اليمن: التاريخ والهُوية (4-4)

الإهداء:

 د. عبدالله أبو الغيث( منصات التواصل)
د. عبدالله أبو الغيث( منصات التواصل)

إلى الصديق د. عبدالله أبو الغيث، بروفيسور في تاريخ اليمن القديم، له إسهامات طيبة، وإضافات معرفية نقدية وسياسية يعتد بها في قراءة تاريخ اليمن القديم، وجدت في مساهماته إضافات طيبة تحسب له في تقديم قراءات تأصيلية حول وحدة تاريخ الدولة في اليمن القديم.
مع عزيز الاحترام له.

اليمن/ الدولة والإنجاز، السياسي/ الحضاري:

كيف لنا أن نفسر توحيد الممالك والدول اليمنية القديمة (في الفترات المختلفة)، وتحت قيادة هذا الملك "ملك سبأ" أو ذلك القيل، أو التبع، "شمر يهرعش" أو "أسعد الكامل"، وغيرهم؟ ففي مراحل أواخر القرن الثاني والقرن الثالث الميلادي، نشهد تحولات الممالك والدول من "ملك سبأ" إلى "ملك سبأ وذي ريدان"، وهي الفترة التي سيطرت فيها حمير على سبأ(1).

إنه تاريخ إنجاز على مستوى (العمران)، وبناء الدول والممالك.
إنجاز تم في شروط تحولات سياسية معينة ومختلفة، شهدنا فيه وخلاله إضافة اسم آخر تحتويه المملكة، أو الدولة، في شكلها ومضمونها السياسي الجديد، مع شمر يهرعش الذي ضم حضرموت إلى مملكته "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، ثم أُلحق أو أضيف إليها بعد ذلك "أعرابهم طودًا، وتهامة"، كما تم مع الملك/ التبع، أسعد الكامل، أوائل القرن الخامس الميلادي، وسنجد أن اسم المكرب متداول بين الممالك والدول اليمنية في كل الجغرافيا اليمنية/ جغرافية جنوب الجزيرة العربية، ولكنه غاب في المرحلة المتأخرة.

حول اسم مكرب يمكننا القول وفقًا للنقوش إنه لم يكن حكرًا على سبأ، بل إن اسم المكرب كحاكم موجود في مناطق الشمال والجنوب، الجغرافية والديموغرافية التاريخية، وهو ما تقوله النقوش المختلفة.. فقد تلقب "حكام قتبان بالمكرب وبالملك بعدها"(2)، وقد سبقت الإشارة إلى أن حضرموت عرفت المكرب أو نظام حكم المكرب.
فعلى سيبل المثال، "في القرن الثاني قبل الميلاد، نجد المكرب يدع أب ذبيان بن شهر يصف نفسه بأنه مكرب قتبان، وكل ولد عم وأوسان وكحد ودهس وتبني (ف 3550 و4328 وركمانز 390). ويتلقب في نقش آخر (ف3878) بلقب الملك. ويبدو -كما يرى د. بافقيه- أن قتبان في وقته كانت تسيطر أيضًا على كل بلاد مراد"(3).

دول وممالك ارتكز بنيانها اللغوي والكتابي والثقافي والديني (على تعدده الوثني)، على قواعد وقواسم مشتركة توحد في ما بينها، كبنية وكيان ثقافي حضاري، فحتى سيول الأمطار ستجد أن منابعها ومصباتها تؤكد على ذلك المعنى.

إنه تاريخ وهُوية تشكلا ليس على أساس العاطفة "الوطنية"، الرومانسية الجياشة، أو المجد الشعري، والتباهي بأجود من يقول الشعر؛ بل بالإنجاز العمراني والثقافي والقانوني والمادي الحضاري، الذي شواهده تدل عليه، وتصفعنا بأقسى عبارات النقد، لأنها تكشف عجزنا وضعفنا وخوارنا اليوم.
إن التاريخ السياسي الاجتماعي، وحتى العسكري بين الممالك اليمنية، تاريخ مشترك من الصلات المتبادلة سلمًا وحربًا، وهو قانون موضوعي عام، كان يحكم طبيعة العلاقات في العالم القديم كله، وليس من المفيد للقراءة التاريخية إنزال إسقاطاتنا الأيديولوجية على مسار حركة التطور التاريخي، لتفسره لنا بأثر ذاتي رجعي.

الهُوية في تعبيرها أو مفهومها التاريخي الواسع، هي تاريخ متصل ومتواصل، هي جغرافية ممتدة تتسع وتضيق وفقًا للشروط السياسية المتحولة، ولكنها تبقى الجغرافيا التي ليس بيدنا تبديلها أو نقلها من مكان إلى آخر، هي الجغرافيا التي تحتوي ذلك الإنسان وتاريخه السياسي والاجتماعي والثقافي والنفسي (ذاكرته الثقافية والنفسية)، في خصوصياتها المحلية، والعامة (الوطنية)، إذا جاز استخدامنا المجازي لمفهوم "الوطنية"، دلالة لمعنى "العام" كمشترك جامع في سياق تاريخي طويل.

يمكننا القول إن اليمن في تاريخه السياسي تجزأ وتوحد، على أن الكيان الثقافي الحضاري بقي هو الجامع المشترك لليمنيين قاطبة، وهو اليوم -ذلك التاريخ- من يدافع عنا ويحمينا من ضعفنا اليوم.. بقي هُوية جامعة لنا بعيدًا عن تبدلات وتحولات الشرط السياسي (السلطة)، والتاريخ اليمني يقول ذلك بوضوح.

فالوحدة، والتجزئة، التحالف والصراع، الاقتتال والصلح، هي السمة الموضوعية التاريخية لتلك المرحلة، لا فرق بين ما تسميه اليوم شمالًا أو جنوبًا، وهو ما تقوله النقوش اليمنية، وحول ذلك يشير د. محمد عبدالقادر بافقيه إلى نقش قتباني (cIAS47082/02) -فترة الصراع الحميري، السبئي، الحضرمي- حول قيام آخر ملوك قتبان واسمه "نبط" للقاء ملك سبأ، ثم إلى أرض حمير، ويتساءل بافقيه: هل لذلك علاقة بالصلح الذي تم بعد الحرب الشاملة(4).

فتاريخ اليمن القديم -أو جنوب الجزيرة العربية- والذي يحتوي كل الأرض اليمنية التي يصطلح عليها اليوم بتسمية الشمال والجنوب، شهد تلك الصراعات والتحالفات (وتقلب التحالفات)، والحروب، كما شهد ذلك غيرها من دول العالم القديم.

هناك إجماع على أن كلمة "يمنت"(5) في النقوش المسندية القديمة هي جنوبية المعنى والأصل (أقصد تعني وتخص مناطق جنوب الجزيرة العربية وسواحلها أمس، واليوم)، وهي هنا تعني مناطق اليمن. إن أقيال اليمن وملوكه يتوزعون في الحكم/ الملك، على مناطق اليمن كلها (شمالًا وجنوبًا) ودارسو التاريخ اليمني من الاختصاصيين يعرفون ذلك.

وكلمة "يمنت" لفظة جديدة لم ترد في المسند -تحديدًا في العصر السبئي الأول والثاني حسب تقسيم د. محمد عبدالقادر بافقيه- ولا في المصادر الكلاسيكية التاريخية الأخرى "وقفنا عليها في الكتابات التي دونت بعد الميلاد في النقوش المكتشفة بعد ذلك.. "يمنت" وفي رأي "جلاسر أو جلازر"، كلمة "يمنت" عامة تشمل الأرضين في القسم الجنوبي الغربي من جزيرة العرب من باب المندب حتى حضرموت، و"يمنت" تعني في العربية الجنوبية، القسم الجنوبي من أرض حضرموت، "ومن يمنت" ولدت كلمة اليمن التي توسع مدلولها في العصور الإسلامية حتى شملت أرضين واسعة"(6).

"المسند وحده كان تاج أو أساس الهوية اليمنية، ولكل ممالك اليمن في سلامها أو حروبها"(7). فالهُوية الوطنية اليمنية الجامعة شيء، والهُويات السياسية التي تفرزها الصراعات والانقسامات السياسية في مراحل التاريخ المختلفة شيء آخر.

إنه اليمن، تاريخ سياسي، اقتصادي، ثقافي اجتماعي، حضاري، تاريخ ازدهار علمي إنتاجي، زراعي حرفي، صناعي، قانوني، وتشريعي، تقف معالمه وتواريخه في متون المصادر التاريخية، شاهدة على ممالك ودول تحكمت بمصادر التجارة البرية، والبحرية "طريق البخور واللبان" (طرق المواصلات المحلية والدولية)، وخلقت علاقة ثقافية، حضارية إنسانية وتجارية مع "طريق الحرير الصيني"، ومع ما حولها، ومع العالم الخارجي الذي قبل بها، وتعامل معها كدول وممالك حضارية منتجة، وليس ممالك ودولًا عسكرية حربية.. حضارة كيّف وطوّع فيها الإنسان اليمني الطبيعة (الجبال والسهول) من حوله، لخدمته؛ ظاهرة السدود.

ومن المهم هنا لفت النظر إلى أنه بقدر ما ارتبط "طريق الحرير" باسم الصين، كرمزية تاريخية، فقد ارتبط كذلك باسم اليمن كطرف شريك فاعل فيه، فقد كان اليمن القديم، دولًا وممالك على صلة مع ذلك الطريق والتاريخ.
دول وممالك كانت صلة الوصل بالعالم الخارجي، اقتصاديًا وثقافيًا وحضاريًا، أقامت دولها على أرقى أشكال أنظمة الملك والحكم (الملكية)، في ذلك التاريخ، وبهرت العالم بما تصنعه وتنتجه من خيرات مادية، وثقافية علمية، وعملية وحضارية، من الاقتصاد الزراعي متعدد المستويات حتى السدود، إلى شق الطرق، وحفر الأنفاق الضخمة، وصناعة الرماح والسيوف والحديد، ونحت التماثيل، إلى بناء المعابد، وزخرفتها، إلى اختراع الحروف الأبجدية/ المسند، لغة المسند، والعمران، وسك النقود، كدليل على مستوى عالٍ من التطور الاقتصادي/ المادي، ذلك أن سك وضرب النقود باسم الملك والمملكة شأن الدول الحضارية الكبرى في ذلك التاريخ.. إلى هندسة الديانات الخاصة بها (الوثنية/ القمر، الإله الحضرمي "سين"/ "ألمقه" "ود أب")(8 ).

يقول بليني: "إن شبوة وحدها تحتوي ستين معبدًا(9)، إلى جانب أتباع الديانات التوحيدية اليهودية، والمسيحية، وصولًا إلى دور اليمنيين العظيم في صناعة مجد الحضارة العربية الإسلامية في الفتوحات الإسلامية، التي كانوا من أوائل المشاركين والفاعلين فيها، ومن نافل القول الإشارة إلى أقوال وأحاديث الرسول الكريم محمد (ص) حول اليمن واليمنيين، الذين قدموا إليه من كل مناطق اليمن شمالًا وجنوبًا -كما سبقت الإشارة- ملتحقين بالدعوة المحمدية، وفي نصرة الدين الإسلامي.

إن خطاب الرسول الكريم (ص)، مع جميع الوفود القادمة إليه من مختلف ما يسمى تاريخيًا، "جنوب الجزيرة العربية"، كان يطلق عليهم "أهل اليمن"، ونصوص أحاديثه العديدة تطلق عليهم كذلك، من همدان، إلى حضرموت، وحتى مختلف المناطق اليمنية.
ومن هنا، حديثنا عن اليمن، التاريخ والهُوية، التي ارتبطت بحضارة بناء الدول.

وماتزال الآثار المختلفة والسدود، و"عقبة مبلقة" التي تؤدي من خلال الجبال إلى "وادي حريب"، باقية إلى يومنا هذا، شاهدًا حيًا على تلك الأعمال الجبارة"(10).
إنها اليمن، التاريخ، والهُوية والحضارة.

الهوامش:

1. انظر جواد علي: "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، جزء(2)، ساعدت جامعة بغداد في طبعه، ص196.
2. محمد عبدالقادر بافقيه: "تاريخ اليمن القديم"، هامش رقم (178)، ص223. "يمنت: يجعلها جام (35أ/273) جنوب سبأ، بينما يجعلها فون فيسمن (45ب/402) جنوب حضرموت. ويجعلها جلاسر (انظر 9(2)/ 530) القسم الجنوبي الغربي من شبه جزيرة العرب. كما أن "يمنت" كما لاحظنا من قبل هي الجنوب إطلاقًا". وانظر كذلك بافقيه نفس المصدر، ص137، بالحديث في العنوان عن: سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت.
3. جواد علي: "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، جزء(2)، ساعدت جامعة بغداد بطباعته، ص530-531.
4. د. محمد عبدالقادر بافقيه: "الرحبة وصنعاء في استراتيجية بناء الدولة السبئية"، مجلة الإكليل، العدد الثالث والرابع، خريف 1409هــ/ 1988م، وزارة الإعلام والثقافة/ صنعاء، ص65.
5. اليمن: اسم شامل للمناطق الجنوبية، من جزيرة العرب في مقابل اسم "الشام" الذي يشمل المناطق الشمالية من الجزيرة، هذه التسمية لم ترد بهذه الصورة في أي من النقوش اليمنية المعروفة، وهناك اشتباه في أن تكون لفظة "زبيمن" -التي وردت في نقشين لأبرهة (م541، ورد كمانز، 506) من القرن السادس الميلادي- تعني "الذي باليمن". وجاء في النقوش اليمنية لفظ آخر مشابه هو "يمنت" الذي أصبح آخر الأمر جزءًا من أجزاء اللقب الملكي منذ أواخر القرن الثالث الميلادي غالبًا، وهذا اللفظ يحمل نفس المعنى اللغوي من ناحية الدلالة على "الجنوب"، إذ كان في النقوش القديمة مقابل "شامت/ شامة" أي الشمال، ولكن يمنت في النقوش لا تشمل اليمن كله، وإنما تعني جنوب اليمن نفسه. ومع ذلك فلا يستبعد أن يكون اليمنيون قد لفظوا "اليمن" في العصر الجاهلي القريب من الإسلام، فهذا هو الشاعر الحضرمي اليمني الجاهلي عبد يغوث بن وقاص الحارثي يقول: أبا كرب والأيهمين كليهما وقيسًا بأعلى حضرموت اليمانيا". و"يمنت": يجعلها جام (35أ/373) جنوب سبأ بينما يجعلها فون فيسمن (45ب/402) جنوب حضرموت، ويجعلها جلاسر (انظر 9(2)/ 530) كما لاحظنا من قبل (هامش) هي الجنوب إطلاقًا"، محمد عبدالقادر بافقيه: "تاريخ اليمن القديم"، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1985م، ص210.
6. انظر حول ذلك د. محمد بافقيه: المصدر السابق، ص48.
7. هذا التعبير الوارد في المتن حول المسند كهوية، للصديق الباحث التاريخي والشاعر الأستاذ محمود إبراهيم صغيري، حين عرضت عليه الورقة للاطلاع عليها، فسجل تلك المدونة/ الملاحظة.
8. انظر كذلك بافقيه: نفس المصدر، ص48.
9. نفس المصدر.
10. نفس المصدر.