اليمن: التاريخ والهُوية (٣ - ٤)

الإهداء:

دكتور يوسف محمد عبدالله(منصات التواصل)
دكتور يوسف محمد عبدالله(منصات التواصل)

إلى روح الفقيد الراحل د. يوسف محمد عبدالله، واحد من أهم علماء التاريخ والآثار والنقوش، هو مع قلة قليلة -د. عبدالله حسن الشيبة- من المشتغلين بينابيع اليمن القديم، آثاره، ونقوشه، من يستحق بكل جدارة لقب واسم عالم، غيبه الموت، واليمن والعلم التاريخي في أمس الحاجة إلى مساهماته المعرفية والفكرية.
مع خالص المحبة والتقدير.

 

اليمن في الشعر القديم والإسلامي:

لقد تعاصرت الممالك والدول في تاريخ اليمن القديم: سبئية، حميرية، حضرمية، معينية، قتبانية، أوسانية، كما وجدت في شكل دول متحدة معبرة عن حركة تقدم، أو تحولات هذا الشعب على طريق بناء الدولة/ الدول في صورة دولة: "ملك سبأ" و"سبأ وذي ريدان"، ثم في صورة "سبأ وذي ريدان، وحضرموت، ويمنت"، ثم في صورة دولة "سبأ وذي ريدان، وحضرموت ويمنت وطودا وتهامة"، وهكذا، في شروط تحكمها تبدلات معادلات السياسة، والسلطة، والقوة، بمستوياتها المختلفة: القوة السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والإدارية... إلخ، أي تبدلات الشرط السياسي، على أنها جميعًا قديمًا وراهنًا، يحتويها الإطار الكياني الثقافي الحضاري الجامع، تحت مسمى اليمن، بصرف النظر عن: متى بدأت هذه التسمية (اليمن)، أي بعيدًا عن جدل المسمى الجغرافي (جنوب عربي أو جنوب الجزيرة العربية)، بدلالاته الواسعة التي تدخل في إطاره شعوب وأقطار عربية، منها، ظفار/عمان.

وعلى "رغم الخلاف لدى الأخباريين العرب قديمًا أو العلماء حديثًا حول تسمية اليمن باليمن، فإن اليمن بمعنى الجنوب كان معروفًا عند العرب في جزيرتهم، فقد قالوا سميت اليمن لتيامن العرب إليها، أي لاتجاههم في نجعاتهم وبحثهم عن الماء والعشب والمأوى نحو الجنوب"(١).

تسمية "جنوب الجزيرة العربية" عرفت وسادت كتسمية منذ آلاف السنين، لتشير وتدل على ما نسميه اليمن، أرضًا وشعبًا، وتاريخًا مشتركًا، وكانت ظفار/ عمان تدخل ضمن هذه التسمية الجغرافية، وكانت أحيانًا تصل سلطاتها السياسية إلى مكة، وغيرها، وتدريجيًا وعبر قرون سحيقة في القدم، تراجعت وغابت التسمية الجغرافية التاريخية "جنوب الجزيرة العربية"، وترسخ في الثقافة والأدب، والاجتماع والتاريخ، اسم اليمن كهوية، توحد وتجمع اليمنيين في كل الجغرافيا، كهوية تاريخية، وهو ما تقوله المصادر الكلاسيكية التاريخية منذ أكثر من ألفي سنة على الأقل، وليس الأهواء السياسية العابرة.

إن العالم المعرفي والثقافي والتاريخي كله، بما فيه جميع المستشرقين وكتاب التاريخ، يتحدثون عن "حضارة اليمن القديم" ومكانتها في تاريخ الإنسانية.

إن تسمية "جنوب الجزيرة العربية" و"العربية الجنوبية" و"العربية السعيدة"(٢) كما أطلقها المؤرخون قديمًا، وحتى تسمية البعض مناطق ودول اليمن بـِ"الهند"(٣) ، جميعها تدل وتشير إلى معنى اليمن في التاريخ السياسي والحضاري العالمي، حتى جاء الاستعمار البريطاني، 1839م، بعد احتلاله لجنوب اليمن، ليصطنع ضمن سياسته العسكرية/ السياسية "فرق تسد"، ترسيم أيديولوجية سياسية جغرافية لا علاقة لها بالتسمية الجغرافية التاريخية "جنوب الجزيرة العربية"، تحت مسمى "جنوب عربي"، ليقيم حواجز سياسية وجغرافية وديموغرافية، بين اليمنيين، في الشمال والجنوب.

وبعيدًا عن إسقاطات الاصطلاح السياسي الاستعماري المعاصر، لشعار "الجنوب العربي"، الذي أطلقه الاستعمار، وأسقطه كفاح الشعب في جنوب البلاد.. نؤكد أنه لا يعنينا هنا كثيرًا الجدل السياسي التاريخي العقيم الذي غدا "سفسطائيًا" حول من أين جاءت تسمية اليمن، هل من التسمية الجغرافية للجنوب، أو من أنها يمين الكعبة، مقابل شمالها (الشام)، أو من الانتساب إلى قحطان بن الهميسع بن تيمن بن ثابت بن إسماعيل بن
إبراهيم(٤).. إلخ، أو أنه آتٍ من كلمة اليُمن، ومن أن اليمن هو جنوب شبه الجزيرة العربية(٥).

فالشعر العربي القديم قبل الإسلام "الجاهلي"، وبعد الإسلام، يشير إلى اليمن، ومنه على سبيل المثال:
يقول الشاعر عبد يغوث بن الحارث بن وقاص:
أبا كرب والأيهمين كليهما
وقيسًا بأعلى حضرموت اليمانيا
وكذا:
أما من جنوب تذهل الغل ظلة
يمانية من نحو ليلى ولا ركبُ
يمانون نستوحيهم عن بلادهم
على قلص يذمي بأحسنها الجدبُ(٦).
وقول الشاعر اليماني الكندي الحضرمي امرئ القيس:
تطاول الليل علينا دمون
دمون، إنا معشر يمانون
وإنا لأهلنا محبون
وقول الشاعر عبد يغوث كذلك:
هواي مع الركب اليماني مُصعدٌ
جنيب وجثماني بمكة موثقُ
عجبت لمسراها وأنَّى تخلصت
إليَّ وباب السجن دوني مغلقُ
إلى قوله:
وتضحك مني شيخة عبشميةٌ
كأن لم ترَ قبلي أسيرًا يمانيا
وقول الشاعر عمرو بن أبي ربيعة:
تقول عيسي وقد أمت ركائبها لحجا
ولاحت ذرى الأعلام من عدنِ
أغاية الأرض يا هذا تريد بنا
فقلت: كلا ولكن منتهى اليمنِ
ويقول الشاعر:
ألا أيها الركب اليمانون عرجوا
علينا فقد أمسى هوانا يمانيا(٧)
وقول جرير:
يا حبذا جبل الريان من جبل
وحبذا ساكن الريان من كانا
وحبذا نفحات من يمانية
تأتيك من قبل الريان أحيانا
هم شعراء من كل جغرافيا الأرض اليمنية.
ويورد الهمداني في مواضع من كتابه "صفة جزيرة العرب"، شعرًا كالتالي:
طبقت بالسيول أبين حتى
لحجها وهي والسماء سواءُ
تلكم أحور وتلك الدثينا
ت مع السرو جنة خضراءُ
ولذبحان فالمعافر فالساحل
من غورها ضباب عماءُ(٨)
يقول قيس بن الملوح الملقب بمجنون ليلى، عاش فترة خلافة مروان بن الحكم:
ألا لا أحب السير إلا مُصعَدٌ
ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
فالشعر القديم قبل الإسلام، وفي العصر الإسلامي والوسيط والحديث والمعاصر، مليء بالكثير من ذلك الشعر الذي يؤرخ لمعنى الهُوية اليمنية عبر التاريخ.

فالنقوش ق.م. تقول ذلك، والآثار تؤكد على حقيقة الهُوية اليمنية التاريخية، كجدلية حية متطورة وتاريخية.

إن حروف، وكتابة المسند على جداريات التاريخ، وعلى الآثار المادية المنتشرة في المتاحف الوطنية، والعالمية، ستجيب على الوعي القاصر بالتاريخ، عند البعض، وسترد عليهم وتهزمهم نقوشنا اليمنية: السبيئة، والحميرية، والقتبانية، والأوسانية.

إن الحقيقة السياسية الاجتماعية التاريخية، تقول لنا بجلاء ووضوح: إنه لا يولد شعب موحد من تلقاء نفسه هكذا في التاريخ، توحده السياسة، والحركة السياسية التاريخية في صيرورتها، يوحده الفعل السياسي الوطني التاريخي باتجاه صناعة الأعمال السياسية والاجتماعية والثقافية المشتركة، والدولة العادلة، والديمقراطية الجامعة اليوم، هي القاطرة نحو ذلك، وليس عبر، ومن خلال استعادة دول "الغلبة/ والتغلب" وفق منطق الوحدة بالحرب والدم، وحدة "الأصل" و"الفرع".

يمكنني القول في ختام هذه العنونة/ الفقرة، إن أبا الحسن الهمداني هو المؤسس النظري/ الأيديولوجي -لاحقًا- لمعنى الهوية اليمنية، والدولة اليمنية المستقلة، أي لمعنى اليمن: الدولة، والتاريخ، والحضارة، فقد أخذ على نفسه مهمة بلورة هذا المعنى على نهج سياسي/ ثقافي تاريخي قويم، والذي تبدى وتجلى في "التنظير للشعور بتبلور الكيان اليمني، في شكل الدوافع على جوانب العصبية القبلية واليمنية عنده، وقد بنى الهمداني نظرته هذه عبر دعامتين أساسيتين هما: الحضارة، والدين، واليمنيون جامعون لكليهما(٩). وتعبير "اليمنيون، جامعون لكليهما"، ورد في واحدة من قصائده المثبتة في كتاب علي محمد زيد "معتزلة اليمن ودولة الهادي"(١٠).

إن المصادر التاريخية، من التاريخ القديم إلى الإسلامي، بصورة أوضح وأشمل، وإلى ما بعد ذلك من المراجع تؤكد على أن اليمن وتسمية "اليمن" بدلالاتها المختلفة، حقيقة تاريخية ثابتة، وهناك جماعات سكانية كبيرة من شعوب في دول في المنطقة العربية وغير العربية (الأندلس/ إفريقيا) تفخر بأن أصولها -أو أصول بعض أبنائها وقياداتها- يمنية، وليس في ذلك احتماء بالتاريخ، أو ارتماء في أحضان التاريخ، ورهان عليه في تحركنا صوب المستقبل، لأن للحركة صوب المستقبل أدوات وطرائق مختلفة، منها امتلاك الإرادة لاقتحام سماوات المستقبل للحفاظ على منجز اليمنيين في التاريخ وفي بناء الدول/ والممالك، والأهم اليوم الإضافة النوعية إلى ذلك، وليس البكاء على أطلال التاريخ أو الفخر بها فقط.

الهوامش:
١. د. يوسف محمد عبدالله، "أوراق في تاريخ اليمن وآثاره: بحوث ومقالات" ط(٢)، ١٩٩٠م، ص١٩٠.
٢. هناك من المؤرخين القدماء والمحدثين (جورجي زيدان) من يقولون إن العربية السعيدة هي اليمن وحدها، وتحتوي أو تضم أراضي مناطق من خارج اليمن: "نجد، والعروض وتهامة، ومعظم الحجاز"، ولكن الثابت والمنتشر في الأدبيات التاريخية، أن العربية السعيدة المقصود بها بلاد اليمن.
حول ذلك انظر د. عبدالله أبو الغيث: "العلاقات السياسية بين جنوب الجزيرة العربية وشمالها، من القرن الثالث حتى القرن السادس للميلاد"، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، عاصمة للثقافة العربية، ط2014، ص18.
٣. تعددت التسميات التي أطلقت على اليمن كما أشرنا في متن الموضوع من "جنوب الجزيرة العربية" إلى "العربية السعيدة" و"العربية الجنوبية"، ومن الجدير بالذكر هنا الإشارة إلى أنها -جنوب الجزيرة العربية- قد سميت كذلك في بعض الكتابات الكلاسيكية "القديمة"، بـِ"الهند" كما سماها أوبيوس القيسري في تاريخه الكنسي، 5: 10، وإيرونيموس الذي سمى رهبانها بـِ"رهبان الهند"، ونيلوستر جيوسي الذي سمى الحميريين بـِ"الهنود".
انظر حول ذلك أغناطيوس يعقوب الثالث، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، كتاب "الشهداء الحميريون العرب في الوثاثق السريانية"، ط1966م، دمشق، ص5، هامش رقم(2). وهنا نؤكد القول إن الزمن السياسي في تحولاته يمر كأنه لحظة عابرة في التاريخ، ويبقى اسم ومسمى اليمن، هو المتداول والخالد الذي يشير إلى هذه المنطقة الجغرافية والديموغرافية.
٤. عبدالرحمن بن علي بن محمد بن عمر بن الديبع: "بغية المستفيد في تاريخ مدينة زبيد"، تحقيق: عبدالله الحبشي، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، بدون تاريخ نشر، مقدمة كتاب المركز مؤرخة بتاريخ 9/2/1979م، ص17.
٥. كيف نفهم خطاب الرسول (ص) حين قدم أهل الأشاعر إليه، فقال: "أتاكم أهل اليمن..."، فمن يقصد بخطابه أهل اليمن؟
هل كان يقصد جهة جغرافية، أو اجتماعية أو قبلية؟ أما أنه كان يقصد بها كيان سياسي هو كل اليمن؟ أي جميع القادمين إليه من مناطق اليمن المختلفة للدخول في الدين الإسلامي، وتكرر هذا الوصف لجميع القادمين إليه بصور مختلفة، باعتبارهم هم اليمن، أو هم أهل اليمن حسب التسمية الرسولية.
٦. ياقوت الحموي: مجمع البلدان ، دار صادر، بيروت، لبنات، 1977م، مجلد(5)،ص448، لم يعرف بالشاعر، قال، وقال آخر.
٧ . ديوان قيس بن الملوح: دراسة وتعليق: يسرى عبدالغني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1999م، ص125.
٨. الهمداني، نقلًا عن د. محمد عبدالقادر بافقيه: "تاريخ اليمن القديم"، بيروت، نيسان 1985م، ص60.
٩. د. عبدالعزيز المقالح: "قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة"، ص117. نقلًا عن د. عبدالعزيز قائد المسعودي، "إشكالية الفكر الزيدية..."، ص171.
١٠. د. علي محمد زيد: "معتزلة اليمن ودولة الهادي"، إصدار مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، ط2014م، ص132. وفي كتاب علي محمد زيد "معتزلة اليمن ودولة الهادي"، مناقشة فكرية سياسية نقدية، تاريخية، لذلك في صورة تناوله للهمداني، ونشوان بن سعيد الحميري، قراءة فيها تأكيد لمعنى الهوية اليمنية المستقلة، في خضم الصراع مع طموحات الإمامة في بناء سلطتهم الخاصة على حساب اليمنيين.