محاولة إعادة صياغة اليمن الجمهوري

الحوثيون فوق ولعهم المبالغ فيه بطبخ وتنفيذ الخطط المريبة والعجيبة للإثراء غير المشروع، وبسرعة الضوء، فهم مسكونون أيضًا بهاجس الحقد على الناس في أن يكونوا ميسوري أو مستوري الحال، لذلك يسعون وبسرعة الضوء لإفقار وتجويع المجتمع من خلال سد منافذ مصادر أرزاقهم وفرض الضرائب الباهظة على التجار وأصحاب المهن والحرف، بل حتى على العقارات البسيطة التي لا يكفي إيجارها الشهري لسد رمق أصحابها لأسبوع، بل وفرض الزكاة عليها أيضًا، وعلى جهود المبدعين والمحاسبين والمحامين، إذ تصمهم بأنهم جماعة جباة، ومع علمهم أن الدولة كانت قبل انقلابهم تغطي كل نفقاتها، بما في ذلك المرتبات، غير أنها تتحايل على صرف رواتب الموظفين غير التابعين لها!

اليوم أصبح لدى الحوثة فوق ما سبق، دخول مهولة من شركات الاتصالات، ومن فوارق أسعار المشتقات النفطية، ومن الموانئ ومنافذ الجمارك والضرائب والأوقاف وغيرها!

وكثيرة هي المبالغات في جباياتهم، وفي فرض الإتاوات خارج نطاق الدستور والقانون، والرسوم التي تجبيها عدد من وزاراتهم كوزارة الصناعة والتجارة والأمانة والبلدية والمصالح والمؤسسات الخدمية، وهي تفوق الخيال، فدخل شهر يغطي نفقات مرتبات موظفي اليمن عامةً أكثر من سنة!
وصل الجشع بهم، وبدون حياء أو وجل، إلى فرض إتاوات على حمامات البيوت، في سابقة لا تخطر على إبليس الرجيم، فمطلوب من سكان الكهوف ومنازل الفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم، أن يدفعوا لهم بلا خجل ولا حياء رسوم فضلات براميل الزبالة التي يقتاتون منها ما يسد رمق جوعهم في عهدهم الميمون!

الحوثيون فوق ذلك جادون في كل منشوراتهم، وندواتهم ومحاضراتهم ودوراتهم وإعلامهم المرئي والمقروء والمسموع، ومنابر الجوامع، ووسائل السوشيال الميديا اليمنية، وآلاف ذباباتهم الإلكترونية وأراجوزاتهم وحاملي مباخرهم، وغير ذلك من الوسائل، نعم إنهم جادون على صب فيض من المعلومات المزيفة الخطرة على وعي المجتمع، وعلى أمنه، وعلى وحدته الوطنية وسلامة نسيجه المجتمعي! فتزييف الوعي جارٍ على قدم وساق، ويظنون أنهم بذلك يمسحون ذاكرة الشعب، متجاهلين أن التاريخ لا يرحم، وأن الكرسي دوار!

الناس لا تثق في أي من أدواتهم تلك البتة، بخاصة وهي أدوات مفضوحة، وتحمل ما يكذبها في طياتها، فوق أنهم عمليًا يُكذبون كلامهم النظري والشفاهي بممارساتهم العملية اليومية التي تخلق لدى الناس الحنق عليهم، بل تخلق لديهم شعورًا متفاقمًا بالقنوط وعدم الأمان وفقدان الأمل بإمكانية قدوم غد أفضل يسترد فيه اليمنيون أمنهم، وأن يعيشوا الحياة الكريمة الطبيعية التي كانوا يشهدون فيها قدرًا من الحريات العامة والخاصة، وعلى مدار الساعة كانوا يشهدون تنفيذ العديد من الخطط والبرامج التنموية بوضع أحجار الأساس لمشاريع مختلفة، وافتتاح مشاريع أخرى هنا وهناك، بصرف النظر عن مستوى جودة ومصادر تمويل تلك المشاريع، المهم أن البلاد كانت تشهد شيئًا من الحراك التنموي، والناس كانوا ينعمون بقدر لا بأس به من الحريات الشخصية والعامة، ورغم بؤس البعض في ذلك الحين، إلا أن الحوثيين بجحيمهم الذي يصطليه الشعب اليمني اليوم، جعلوا من العودة إلى ذلك البؤس حلمًا يتطلع إليه اليوم الغالب الأعم من أبناء اليمن!

يجب ألا يثق أحد من الناس في أدوات الحوثيين التثقيفية والإعلامية، لأنها أدوات تحمل في طياتها أفكارًا سيئة الصيت رديئة السمعة، وتبث سمومًا قاتلة في صورة معلومات تفتقر إلى الحد الأدنى من الثقة والمصداقية، وتخلو إلى درجة كبيرة من الموضوعية والحيادية!
لذلك، فعقلاء الناس في المجتمع، وحتى محدودي النباهة منهم -وإن تظاهروا بالتماهي معها- يدركون تمامًا أنها كلها أدوات مُسَخَّرَةٌ لتسميم عقول الناشئة وتسويق هراءات وهرطقات لا تسمن ولا تغني من جوع، لأن الآباء يمسحون تلك الأباطيل بشرح بسيط لأولادهم عن العهد الذي ثاروا عليه، فجاء ما هو أسوأ منه، وأن ما تقوم به أدوات الحوثة من تزييف لوعي الناس، وبالذات محدودي الثقافة من المتعلمين بخاصة، إنما هي برامج ممنهجة سعيًا منهم على خطاهم البائس في محاولة بائسة لإعادة صياغة المجتمع اليمني الجمهوري الوحدوي، وتحويله من مجتمع جمهوري حُر ديمقراطي يتطلع إلى التنمية والتقدم والحياة الكريمة، إلى مجتمع ساذج مغفل بليد بما يكفي لاستعباده، وإلى قلب ترتيب أولوياته رأسًا على عقب، وعلى نحو زرع الإيمان بالهوية الإيمانية المزعومة لتعميق الإيمان بالدونية في وجدان ووعي الناس، وتكريس دلالات خاطئة كاذبة مزورة بتضخيم ذواتهم وتفضيلهم على سائر البشر، وعلى أنهم وحدهم أصحاب الحق في الحكم، وهم دون سائر عباد الله المستحقون لتبوؤ المناصب الوظيفية العليا والوسطى، وما دونها من وظائف الدولة، وممارسة أعلى الأنشطة المالية والتجارية والمصرفية، بل وأنهم دون غيرهم من يستحق الحياة الكريمة في الدنيا، والجديرون دون غيرهم بنعيم الآخرة!

وحشية واضطهاد الحوثيين لأبناء جلدتهم في المحافظات التي أخضعوها بالغلبة وقوة السلاح، وسعيهم لإشعال الحروب في بقية المحافظات والمناطق الداخلة في نطاق الشرعية الرخوة، يفاقم إحساس الناس بعدم الأمان، وبأنهم يسيرون باليمن إلى المجهول!

قسوة الحوثيين في تعاملهم مع اليمنيين، وعبثهم بالبلاد، معروف لكافة حكومات وشعوب الأرض قاطبة، والأهم أن كل يمني يعرف حق المعرفة أنه ضحية الحوثيين، وشاهد في الوقت نفسه على ظلمهم، و على سعيهم وسعي حكومة وقيادة شرعية الفنادق الحثيث الخبيث الوقح، لجعل أبناء اليمن مشتتين في أصقاع المعمورة، يتضورون جوعًا دون رحمة!
الحوثيون خاصة من دون سائر الناس، يؤكدون بممارساتهم اليومية المتغطرسة النابعة من تنامي ثقافتهم في شعورهم المعلول السخيف باستحقاقهم التعالي على الناس، وكأنهم يتمثلون بقصيدة عمرو بن كلثوم، ومنها قوله:
ونشرَب -إن وردنا الماء- صفوًا
ويشرب غيرنا كدرًا وطينا
إذا بلَغ الفطامَ لنا صبيٌّ
تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا
الشيخ المنشق عن حركتهم الأستاذ صالح هبرة، كغيره من أحرار اليمنيين، في أكثر من منشور خاطب قائد مسيرتهم عبدالملك الحوثي شخصيًا، يدعوه إلى ضرورة ولزوم العمل على إيقاف الفساد المستشري في أوساط جماعته، آخرها منشوره الموسوم ب: "من صالح هبرة إلى السيد أبو جبريل"، قال له بصريح العبارة إن الشعب اليمني في ظل قيادته يصارع الموت ويلفظ أنفاسه، في حين أن معظم أتباعه يعيشون في ترف باذخ، وحذره هو ومسيرته من خطورة سياستهم في إفقار الشعب وتجهيله!

وحيال منشور الأستاذ صالح هبرة، كنت علقت عليه في صفحتي في "فيسبوك"، ومما قلت في تعليقي: "يقال إن مثل هذه الكتابات لا تصل لعبدالملك الحوثي!
ولكن حتى إذا وصلت له هل سيعيها بقلب صادق؟!
وإذا وعيها بقلب صادق، هل هو جاد فعلًا في إصلاح الحال، وفي تحسين أحوال الشعب، ويملك القرار الوطني في القضاء على الفساد وإصلاح أحوال البلاد والعباد؟!
مجرد أسئلة لا تحتاج إلى بيان من الأستاذ الشيخ صالح هبرة رعاه الله، ولا ممن آتاهم الله قلبًا سليمًا من غيره الذين يمتلكون القدرة الطبيعية والعادية جدًا لاستنطاق الواقع الكارثي والشارع المخيف لأعوام تسعة عجاف كارثية سوداء، التي لا ولن تجدي معها مواصلة التغابي والإفراط في السلب والنهب والظلم وسياسة الإفقار والتجويع.

الأستاذ صالح هبرة وغيره من رجال ونساء اليمن الصادقين، ينصحون مرات ومرات ومرات براءة للذمة، وإن أتت نصائح بعضهم بعبارات خالية من أساليب المداجاة والمداهنة والملاينة، غير أنها يجب أن تلقى آذانًا صاغية، يجب الأخذ بأنفعها لما في دلالتها وجوهرها لزوم رفع الظلم عن كاهل أبناء الشعب، وضرورة تحسين أوضاعهم الحياتية".

وأضيف هنا دعوة أبي جبريل وأتباعه إلى ضرورة العدول نهائيًا عن ظلم الناس، وترك الحرص على إفقارهم وتجويعهم، والزج بهم في السجون من ناحية، وأدعوه من ناحية ثانية إلى الكف نهائيًا عن محاولة العبث بالاسم الرسمي الشهير للجمهورية اليمنية، والكف أيضًا نهائيًا عن السعي لإعادة صياغة ثقافة وهوية المجتمع اليمني الجمهوري، وإحلال نظام الولاية كنظام بديل للنظام الجمهوري الذي ألفه ويألفه ويألف به كل يمني على وجه البسيطة!

وأدعوه وأدعو أجنحة الشرعية كلها -إن كان لديهم كلهم ذرة من خير- إلى نبذ الحروب، والجنوح إلى السلام بإرادة يمنية بحتة وصادقة، دون مناورة أو مراوغة سياسية تنفيذًا لأي إملاءات خارجية تضر بمصالح اليمن واليمنيين.
والله من وراء القصد.