هل ابتلعت الأرض فيلسوف "مجنون الدمنة"؟

"لوحة "المجنون الأخضر" للفنان الإسكندراني عبدالهادي الجزار(شبكات التواصل)
"لوحة "المجنون الأخضر" للفنان الإسكندراني عبدالهادي الجزار(شبكات التواصل)

في منتصف سنوات الحرب اللعينة، وتحديدًا في منتصف شهر مارس/ آذار عام 2020م، حاولت عربة آيسكريم العبور من شارع شبه ضيق، في مدينة "الدمنة" حاضرة مديرية خدير، 22 كلم شرق مدينة تعز، لكنها لم تستطع، نظرًا لوجود شخص فارع وذو عضلات مفتولة، انتصب أمامها، كعمود جماد.

حاول السائق إصدار أبواق متتالية، في محاولة منه للفت ذلك الشخص للابتعاد عن الطريق، ولم يفلح.

أدرك حينها أنه لا بد أن ينزل من على مقود السيارة، لإزاحته، وقبل أن يهم بالاتجاه نحوه، طلب من نادله، إعطاءه قطعة آيسكريم، ناولها ذلك الشخص، وأمسكه من كتفه، لإبعاده بهدوء من وسط الطريق، سرعان ما أسمع السائق عبارة: أنا حامد البصير، خريج كلية الآداب -جامعة البصرة العراقية، "تخصص لغة عربية"، قدمت من مديرية المقاطرة الجبلية في محافظة لحج الجنوبية، إلى هذه المدينة بحثًا عن فرصة عمل، أي عمل. ومن يومها، ظللت أشاهده هنا وهناك، وهو يشتاط غضبًا، تارة، وتارة يطلق عبارات، احتجاجًا على ما آلت إليه حالته المأساوية. قالها يومًا: "التخلص من هذا الشعب "فضيلة". شعب لا يدافع عن حقوقه وكرامته يلعن أبوه شعب". ويبدو أنه أراد أن يرسل رسائل غير مباشرة لمن يريد أن يتحرر من العبودية، بالمقاومة.

بعد أيام سمعته يقول: "إعراب المقاومة، مبتدأ مرفوع بالضمة. الظلم: مضاف إليه مجرور بالكسرة".

يومًا فيومًا وعامًا فعامًا، والبصير يحاول أن يقاوم حالات الاكتئاب بكل ما يستطيع، حتى وجد نفسه مشردًا في شوارع وأحياء المدينة، بعد سنوات من الدراسة في خارج الوطن.

لقد وصل إلى ما يشبه حالة من اليأس لعدم حصوله على وظيفة ليقتات منها، وأطفاله الثلاثة وزوجته التي أصبحت هي الأخرى وأطفالها في وضع لا يحسدون عليه، على ما آلت إليه من واقع مرير وصفته بـ"الجحيم". كان ذلك في بداية شهر أكتوبر/ تشرين الثاني من العام 2022م، حيث تحلَّق حوله، مواطنون، وزوجته التي قدمت إلى المدينة، أملًا منها بأن يعود إلى مسقط رأسه، لكنها فشلت فشلًا ذريعًا في إقناعه بالعودة معها، رفقة صهره، الذي وعده بإعادته إلى إحدى المدارس الأهلية، لتدريس اللغة العربية. يقول الفيلسوف الرواقي الروماني إيبكتيتوس: "المجنون لا يمكن إقناعه ولا تحطيمه".

لقد ولت عائدة إلى ديارها يملؤها الحزن العميق. وكان آخر عبارة قالها لزوجته: "اعتني بالأولاد، وبمكتبتي العامرة". وظل هو في مربع مفتوح، أشبه بسجن كبير.. الدمنة، البلدة التي فضّل ألا يغادرها إلى جغرافية أخرى.
ورغم وصوله إلى ما يعرف بـ"المختل عقليًا"، ظل يتذكر، من وقت لآخر، الأيام التي كان يعيشها ما قبل الجنون، فكان يدهش المارة والمحيطين به، بعبارات تنم عن حالة طبيعية، ولو لم يكن بثياب شبه رثة لما صدقوا أنه مختل عقليًا. وكان إذا ما أطلق كلامًا أو عبارة، أو جملة ما، لا توحي تقاسيم وجه أنه يكلم نفسه، بل كأنه يتحدث إلى أكبر قدر من الناس، في أوقات كان المجتمع يقابله بالغمز واللمز، الذي عادة ما يواجهه مجنون ما إذا ما اتهم بارتباطه بأجهزة استخباراتية، وهذا ما تعرض له فعلًا بـ"كونه جسمًا مخابراتيًا"، بلهجة شعبية يمنية "حُرَّاب"، أستبعد أن يكون كذلك. ثم لا يهمني إذا ما كان "حُرَّابًا" أم مختلًا عقليًا؟

وذات صباح، سألني سؤالًا "يتيمًا" لم أتوقعه، لربما أنه تعوَّد على رؤيتي بشكل شبه يومي في مربع مدرسة حكومية بالمدينة: مع من تشتغل؟ فقلت له مازحًا: مع إسرائيل، ومضى، لأن المختل عقليًا عادة لا يكرر الأسئلة. إذ لم أجد منذ صباي وحتى اليوم، مجنونًا في أية منطقة بالجمهورية، بهذه الذهنية الخرافية، إلا في روح هذا الإنسان الحامد البصير، الذي ظُلم بشكل قاسٍ، وما أكثر المقهورين في هذي البلاد المخنوقة بطوابير القتلة والفاسدين والطغاة!

"ستذهبون جميعكم إلى الجنة بقرار جمهوري إذا تخلصتم من الخوف"، وكأنه كان يحاكي عبارة للروائي والصحافي الروسي تشاك بولانيك: "ربما لن نذهب إلى الجحيم بسبب الأشياء التي فعلناها، بل بسبب الأشياء التي لم نفعلها". وفي عبارة أخرى، التقطها صباح الأحد 16 فبراير/ شباط الماضي، تذكر فيها مقولة للفيلسوف والسياسي الإيطالي نيكولا ميكيافيللي: "الطريقة الأولى لتقييم حكمة الحاكم، هي النظر إلى الرجال المحيطين به". حيث لم أكن أتوقع اختفاءه بعد إطلاقه هذه العبارة، التي نقلتها نصًا في حائطي، بـ"فيسبوك" يومها، في ختام نقلي عنه قرابة 40 عبارة، خلال أوقات مختلفة، أقسم إنني لم أنسب لنفسي يومًا حرفًا واحدًا منها. وكثيرًا ما كنت أحاول أن أقترب منه دون أن أشعره، لأحظى بكل احترام بسماع ما سينطقه "فيلسوف المجانين"، إن جاز التعبير، من عبارات لم يقلها إلا الفلاسفة والدهاة الذين عصرتهم الحياة، وآمنوا بالحرية والعدالة، وحق الشعوب في الحصول على كامل حقوقها، وحامد البصير، كان كذلك، قال: "إن الله لا يساعد أحدًا إذا ما ظل يدعو من بيته بزوال الطغاة"، وفي وقت سابق قال: "لم أخشَ مستبدًا في حياتي".

وفي ذروة الاضطرابات الصحية العقلية، أطلق عبارة، استدعى فيها ماضيه مع الكتب، وجلد ما وصفه بـ"العربي المتخلف": "كنت في الماضي أحاور أمهات الكتب، فأصبحت أحاور لفافات العربي المتخلف ذهنيًا". و"تعالوا لنبني وطنًا في السماء". ويضحك يومًا: "الشعب اليمني أصبح مجنونًا، إلا أنا". تلتها عبارة له: "صباح الناس التائهة في هذه الجغرافية". و"أنا النبي أيوب". وقال: "كنت مجنوناً بأدب الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي". و"أشعر بالدفء إذا ما استحضرت سيرة إمام النحاة؛ سيبويه". يقول جورج برنارد شو، أحد أشهر الكتاب المسرحيين في العالم، والحائز على جائزة نوبل في الأدب للعام 1925م: "قد تأتيك النصيحة النافعة على لسان مجنون".

وبعد أيام، وقف أمام إحدى الكافتيريات الشعبية، وفاجأ صاحبها بطلب النادل: ''واحد شاي حليب بالحشيش"، سرعان ما التفت إليه زبائنها، كنت أحدهم، وبادر صاحبها بالاكتفاء بالرد عليه: "الشاي بالحشيش في الجنة"، أضحك بها الحاضرين مليًا، فيما اكتفى هو بشرب الشاي بالحليب، بكأس سفري، أعطاه النادل إياه مجانًا. وتراجع خطوتين للخلف، وقال: "أعطني سيجارة أُعد لك وطنًا شامخًا"، ويشطح قليلًا: "أحكام لينين من القرآن". وكنت تعرضت للتكفير من قبل متشدد، على خلفية نقلي نص هذه العبارة التي نشرتها في حسابي بـ"فيسبوك"، نصًا، قلت: "إن ناقل الكفر ليس كافرًا. فإذا كان قائل هذه العبارة يلفظ كثيرًا لفظ الله، فهل هو كافر، بمعزل عن كونه مختلًا عقليًا أم لا؟".

قال ذات يوم: "يا الله حوّل بمليار دولار وواحد شاهي بالحليب". سبقتها عبارة: "سوف أتنازل عن نصيبي في الجنة مقابل باكت سيجارة، قد ربي قطع عليَّ الرزق، يحسب أنني متُّ". ويسخر في سياق متصل: "عندما يصبحُ العربي مهمومًا بالجنة، إنما يفتحُ أبوابَ الانتصارات للغرب". وقال أيضًا: "من السُّخف أن يعتقد العرب أن الحروب الصليبية، ماتزال قائمة". وأن "العرب أشدّ انحطاطًا". وفي عبارة أخرى: "ليس لدى العرب أي ابتكار يخدم العالم سوى آلة القتل والتقطع". ويشتاط غضبًا بـ"لو كنت أستطيع أن أزج بجميع تجار الدين جهنم لما ترددت". و"لو كنت حاكمًا لقطعت ألسنة خطباء الإسلام السياسي". وفي ذروة الحرب في غزة، قال إن "العرب عقلانيون في التعاطي مع حرب غزة".

أما المدهش تجليًا عندما قال: "تعالوا لأعلمكم فنون مقاومة الظلم"، مشيدًا بنضال الماضي، بعبارة "سلام الله على شعبي الستينيات والسبعينيات". وأن "أي شعب لا يقرأ التاريخ جيدًا لا يستحق أن نشفق عليه من جحيم الطغاة". و"لا خير في شعب يستجدي الطغاة أن يمنحهم حقوقهم المشروعة". و"اللعنة على شعب يقاتل العالم بالكلام وقت تكييفة مضغ القات". و"بناء الأوطان بحاجة إلى مغامرة".

ويرى أنه "لم ولن تنتصر الشعوب العربية على الجهل والتخلف، إلا بحرب عالمية كبرى تُصهر بجحيمها". و"نريد كوكبًا آخر نعيش فيه أمراء وملوكًا". ويغضب أكثر: "إبليس مؤمن، وهو أرحم بنا من البشر".

فهل كان حامد البصير مجنونًا، أم حكيمًا، أم فيلسوفًا، أم أنه يعيش حالة هروب من الواقع الذي أصابه في مقتل؟
يتساءل الفيلسوف واللغوي الهولندي، مؤلف الكتاب الأشهر "الجنون المحض": "هل الفلسفة تقود إلى الجنون، أم الجنون يقود إلى الفلسفة؟"، ويشير في مقال موسع إلى أنه "قُدمت التفسيرات الشعبية لما يغلب تسميته اليوم بـ"المرض العقلي"، من حيث تأثير الأرواح والشياطين، بالإضافة إلى تأثيرات وتوبيخات وتحذيرات وتعاويذ الآلهة؛ وكان يُعتقد أيضًا -في بعض الحالات على الأقل- أن المجنون يدرك شيئًا حقيقيًا كما يقول أفلاطون: "لقد صنعنا أربعة أقسام للجنون الإلهي"، وعزاهم إلى أربعة آلهة، قائلًا إن "النبوءة مستوحاة من أبولو، والجنون التصوفي لديونيسوس، والشاعرية لإله الإلهام، وجنون الحب المستوحى من أفروديت وإيروس كان الأفضل"، ومن وجهة النظر الثالثة هذه -وجهة نظر أفلاطون- حول حقيقة الجنون، فإن المجنون ليس مريضًا بمرض، ولا يعاني من القدر الإلهي".

"لست مجنونًا مادمتَ تكلّم نفسك"، تحت هذا العنوان، نقلت المترجمة سارة المصري، في مقال موسع لها، في "الجزيرة نت"، عن أنه "ذات يوم في ربيع 2010م، كان عالم النفس إيثان كروس يقود سيارته عندما كسر إشارة حمراء، وفورًا هتف لنفسه قائلًا: "إيثان أيها الغبي!"، وتعهد أن يقود بحذر في ما تبقى من الطريق، ثم لكونه عالم نفس توقف ليفكر في ما قاله. فهو لم يقل أنا غبي! بل أشار إلى نفسه باسمه "إيثان"، فما السبب؟".

كتبت يومًا: "مجنون "الدمنة" بتعز، ومدرس لغة عربية سابق، صار يتذكر اسمي: يا صهباني كم الساعة في بلادنا؟ قلت له مبتسمًا: "ما إعراب كم الساعة في بلادنا"؟ فذهب وهو يهز رأسه بشكل أفقي، ولم يرد عليّ بكلمة واحدة. لم تنتبني يومها أية خشية من هذا الأمر، وعلقت يومها: "أنا حزين عليك يا حامد البصير.. اللعنة على هذا الوضع الكارثي".
فأين اختفى هذا الفيلسوف العظيم، الذي قال: "سأُغَنِّي قريباً"، ولم يُغَنِّ، لكنه كان قد قال يومًا: "لا ينظر إلى السماء ليلاً، إلا أنا"؟