وينص على معاقبة المعتدي، وهي عضو الدائم في مجلس الأمن المنوط به حفظ الأمن والسلم الدوليين، وتدعي أنها دولة سلام تعشق الحرية، وتزعم أن رسالتها هي أن يسود الكرة الأرضية السلام. وها نحن مع دولة "ديمقراطية" تفاوض دولة استعمارية محتلة على نوعية الغزو "الديمقراطي" الإسرائيلي لرفح، ومقدار إلحاق الأضرار البشرية بأكثر من مليون نسمة أغلبهم نزحوا تحت نيران إسرائيل "الديمقراطية" بعد عدوانها الفاشي الشامل على القطاع في 7 أكتوبر 2023.

أمريكا بسلوكها هذا تسهم في تقويض دور وفاعلية القانون والتنظيم الدوليين، وتدفنهما، وتضيء لدولة الاحتلال الضوء الأخضر لتفعل ما تريد، وفوق ذلك كله تساعدها في الإفلات من العقوبات المخصصة حصريًا لمن تعتبرهم أمريكا أعداء لها ولإسرائيل. بعد مائتي يوم من القتل والتدمير والتهجير القسري والحصار والتجويع للغزيين، وتعبيرًا عن الفشل الذي يقرب من الهزيمة في إخضاع المقاومة وإجبارها على حمل راية الاستسلام، يقول نتنياهو إنه يدافع عن الحضارة الغربية التي وسمت الدول الاستعمارية السابقة رسالتها فيها بالرسالة التمدينية Mission civilatrice. الشريك الأهم في حكم أمريكا بنيامين نتنياهو يصر على أن يغزو رفح ويدمرها كما دمر خان يونس التي قلب جيشه فيها كل قشة بحثًا عن يحيى السنوار وأبي عبيدة، ولكنه لم يجنِ سوى الخيبة.

إن ما سيقوم به جيش الاحتلال بدعم "ديمقراطي" أمريكي شبيه بما فعلته بريطانيا وأمريكا في الحرب العالمية الثانية في غاراتهما الجوية الانتقامية المتعمدة ضد مدينة دوسلدروف الألمانية التي دمرت عن آخرها رغم استسلام النظام النازي. لربما أنسى الزمن بعض أهل دوسلدروف جرائم البلدين ومآسيهم، أو أجبرهم الطغيانان الأمريكي والمحلي على تناسيها بعد غسل أدمغة متواصل عقب انتهاء تلك الحرب وحتى اليوم. سياسة التجهيل والتناسي تسهل الانحياز الأعمى إلى إسرائيل التي ترتكب نفس جرائم البلدين في فلسطين ولبنان وسوريا منذ ثلاثة أرباع القرن.

إن ما تريده إسرائيل، إضافة إلى التدمير الانتقامي، هو جعل الفلسطيني بدون ذاكرة كالدوسلدروفي.

في غزة تسعة مخيمات للاجئين الفلسطينيين يحتفظ كثير منهم بمفاتيح بيوتهم المغتصبة في انتظار العودة المشروعة إليها وإلى أراضيهم في فلسطين التاريخية، تنفيذًا لقرار الأمم المتحدة رقم 194 الصادر عام 1948، والذي لم تُقبل إسرائيل كعضو فيها إلا بعد موافقتها على تنفيذه مع قرار تقسيم فلسطين رقم 147 الصادر عام 1947 إلى دولتين إحداهما نشأت بالإرهاب وبالتواطؤ الغربي، والأخرى لاتزال في طابور الرضا "الديمقراطي" الأمريكي.

أمريكا منذ عهد الرئيس ترومان وحتى الرئيس الصهيوني الحالي بايدن، ضد حقوق الفلسطينيين التي تؤيدها غالبية دول العالم. ولكن لتعلم دولة العدوان أنها لن تنتصر في حربها الانتقامية ضد شعب غزة رغم صعوبة ظروف المقاومة ومعاناة السكان وخيبة أملهم في الظهير القريب قبل البعيد وفي "المجتمع الدولي" الذي يعبر عن ضميره بجرأة وصدق سكرتير عام الأمم جوتيريش. الفلسطيني يعي جيدًا أنه في صراع وجودي مع الكيان الصهيوني، وأن استسلامه مآله الحتمي تصفية قضية فلسطين، وهو ما تتمناه دولتا الاحتلال لكي تضعا العالم ومنهم العرب أمام أمر واقع.

لقد أثبتت أحداث غزة مدى الاعتماد الإسرائيلي على واشنطن، وأظهرت أيضًا مدى تخلي العرب عن أسلحتهم "الناعمة" في الضغط على أمريكا لوقف الحرب ووقف بيع الأسلحة والذخائر لإسرائيل على الأقل خلال هذه الفترة السوداء، وسحب خبرائها العسكريين الذين يشتركون مع الإسرائيليين في التخطيط والتنفيذ والقتال في صفوف العدو للقضاء على المقاومة وتصفية قضية فلسطين.

لقد فشلت الدولة العنصرية في كل ما سعت إليه في 7 أكتوبر 2023، برغم الدعم الأمريكي والألماني والبريطاني والفرنسي، ولم يكن لجوؤها للاغتيالات في غزة ولبنان، الذي لم تدنه "الديمقراطيات" المعتقة، سوى تعبير آخر عن فشلها. النصر لفلسطين، منطق التاريخ يعلمنا أن النصر حليف من يقاوم، وليس من يعتدي ويحتل.