محمد المساح.. لحظة يا زمن

-1-

عرفت محمد المساح أواخر صيف 1966م، في القاهرة، عند التحاقنا معًا بجامعة القاهرة، هو في كلية الآداب، قسم الصحافة، وأنا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. ولم تنقطع معرفتي به زميلًا وصديقًا ورفيقًا في ملتقيات الجامعة وفي سكنه في حي جزيرة "المنيل"، وفي مقر "رابطة الطلبة اليمنيين"، التي كانت ملتقى ومنتدى للطلاب اليمنيين لحضور الندوات والمحاضرات والأمسيات الطلابية في شهور الإجازة الصيفية. وكان محمد المساح لا يفارق لياليها، ويضفي حضوره أمسياتها حضورًا خاصًا من الثقافة والتعليقات المرحة والساخرة، ولم يكن يفارقه "الكتاب الأحمر" كتيب الثورة الثقافية الصينية لمطلقها الزعيم "ماو تسي تونج"، وكذا دعاباته مع "العم حسان"، المخبر المكرس لتتبع نشاط الطلبة اليمنيين ورابطتهم الطلابية وما يدور فيها، أو طلباته "فوق الحساب" المسجل في دفتر "العم هارون" الساكن وأسرته في مقر الرابطة، والقائم على خدمة طلبات الطلاب المرتادين للرابطة من شاي ومشروبات وألعاب.

المساح طالبًا في القاهرة
المساح طالبًا في القاهرة

ولم يكن محمد المساح يفارق الوقفات الطلابية الاحتجاجية عند مقر "البعثات الطلابية اليمنية" في مقرها الكائن في شارع "المساحة"، حيث مكتب "القنصلية اليمنية"، وأشهرها وقفة الاحتجاج على استمارة خانة "المذهب الديني" للطالب اليمني المبتعث، وذلك عند تقلد السفير عبدالرحيم عبدالله منصب السفير في نهاية صيف 1966م، أو الاحتجاج أمام باب السفارة على اللجنة الثلاثية المنبثقة من "قمة الخرطوم" العربية في أكتوبر 1967م، الذاهبة للتفريط بمصير النظام الجمهوري، أو الاعتصام الطلابي في السفارة اليمنية احتجاجًا على اغتيال البطل عبدالرقيب عبدالوهاب؛ رئيس أركان القوات المسلحة في الجمهورية العربية اليمنية، وبطل معركة فك حصار السبعين يومًا (1967-1968) عن صنعاء، وتعرضه للسحل في شارع "جمال عبدالناصر" في العاصمة "صنعاء".. في كل هذه الوقفات والاعتصامات وغيرها كان محمد المساح حاضرًا وناشطًا.. ويضفي وجوده عليها مذاقًا خاصًا.

-2-

محمد المساح وعبدالودود سيف
محمد المساح وعبدالودود سيف

الأربعاء؛ 30 مايو 1973م، يأتيني الخبر في الصباح الباكر عن حملة اعتقالات يشنها محمد خميس وأجهزته في العاصمة صنعاء، على ذمة جريمة اغتيال نفذت في مدينة تعز، فجر ذلك اليوم، في الشهيد الشيخ محمد علي عثمان، عضو المجلس الجمهوري، وأول رئيس سابق للجمهورية العربية اليمنية.. أخف سريعًا إلى مقر عملي وزارة الاقتصاد، طالبًا الإجازة كتابيًا. أسمع في الطريق نبأ اعتقال محمد المساح والشاعر الكبير الأديب والصحافي عبدالودود سيف، وآخرين، فأتحرك سريعًا إلى منزل نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية محمد أحمد نعمان، للمراجعة لهما، فالرجل من سابق مناقشات معه يعتقد بحرية العمل السياسي السلمي وحق المعارضين فيها.

 

ليس للرجل حراسة ولا حارس في بوابة سور منزله ولا في باب مسكنه، ووجدت باب المنزل ذاته مفتوحًا، فإذا بي أمامه في صالونه، بدأ تناول وجبة الصباح يدعوني لتناولها معه. أبادره بنبأ اعتقال الرجلين، منبهًا من خطورة الهستيريا الأمنية واستغلال الحادث الواقع بعيدًا في مدينة بعيدة لتصفيات في العاصمة وغيرها من مدن الجمهورية، تكون الغاية منها جر البلاد إلى فوضى واسعة لا تحمد عقباها. استوقفني قائلًا: "على مهلك، أنا أقرأ للاثنين، أتابع كتابات الاثنين بإعجاب". يتصل الرجل بوزير الإعلام أحمد دهمش، سائلًا إياه عن محمد المساح وعبدالودود سيف، فيوضح له أن التوجيهات مشددة من رئيس الوزراء القاضي عبدالله الحجري، بقطع راتبيهما وفصلهما من الوظيفة، لكنه عند سؤال النعمان له عن أدائهما وكفاءتهما أجاب أنهما ممتازان كفاءة وأداءً.

عندئذ خاطبه محمد نعمان بلغة مشددة أن قطع الراتب ممنوع، والفصل من الوظيفة ممنوع من أي مستوى سياسي في الدولة، ولامه على عدم الدفاع عنهما، ووجهه بأن يرفع مذكرة بذلك، ويدافع عنهما، يوجهها إلى رئيس الوزراء، ومنسوخة إلى الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني، وإليه أيضًا (أي محمد نعمان)، وأنه سيتابع أمرهما وأية حالة مماثلة إن استجدت مع القاضيين الإرياني والحجري.

وبعد أيام ثلاثة عدت إلى منزل محمد نعمان باكرًا لمتابعة المراجعة، والرجل على حاله السابق لا حراسة والبوابة مشرعة وهو يستعد لركوب سيارته الصغيرة الخنفساء (فولكس واجن)، فدعاني إلى الصعود بجانبه، ويقودها بنفسه، وفي الطريق إلى مكتبه بوزارة الخارجية قال: "الآن كسبنا الحفاظ على الوظيفة، والحفاظ على الراتب، والباقي سأتابعه حتى الإفراج".

لاحقًا، شوهد عبدالودود سيف يتردد على منزل محمد نعمان.. وشوهد فقيدنا محمد المساح يزور محمد نعمان ويجالسه ويناقشه، بل يمازحه أحيانًا كصديق.. وشوهد في وقت لاحق يزور منزله، باكيًا، نائحًا، معزيًا والده الأستاذ أحمد بابنه الشهيد محمد نعمان، بعد استشهاده في بيروت، 28 يونيو 1974م.

 

-3-

عقب الوحدة اليمنية مايو 1990م، حضر محمد المساح أول اجتماع موسع مفتوح لأعضاء الحزب الاشتراكي اليمني، في العاصمة صنعاء، عقد في قاعة مسرح المركز الثقافي.. كنت إلى جانب صالح عبيد، عضو المكتب السياسي نائب رئيس الوزراء، في المنصة، فما إن افتتح الاجتماع، وطلب تسجيل أسماء الراغبين في الحديث، حتى برز محمد المساح دون إذن متحدثًا بصوت عالٍ، هادرًا، ومجلجلًا، ناقدًا، وهازئًا، سائلًا، ثم مقترحًا قائمة مركزة من المقترحات الرصينة..

يا لك من إنسان مدهش، وشجاع الرأي..

-4-

بين أكتوبر 2013م ويونيو 2018م، لم ينقطع محمد المساح عن زيارتي بصورة منتظمة وشبه منتظمة من أيام الأسبوع، كلما كان في مدينة العاصمة صنعاء.. متناوبًا على صنعاء وقريته (الردع -القبلي). كانت تلك الزيارات واللقاءات من أطيب أوقات الحياة للاثنين، رغم قسوة حياة المشهد الحربي الآثم الذي خيم على الوطن.

 

-5-

الجمعة، 19 أبريل 2024م، فارق الحياة.

محمد المساح مات قتيل الجوع والفقر وانقطاع الراتب، والمعاش التقاعدي..

كثيرون هم من يفارقون الحياة هذه الأيام، وعلى مدى عقد من الزمان قتلى الجوع والفقر والمرض.. يموتون قهرًا وكمدًا.. وانقطاع الراتب والمعاش القاتل الأشد فتكًا وحصدًا لأرواح المناضلين..

رسالتي لمن بقي من الفقراء والضعفاء ممن هم مازالوا على قيد الحياة، تدبروا أموركم وحدكم.. لقد عز النصير..

اصنعوا من ضعفكم قوة.. أعيدوا تنظيم صفوفكم.. تدبروا الحيلة والفطنة لإنشاء مؤسسة وأكثر للعمل الخيري ترعى الأحياء منكم.. وترعى أطفال الموتى من آبائكم..

التنظيم.. التنظيم.. ثم التنظيم..

ضموا صفوفكم.. يرحمكم الله!