أحمد(١)

الأستاذ أحمد محفوظ عمر، الأديب الكبير، رائد القصة اليمنية.. كان الفصل الأطول في صداقات عمري على الإطلاق منذ صباي كتلميذ في المدرسة طوال الخمسينيات.. وإلى ما بعدها، إلى أن حالت بين لقاءاتنا التي تواصلت شبه يومي، إلى أن حرمتنا حروب الوحدة والانفصال وتفصيل الانفصال، من اللقاء في هذه الأيام الأخيرة من الدهر، العدو الذي دخل علينا مزمجرًا متوعدًا بالويل والثبور، وسمم حياتنا، ومزق بداخلنا أشياء حميمة ظننا أنها لن تخرب قبل رحيله عن دنيانا وانكسار الآمال والطموح فينا.. وتوقف أمواج خليج عدن عن التدفق.. وأصبح النور نارًا في الأيادي الجاهلة.

في الخمسينيات أيضًا، وفي الحركة الكشفية العدنية مع الزميلين اللواء علي ناصر هادي، واللواء علي عوض واقص، وقفنا قدام سوق الشيخ عثمان، في إطار نشاط الكشافة في أسبوع العمل بشلن لبيع أول مجموعة قصصية تصدر للأستاذ أحمد محفوظ.. "الإنذار الممزق".

وبدخولنا في حقبة الستينيات، خرجنا من المدرسة.. ودخل الأستاذ في خدمة الجيش كرئيس لجناح الثقافة الذي استحدث، دخل مباشرة كضابط، دون أن يمر بتدرج الرتب العسكرية.. فمثله ولد ليقود لا ليقاد.. وقاد جناح الثقافة الذي استحدث لأول مرة في الجيش.. كان قبلها قد أقام لنا، تلاميذ ومدرسين، حفل كيك وشاي على الطريقة الإنجليزية، في بستان الكمسري، بمناسبة إكمال توزيع مجموعته القصصية الأولى.

جاء الاستقلال، وألقي القبض على المحفوظي وعدد من ضباط الجيش، بتهمة تكوين خلية سرية باسم الضباط الأحرار، ونقلوا إلى سكن كبير في مدينة الاتحاد (الشعب بعد ذلك)، تحول إلى معتقل كبير.. وجرى التحقيق معه، وأخلي سبيله بعد وقت.. لكن حادثًا كهذا لم يؤثر في عزيمته، رغم أنه أدى إلى تسريحه من الخدمة.. وشق طريقه في الخدمة المدنية كتربوي مرموق.. وتواصلت إصداراته القصصية التي تلت "الإنذار الممزق"، وكتابات صحفية متفرقة في الصحف.

كما كان تألقه في الكتابة.. كان قصه للحكايات التي يرويها من أمتع ما سمعت في جلسات لقاءاتنا التي لم تنقطع.. في ركن حافة دبع بالشيخ عثمان حيث سكن، كان يخزن القات فوق قعادة حبال بعد ظهر كل يوم.. ذات مرة -كما روى لي- اختصم عيال الحافة.. وجاءه صبي باكيًا يشكو إليه اعتداء صبي آخر عليه بالضرب.. وككبير في الحافة أراد أن يثبت وجوده.. قال للوليد: وري لي فينه وأنا با أربيه.. فأخذه الصبي إلى مكان المعتدي، وأشار إليه بإصبعه.. قال المحفوظي: أنا بسرعة وبلا تردد ربخت يدي وقوحته كف حامي قدام العيال.. وليد قصير كذا انتبهت له بعدين.. بس كان كله عضلات.. اتوالموا العيال على صوت الكف.. ومسح المتعدي على وقع الكف ومد يديه وقال وهو يرجع ريوس: حسكم حد يتفاضل..! اللي يتفاضل با أ... عاره.. فاهمين؟ العيال كلهم رجعوا خايفين ولا أحد منهم اتنخس.. وبعدين.. أيوه.. وبعدين.. قلت لي وبعدين.. وبعدين يا صاحبي أنا ما دريتش بحاجة.. شفت نفسي إلا وأنا أرتفع إلى فوق وأحط على الأرض على رأسي! والله أنا لو دققت بالليد العضلاتي تمام ماكنتش با أتدخل أبدًا.

ومثل هذه الحكاية كثير.. لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد.. ولا يتسع المجال لتعدادها.. حكاوي، ومقالب، ومحازي لا حصر لها.. وبدخول سنة 1980م صدرت لي مجموعة قصصية بعنوان "الهجرة مرتين"، تكرم المحفوظي بتصديرها بكلمة طيبة على الغلاف.. وكانت أول نظارة قراءة أقتنيها من إهداء الأستاذ أحمد في مصادفة لم تكن لي بالحسبان.. فبدون دراية ولا علم ولا فحص كنت نزيل مستشفى الصين بكريتر.. وأقرأ في رواية جورج أورويل التي عنوانها "1984" أهداني إياها في زيارته لي بالمستشفى صديقي حسين السيد.. كنت أقرأ وأنا ممسك بالكتاب على بعد، لكي أرى الحروف بوضوح، عندما زارني أحمد.. ولفت نظره إمساكي بالكتاب على بعد.. قال: ليش تبعد الكتاب عن عيونك؟ وعرف أني أفعل ذلك لأرى الحروف بوضوح.. قال: أهلًا وسهلًا بك.. نطقها بالإنجليزية: "ويل كم تو ذي كلوب"، أنت الآن بحاجة إلى نظارة قراءة، ولدي واحدة قديمة با أجيبها لك من البيت.. وفعلًا رجع إلى بيته، وجاب النظارة! وكم كانت فرحتي عظيمة وأنا أقرأ بارتياح بالنظارة المحفوظية.

كان أطول حوار صحفي يجريه أحمد محفوظ عمر معي في مجلة "المنارة" التي رأست تحريرها.. وحديثنا طال.. يبدو أنه بحاجة إلى المواصلة.