المساح.. يستوقف الزمن!

مساء أمس الجمعة، صدمتني منشوراتٌ على "فيسبوك"، كان أصحابها بين مؤكدٍ وغير مصدقٍ خبرَ وفاة الكاتب الصحافي الكبير محمد المساح. ومن بين المنشورات والتعليقات من ينكر الخبر إنكارًا لا يعتريه الشك، ولا يجانبه اليقين.

كنتُ قبلها بأقل من ثلاث ساعات، أراجع آخر مقالين كتبهما، قبل نشرهما في موقع "النداء"، وأستبين ما استعصى وضوحه لمحررة الموقع التي تتكفل بطباعة المقالات، وإرسالها إليَّ مرفقةً بصورٍ لأصل كل مقالٍ بخط يده. وبدوري نادرًا ما أعجز عن فك شفرات الخط؛ معتمدًا على خبرتي الطويلة في التعامل مع كثير من الخطوط!

محمد المساح ذات صباح(شبكات التواصل)
محمد المساح ذات صباح(شبكات التواصل)

لذلك، علقتُ بدايةً على أحد المنشورات، بالدعاء للكاتب المسّاح بطول العمر، بناءً على حداثة المقالين اللذين بين يديَّ، وغزارة ما كتبه خلال الفترة الماضية. لكنني، حيال تزايد المنشورات، اقتحمتُ صفحة الأستاذ عبدالرحمن بجاش؛ لمعرفتي أنه أقرب أصدقائه إليه، ولم أجد لديه خبرًا، فما لبثتُ أن لجأتُ إلى الزميلة فاطمة الأغبري، أستفسرها؛ باعتبارها -حد استنتاجي- آخر من تواصلتْ معه، وكانت الواسطة بيني وبينه عبر المقالين اللذين أرسلتهما لي قبلذاك، فجاءني صوتها الباكي، وكلماتها المبحوحة، ونعيها المخنوق بغصة القهر والوجع، والذي أكد لي النبأ الفاجع، والحال الفادح.
يعرف الكثيرون محمد المساح، الرجل الكبير بنضاله، الكثير بتواضعه وقربه من البسطاء وأحلامهم وتطلعاتهم، والمعبر عن أشواقهم ووجدانهم، من خلال عموده الصحافي الأشهر "لحظة يا زمن"، الذي استمر عقودًا في الصفحة الأخيرة لصحيفة "الثورة" الرسمية، التي رأس تحريرها خلال عقد السبعينيات من القرن العشرين، وكان أحد أعمدتها وأعلامها، قبل أن ينزح مُجبرًا إلى قريته في عزلة العزاعز بمحافظة تعز، ويستقر به المقام بين أحضان الطبيعة الريفية، بجمالها وقساوتها، رفقة أغنامٍ يرعاها، كانت أقرب إليه من الناس، إلا قليلًا ممن ظل على العهد، واستمسك بفضيلة الوفاء، في ظل الأوضاع المعيشية والاقتصادية والسياسية، التي قست عليه، ولم ترأف بقلبه الطيب، ولم تحترم تاريخه الجليل.

وإذ يكابد الظروف الصعبة بقلبٍ كبير وإرادةٍ صلبة، كان يعاند الصعاب باستقراءاته واستشرافاته، وبخلاصاتٍ وجدانية ونثرياتٍ رقيقة، ينثرها حروفًا مشعة بالأمل، عبر العمود ذاته الذي انتصب، خلال الأشهر الماضية، في موقع "النداء"، لصاحبه الأستاذ سامي غالب، فاسحًا له مجالًا للحرية التي افتقدها في ظل التطورات السياسية والعسكرية التي شهدتها اليمن خلال السنوات الماضية، وماتزال، وفاتحًا له نافذةً للتعبير عن مكنون ذاته المجبولة على الحب، وفكره المعجون بهموم وقضايا المجتمع.

هذا هو المساح الذي قرأناه وقرأنا له، وقرأنا وسمعنا عنه من مجايليه وأصدقائه وتلاميذه الكثر في المجال الصحافي، ومن المهتمين بالشأن الأدبي والإبداعي عمومًا. هذا هو الكاتب المثقف الذي عانى ولم يشكُ، والذي قست عليه الظروف والسلطات معًا، ولم يستسلم، والذي برزت له المغريات، وشخصت في وجهه التهديدات، ولم يخضع، والذي صمد على المبدأ والموقف الملتزم، وتحدى الصعوبات، حتى أسلم روحه لله، إثر ذبحة صدرية، مساء الجمعة 19 أبريل 2024، عن قرابة 81 عامًا، ليستوقف الزمن أبدًا، وللمرة الأخيرة.