قراءة موجزة في الشأن اليمني وتطورات الأحداث خلال 62 عامًا (1962-2024م) (1-2)

المشهد الأول (1962-2011م)

شهدت الجمهورية العربية اليمنية (الشطر الشمالي من الوطن) حروبًا طاحنة لمدة ثماني سنوات بين الجمهوريين والملكيين، بداية من قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، برئاسة المشير عبدالله يحيى السلال، وبدعم وإسناد مصري للجمهوريين، ودعم وإسناد سعودي للملكيين، وبعد قرابة سنة و19 يومًا نشبت الثورة في الشطر الجنوبي من الوطن ضد الاستعمار البريطاني في 14 أكتوبر 1963م، ولمدة اربع سنوات، بدأت من قمم جبال ردفان بقيادة "الشيخ غالب بن راجح لبوزة" الذي ارتقى شهيدًا في مطلع نشوب الثورة، مع العلم أنه ورفاقه كانوا في مقدمة المناضلين في ثورة 26 سبتمبر 1962م المجيدة. وقد تشكلت جبهتان لمقاومة الاستعمار البريطاني: جبهة التحرير والجبهة القومية، لكن نشب القتال بينهما، واستأثرت الجبهة القومية بحكم الجنوب.

ويبدو أن ثمة تنسيقًا بين ثورتي اليمن بعامل المساندة المصرية لثورتي الشمال والجنوب، بتوجيهات الزعيم جمال عبدالناصر حسين المري. وكان مقر جبهة التحرير في تعز، وتتلقى مساعدات مصرية، ولعوامل النزاع بين الجبهتين لم تتمكن جبهة التحرير من الاستمرار في مشاركة الجبهة القومية في الحكم، فانكفأت على نفسها، وبقي أعضاؤها في الخارج.

استمرت الحروب في الشمال بين الملكيين والجمهوريين دون هوادة، ولم يكن الجمهوريون على وئام، وتمت الإطاحة بالرئيس المشير عبدالله يحيى السلال، في 4 نوفمبر 1967م، خلال زيارته للعراق، تلتها حرب السبعين يومًا بتطويق الملكيين صنعاء في الفترة من 27 نوفمبر 1967م حتى فك الحصار في 8 فبراير 1968م، وبقيت الحرب مستمرة بين كر وفر بين فلول الملكيين والجمهوريين حتى نهاية أغسطس 1968م، في جنوب صنعاء، وحسمت بانتصار الجمهوريين في "قزان" المطل على نقيل يسلح، وإعلان فتح الطريق صنعاء -تعز.

من جهة أخرى، تزامن مع ذلك قيام الحرب بين رفاق السلاح (الجمهوريين) في 23 و24 أغسطس 1968م، لأسباب حزبية (حسب مراقبين)، وتم إبعاد 22 ضابطًا إلى الجزائر من كلا طرفي النزاع، بقرار جمهوري من القاضي عبدالرحمن الإرياني، رئيس المجلس الجمهوري.

وسادت اليمن والمنطقة حالة عدم استقرار، وبخاصة بعد نكسة الخامس من حزيران 1967م، وانسحاب القوات المصرية تدريجيًا من اليمن بعد ضغوط داخلية وخارجية، وقد جرت تفاهمات سابقة بين الرئيس جمال عبدالناصر حسين والملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، أثناء زيارة الزعيم جمال عبدالناصر إلى المملكة العربية السعودية (جدة)، في 22 أغسطس 1965م، بعد تتويج الملك فيصل بن عبدالعزيز بالسلطة بعد أخيه الملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود، في 2 نوفمبر 1964م، ثم جاء لقاؤهما الثاني على هامش مؤتمر القمة العربية في الخرطوم خلال الفترة من 29 أغسطس إلى 1 سبتمبر 1967م، نظرًا للأوضاع الصعبة التي كانت تمر بها المنطقة. وكانت اللقاءات التي جمعت بين الجانبين لحلحلة الوضع في اليمن مثمرة وودية.

وبرعاية الملك فيصل بن عبدالعزيز، تم الصلح عام 1970م بين اليمنيين: جمهوريين وملكيين، تحت بيرق الجمهورية العربية اليمنية.

وفي نفس السياق، تمكن الإخوة في الجنوب من نيل استقلالهم بعد معارك بين الجبهتين القومية والتحرير من ناحية، وبينهما وبين الاستعمار البريطاني حتى جلائه من عدن في 30 نوفمبر 1967م، وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية برئاسة أ. قحطان الشعبي. وفي عام 1969م استولى الجناح اليساري للجبهة القومية على السلطة، وتم تغيير اسم البلاد إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، برئاسة علي سالم ربيع (سالمين)، يونيو 1969 حتى استشهد 1978م، بصراع بين جناحي السلطة، وتسلم الرئيس عبدالفتاح إسماعيل السلطة (1978-1980م)، بعد تأسيس الحزب الاشتراكي اليمني من القادة: عبدالفتاح إسماعيل الجوفي، علي ناصر محمد، وعلي سالم البيض، ولم تكن الأحوال مستقرة، حيث قدم الرئيس عبدالفتاح إسماعيل استقالته، وغادر إلى موسكو.

الجدير بالذكر، نشبت نزاعات ومناوشات حدودية في 1972م و1979م بين الشمال والجنوب، أفضت إلى توقيع اتفاق القاهرة، عام 1972م، بين رئيس المجلس الجمهوري القاضي عبدالرحمن الإرياني، والرئيس سالم ربيع علي، برعاية الجامعة العربية، وانتهت حرب 1979م بتوقيع اتفاق في الكويت بين الرئيس علي عبدالله صالح، والرئيس عبدالفتاح إسماعيل الجوفي.

تجدر الإشارة إلى أن الرئاسة بعد مغادرة الرئيس عبدالفتاح إسماعيل حتى عودته من موسكو 1985م، استمرت في ظل أوضاع سيئة بين جناحي الحزب. حل الرئيس علي ناصر محمد بدلًا من عبدالفتاح إسماعيل، في الفترة (1980-1985م)، وقد نشبت الحرب الأهلية في 13 يناير 1986م، بين جناحي الحزب الاشتراكي المنقسم بين "زمرة" برئاسة علي ناصر محمد، و"طغمة" برئاسة عبدالفتاح إسماعيل، وفي اجتماع الحزب في "معاشيق" باشر حراس "الزمرة" بإطلاق الرصاص على "الطغمة"، بسبب خلافات على الحكم، ويبدو -حسب مراقبين- أنها حرب مناطقية على السلطة أودت بحياة كثير من قادة "الطغمة"، وآلاف القتلى والجرحى من الحزب والأهالي، وفي ظروف غامضة استشهد الزعيم عبدالفتاح إسماعيل الجوفي، بعد أن خرج من قاعة الاجتماعات ورفيقه علي سالم البيض معًا، إلى جهة مجهولة، ولم يعد. كما غادر الرئيس علي ناصر محمد ورفاقه إلى صنعاء. تزامنت تلك الأوضاع، في وقت بدأ انهيار النظام الاشتراكي (حلف وارسو) بقيادة الاتحاد السوفييتي، بعد سبعين عامًا من الصراع أمام النظام الرأسمالي (حلف الأطلسي -النيتو) بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي سحب هذا الوضع نفسه على الحزب الاشتراكي في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، الذي كان يتبع الاتحاد السوفييتي وبقية دول حلف وارسو.

الجدير بالذكر، تسلم منصب الرئاسة بعد أحداث 13 يناير 1986م، الرئيس علي سالم البيض، حتى قيام الوحدة اليمنية وإعلان قيام الجمهورية اليمنية بين الشطرين، في 22 مايو 1990م، برئاسة المشير علي عبدالله صالح، ونائبه أ. علي سالم البيض، وفي توقيت يطول الحديث عنه.

وفي السنوات الثلاث الأولى للوحدة، خابت آمال الشعب صانع الوحدة، حيث لم تكن الأحوال بين شريكي الوحدة على ما يرام، مما أدى إلى الحرب الانفصالية 1994م، وفشلها، ومغادرة نائب الرئيس علي سالم البيض إلى سلطنة عمان لاجئًا، وساد عدم الاستقرار في اليمن والمنطقة تمثل بموقف اليمن من غزو العراق للكويت، وكذا غزو إريتريا لجزيرة حنيش الكبرى، ثم تبعتها المناوشات الحدودية بين السعودية واليمن، ومعاهدة جدة في 12 يونيو 2000م، تلتها الحروب الست مع أنصار الله -الحوثيين (2004-2010م).

قمين بالذكر، أنه بعد عودة الأمور بين اليمنيين إلى مجراها الأخوي في عام 1970م، وكذا إعادة العلاقات الثنائية السعودية -اليمنية، لم يحسن اليمنيون قيادة دفة الحكم بنجاح، كما لم يكن البعض من مشايخ ومسؤولين ومتنفذين على مستوى حجم الوطن، واعتمدوا على الغير في تسيير شؤون الدولة، بمعنى أن سيادة اليمن مخترقة، وأن قرارها الخارجي مُصادر.

وتدفقت الأموال بملايين الدولارات شهريًا وسنويًا لإشباع نهم مسؤولين ومشايخ تتجاوز عشرات الملايين من الدولارات، وكان بالإمكان إيداعها في خزينة الدولة لمنفعة الشعب نظرًا للظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تمر بها اليمن.

في واقع الأمر، إن فساد هؤلاء المسؤولين لم يقتصر على الخارج فحسب، وإنما كان متفشيًا على نطاق واسع في طول البلاد وعرضها بنهب ثروات البلاد ومساعدات المانحين من قروض، وهبات، والبسط على الأراضي، والتضييق على المستثمرين بتقاضي إتاوات الهيمنة على الوظيفة العامة، ومضايقة رجال الأعمال، وعدم التقيد بالقوانين بمختلف مسمياتها... الخ.

ويستثنى من تلك المسائل المذكورة أعلاه "المرحلة الذهبية" التي عاشتها اليمن بقيادة الرئيس الشهيد إبراهيم محمد الحمدي، إبان الفترة من 13 يونيو 1974 حتى 11 أكتوبر 1977م. فقد شهد عهده القصير إنجازات كبيرة، منها التصحيح المالي والإداري في أجهزة الدولة، وإنشاء التعاونيات، في الريف والمدن، وإنعاش الوضع الاقتصادي، واستقلال القرار السياسي، وبناء علاقات خارجية على الصعيدين الإقليمي والدولي، والدعوة لقيام الوحدة اليمنية بالاتفاق مع أخيه الرئيس سالم ربيع علي، رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية... الخ. وكانت النتيجة الانتقام منه ومن معه بخيانة داخلية بالتواطؤ مع الخارج.
"نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا"
وفي سياق آخر، قرأت مقالًا بعنوان "وكر القوارض"، لا أذكر اسم كاتب المقال، شمل أسماء شخصيات بارزة لمسؤولين يتلقون أموالًا من الخارج شهريًا وسنويًا، لكن كاتبه لم يكن منصفًا، حيث كشف بعض أسماء وحجب آخرين لمآرب.. وقرأنا في صحف عديدة مطلعة في مطلع الثورة الشبابية، أسماء شخصيات كثيرة يتقاضون رواتب من الخارج، وفي نفس الوقت يتبوؤون المراكز العليا، إلى جانب أموال الشعب التي ينهبونها في الداخل.

حقًا، لم يكن يتأتى لأي كاتب أو كائن من كان أن يذكر فساد مسؤولين ومشايخ ومتنفذين في السلطة، خشية من أن يصنف بشخص غير وطني، ويزج في السجن، حسب مراقبين سياسيين.

ومن الأعمال التي كان المسؤولون ينفشون فيها ريشهم، ويزينون بها أنفسهم تباهيًا أمام شعبهم الطيب، تمثلت بمنجز العمل الديمقراطي النيابي دون سائر المنطقة، تلميعًا لأنفسهم، وإضفاء الشرعية على كل ما يقومون به من أعمال، رغم أن وجود المجلس النيابي كما عايشناه على مر السنين، لم يكن إلا خيال ظل للفساد، وخير شاهد عليه ابتكار العبارة المشهورة بـ"تصفير العداد"، أي تعديل مواد الدستور المتعلقة بالانتخابات الرئاسية التي قصمت الديمقراطية الوليدة في مهدها، وكانت من أسباب انهيار النظام، إلى جانب الفساد المستشري، حسب مراقبين.

كل ما في الأمر، أن معظم المجالس النيابية في الدول النامية، ليست بأفضل حال، بخاصة في الجانب المتعلق بتغطية أعمال الحاكم، وبطانته، والمتنفذين، الأمر الذي يفقد هذه المجالس روح العمل الديمقراطي النيابي من أساسه.

ولكيلا أطيل في تفاصيل جانبية، أود أن أعود إلى موضوعنا للتأكيد أن الفساد في اليمن بمعناه الواسع قد استشرى في شرايين السلطة، عاليها وسافلها، بصورة غير معهودة في تاريخ اليمن، وظهر ذلك جليًا، بكثرة النهب، والاغتيالات، والفتن، والحروب الداخلية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتعطيل المشاريع الاستراتيجية.

وما زاد الطين بلة، تنازل النظام اليمني عن نجران وجيزان وعسير الغنية بالموارد، وكأنها ملكية خاصة، وتقدر بحدود أربعمائة ألف كيلومتر مربع، وفقًا لـ"معاهدة جدة" الموقعة والمصادقة بين الجانبين اليمني والسعودي في 12 يونيو 2000م... فاعتبرت إقرارًا بتلك المساحة بصفة نهائية ودائمة، وأودعت في الجامعة العربية ومنظمة الأمم المتحدة.

وللإحاطة علمًا أن "معاهدة الطائف" 1934 التي بقيت سارية المفعول دون إقرار أو تنازل لمدة 66 عامًا -حسب قانونيين- كانت تتضمن أيضًا مزايا للجانب اليمني في العمل والإقامة والتنقل ومعاملة المواطنين اليمنيين كإخوانهم السعوديين، أما اليوم فقد انتهت الأرض والمزايا.
وفي هذا السياق، أكد الخبير القانوني زيد الفرج، ما يلي: "تجسيدًا للمسؤولية التاريخية اليمنية على الحقائق، يجب على الدولة تحديد المواقف، وبمنتهى التجرد والدقة، حول تلك (المعاهدة) التي وقعت على أسس غير عميقة، ولا واضحة، ولا تستند إلى الحق والعدل سعيًا لبطلانها".
بكل أسف، إن كل ما جرى خلال هذه الفترة القاسية شمالًا وجنوبًا، حصدناه علقمًا، ومانزال نحصده كنتيجة طبيعية، حيث أصبح السواد الأعظم من الشعب اليمني فقيرًا في بلاده، تعيسًا في بلدان الجوار، ومشردًا في بلدان العالم، بعد أن سُدت أمامه سبل الحياة الكريمة.

المشهد الثاني (ديسمبر 2011-2014م)
انهيار النظام العربي العميق وانعكاساته على الواقع اليمني

شاءت الأقدار أن تنهار الأنظمة العربية العميقة بثورات شبابية عارمة بداية من تونس، ديسمبر 2010م، تلاها مصر، 25 يناير 2010م، ثم اليمن وليبيا وسوريا، فبراير 2011م، وأخيرًا لا آخرًا السودان، ديسمبر 2018م، والجزائر، فبراير 2019م، ثورات شبابية طليعية متجددة بعد أن ذاقت البلدان العربية مرارة الويلات من أنظمتها.

حقًا، إنها ثورات دكت الأبراج العالية لمضاجع تلك الانظمة، ومايزال العمل الثوري قائمًا ومتجددًا حتى يحقق أهدافه، رغم أنه كان بالإمكان معالجة مشاكل الشباب لبساطتها، تمثلت بمطالب في مقدمتها توظيفهم، وتحسين أحوالهم المعيشية، وهذا كان كفيلًا بإنهاء معاناتهم، إلا أنه بدلًا من معالجة أسباب ثورات الربيع العربي، جوبهت بتعالٍ، وغطرسة، وصلف، وعناد، وشيطنة هذه الثورات، قادت هذه الأسباب كافة في النهاية، إلى سقوط تلك الأنظمة العميقة.

والغريب في الأمر، أن كل رئيس عربي كان يقف مخاطبًا الشباب كأنه "عنترة زمانه"، مع الفارق الشاسع بين "عنترة بن شداد"، حامي مضارب بني عبس والعرب، والمشهود له بالفروسية (البوشيدو) بكل معانيها، وبين هؤلاء الرؤساء.

في واقع الأمر، لازم الشباب تواجدهم في ساحات التظاهر، يستمعون إلى خطابات رؤساء الأنظمة، غير مبالين بالتهديد والوعيد، حتى تساقطوا الواحد تلو الآخر كأوراق الخريف.

حقيقة، إن العامل النفسي لكل واحد منهم جعله لا يصدق ما يحدث أمامه بأن شبابًا طيبين، بائسين تجرعوا الثالوث الرهيب: الجوع، والفقر، والمرض، يثورون عليه، وقد زاده كبرياء وعنادًا بما يسمع عنهم من قبل بطانته، وحوارييه، وحاملي المباخر، بأن الأمور تحت السيطرة، وأنه يسهل التصرف مع هؤلاء الغوغائيين، وإنهاء أي تجمع لهم في الساحات بشتى الوسائل الممكنة: قنصًا، وحرقًا، ورشًا بالمياه العكرة.

لذا أخذتهم العزة بالإثم، فلم يدرك منهم هذا الرئيس أو ذاك، أن معظم النار من مستصغر الشرر، وما هي إلا أيام حتى توسعت دائرة هذه الثورات الشبابية لتشمل شبابًا من مختلف مكونات المجتمع المدني، بمن فيهم شباب الأحزاب التي اعتلت المشهد بكل قوة، وكانت رافدًا قويًا وداعمًا لثورات الربيع العربي. وهناك من استغل الفرصة من الأحزاب الأكثر تنظيمًا ليكونوا بديلًا عن الأنظمة السابقة.

لا يخفى على أحد أن الشباب المستقلين كانوا من العوامل الرئيسة لتعزيز "ثورة الصدور العارية"، و"البطون الخاوية"، مما جعل من سقوط الأنظمة العميقة أمرًا لا محالة منه.

في واقع الحال، إن هذه الثورات قد قامت في وقت رفع فيه هؤلاء الحكام العرب شعارات "أنا الدولة، والدولة هي أنا" "أنا وبعدي الطوفان"، تزامنت هذه الشعارات أيضًا مع موضة "توريث الحكم" أو ما اصطلح على تسميته حينذاك "الجمهوريات الملكية".

وهنا، استحضرت ذاكرتي بعض أبيات من الشعر، للشاعر محمود سامي البارودي باشا، قائد "الثورة العرابية" في مصر، عام 1881م، ورئيس وزراء مصر، 1882م، والملقب برب السيف والقلم، على النحو الآتي:
لا تحسبن العيش دام لمترفٍ
هيهات ليس على الزمان دوامُ
تأتي الشهور، وتنتهي ساعاتها
لمع السراب، وتنقضي الأعوامُ
والناس في ما بين ذلك وارد
أو صادر، تجري به الأيامُ
لا طائر ينجو ولا ذو مخلب
يبقى، وعاقبة الحياة حِمَامُ

المشهد الثالث: العامل الخارجي والنفسي لسقوط النظام العربي

في هذا الصدد يجب معرفة "المخرج الأجنبي" المساند لهذه الثورات، أو من كان يقف وراءها، وأخذ علمًا بسيكولوجية الحكام العرب، وهم صنيعته وعملاؤه، الأمر الذي أسهم أيضًا في إغراقهم وتشجيعهم على الفساد خلال أربعة عقود، حتى تحين له الفرصة، وقد حانت لتنفيذ مخططه الاستعماري -الصهيوني في صياغة المنطقة.

باليقين، إن هذا المخرج قد ركز على العامل النفسي لهؤلاء الحكام، مدركًا أنهم لن يقبلوا بالتنازل عن أي مطالب كانت، بعد فترة حكم عبثية طويلة سادها الظلم، والقهر، والفساد.

ومن هذا المنطلق، نستشف أن هذا "المخرج الإمبريالي" تمكن من استخدام الحرب النفسية كعامل رئيس لإسقاط هؤلاء الحكام، وكان عامل التواصل الاجتماعي السريع الانتشار أيضًا بين الشباب إحدى ركائزه، فضلًا عن التحذير للأنظمة من محاولة قمع المظاهرات، أو قتل المتظاهرين الشباب، وكذا الحث على تلبية مطالبهم وإعطائهم حقهم في حرية التعبير، وكلنا يذكر زيارة هيلاري كلينتون إلى المنطقة العربية، في بداية ثورة الشباب العربي، لتحذير رؤساء من محاولة المساس بالشباب. كل تلك المسائل المذكورة أعلاه قد أسهمت إلى حد بعيد بتعزيز العمل الثوري في مختلف ساحات التظاهر وإسقاط رؤوس الأنظمة العميقة.

وما كان ليتأتى لهذه الثورات أن تؤتي أكلها، وبكل ما أوتيت من قوة، لولا تضحيات الشباب ذوي الصدور العارية، ورافعي اليافطة "ارحلوا، ارحلوا، هرمنا، هرمنا".

الجدير بالذكر، كان حال اليمن مختلفًا نوعًا ما عن بقية الدول العربية، تمثل ذلك بتدخل دول "مجلس التعاون الخليجي"، مما أفضى إلى مبادرة خليجية، أفقدت ثورة الربيع العربي في اليمن بريقها لمخاوف جيوسياسية وسيسيولوجية من هبوب رياح الثورة إلى عقر دارها.

على كل حال، وقع على المبادرة جميع الأحزاب والمكونات السياسية، وبموجبها، تم انتخاب رئيس توافقي "المشير عبد ربه منصور هادي"، باستفتاء شعبي عريض، كما نصت المبادرة على مرحلة انتقالية مزمّنة، كان المستفيد منها حزبي المؤتمر، والإصلاح، اللذين عادا لتقاسم السلطة من جديد (وكأنك يا بو زيد ما غزيت)، أمام خيبة أمل شبابية، وبالتالي، استمر حكم الحزبين وشركائهما لمدة سنتين وبضعة أشهر عجاف، سادتها الفوضى، وعدم الاستقرار، وتخللتها مكايدات ومناكفات سياسية، وعدم تمكين دولة رئيس الوزراء الأستاذ محمد سالم باسندوة، من تسيير شؤون دفة الحكم، أضف إليه أن جميع الوزراء، والقادة العسكريين والأمنيين ظلوا منقادين لأوامر قيادة رؤساء أحزابهم، كما كان الحال قبل قيام ثورة الشباب، ولم يبقَ لـ"رئيس الجمهورية" المشير عبد ربه منصور هادي، سوى حراسته الخاصة التي تم القضاء عليها في وقت لاحق خلال اقتحام منزله.