عدن: سوق سوداء لاستخراج وثيقة سفر

في المصلحة المظلمة: انتظار طويل وسماسرة جشعون

ازدحام المواطنين على أبواب مقر الجوازات في عدن كريتر (النداء)
ازدحام المواطنين على أبواب مقر الجوازات في عدن كريتر (النداء)

افترش عبدالرحمن حيزًا في رصيف مصلحة الهجرة والجوازات والجنسية بمدينة عدن، جنوبي اليمن، وقعد مع زوجته، بانتظار جوازي سفر، يمكنانهما من المغادرة إلى القاهرة بغرض العلاج.

كان يوم جمعة، لكن عبدالرحمن لم يعد بمقدوره الانتظار أكثر من ثلاثة أسابيع للحصول على وثيقتي سفر قال له أحد سماسرة المصلحة إنه سيستخرجهما في غضون ٢٤ ساعة، ثم اختفى بعد أن استلم مبالغ باهظة من الرجل مقابل الخدمة المستعجلة.

رسميًا، لا تتجاوز رسوم جواز السفر مبلغ 9000 ريال يمني (الدولار يساوي 1600 ريال في عدن)، لكن عبدالرحمن دفع للسمسار، 400 ألف ريال، مع بطاقته الشخصية وبطاقة زوجته التي تعاني من سرطان في الثدي، وتستدعي حالتها العلاج في الخارج دون تأخير، وهو السبب الذي جعل زوجها يدفع أموالًا طائلة على أمل الحصول على جوازات السفر بوقت قياسي.

بالإضافة إلى الأموال التي دفعها عبدالرحمن لسمسار المصلحة، خسر الرجل القادم من صنعاء، أموالًا أخرى كنفقات إقامته الفندقية في عدن، ومعيشته هناك.

عدا عبدالرحمن، يشكو الكثير من اليمنيين، من فساد تغول داخل مصلحة الجوازات التي تحولت إلى مرفق للاحتيال واختلاس أموال المواطنين، حسب شهادات استمع إليها معد التقرير من المراجعين.

جوازات يمنية (شبكات تواصل)
جوازات يمنية (شبكات تواصل)

منذ نهاية العام 2018، قررت الحكومة اليمنية، عدم الاعتراف بالجوازات الصادرة من صنعاء والمناطق الخاضعة لسلطة الحوثيين، وتمنع حامليها من السفر عبر المطارات والموانئ اليمنية، لكنها بالمقابل لم تنجح في إنهاء الفساد المستشري داخل مصلحة الهجرة والجوازات بعدن، الذي يعد أكثر مرافق الجوازات ازدحامًا وعشوائية.

بررت الحكومة قرارها بإلغاء الجوازات الصادرة من مناطق سيطرة الحوثيين، بإساءة استخدام الجماعة للجوازات، لكن هذا القرار شكل ضغطًا كبيرًا على الفروع البديلة في عدن وعدد من المحافظات الخاضعة لسيطرة الحكومة المعترف بها، كما انعكست تبعات القرار سلبًا على المواطنين القاطنين في مناطق سيطرة الحوثيين، والذين يتكبدون معاناة التنقل بين المحافظات في طرق بديلة ومرهقة، للحصول على جواز سفر، في ظل استمرار قطع الطرق الرئيسية الرابطة بين عدد من المحافظات في البلاد، التي تشهد صراعًا مسلحًا منذ العام 2014م.

بدأت الحكومة اليمنية بستة مكاتب لمصلحة الجوازات، ووصلت الآن إلى عشرة، لكن حالة الفوضى والعشوائية، مازالت هي السائدة  في عملية استخراج وثيقة السفر التي تعد من أبرز حقوق المواطنة الأساسية.

طوابير طويلة وزحام خانق من قبل طالبي جواز السفر، في زمن التكنولوجيا والإصدارات الرقمية الغائبة كليًا عن جوازات عدن وغالبية المرافق الحكومية.

خلال السنوات القليلة الماضية، ارتفع عدد اليمنيين الراغبين في استخراج وثيقة سفر. وفقًا لإحصائية حصلت عليها "النداء"، فإن متوسط من تستقبلهم مكاتب مصلحة الجوازات في الفروع التابعة للحكومة المعترف بها، يصل إلى 10 آلاف شخص.

السفر بالمال

يجري تداول مصطلح "الجوازات المستعجلة" بشكل شائع من قبل عدد من سماسرة مصلحة الجوازات وموظفيها، للحصول على مكاسب غير مشروعة، ومن خلال هذا المسمى ينتشر النصب والاحتيال على نطاق واسع.

عند تقديم طلب لإصدار جواز سفر مستعجل بسبب ظروف ملحة للسفر، وغالبًا ما يكون المتقدمون مرضى، يتعين على طالب الخدمة دفع مبالغ مالية كبيرة، تفوق بكثير التكاليف الرسمية المطلوبة. يتم استغلال حاجة الناس وأوجاعهم بشكل بشع وغير أخلاقي.

ومن أجل تحقيق هذه المكاسب الشخصية، يقوم موظفون في مصلحة الجوازات بعرقلة العملية القانونية لإصدار الجوازات بطرق ملتوية، ويعمدون إلى إطالة مدة انتظار الجواز لأسابيع أو حتى شهور لأولئك الذين يكتفون بدفع الرسوم القانونية. يتم ذلك بهدف زيادة عدد طالبي الجوازات المستعجلة، وجني المزيد من الأموال. وبفعل هذه الممارسات غير القانونية، يجد المواطنون أنفسهم مضطرين لدفع أموال مضاعفة لضمان تلقي خدمة سريعة ومرضية.

يقول خالد المفلحي، إنه دفع 400 ريال سعودي، (نحو 200 ألف ريال يمني)، لأحد موظفي المصلحة، وهو ضابط برتبة ملازم أول (تحتفظ "النداء" باسمه)، مقابل الحصول على جواز سفر خلال 24 ساعة.

الموظف السمسار أوضح لخالد، أن المبلغ الذي أخذه منه دون سند رسمي، يتم تقاسمه بالتساوي بين قيادة المصلحة وموظفي مركز الإصدار الآلي المركزي في مدينة جدة السعودية، المعني بإرسال الموافقة الأمنية بالطباعة، وشخص ثالث يتولى الطباعة في عدن، وهو رابعهم.

ودون دفع الأموال، فإن عملية استخراج الجواز ستأخذ مدة قد تصل إلى ثلاثة أشهر، وفقًا لإفادة سمسار المصلحة لخالد.

لكن مصدرًا في مركز الإصدار المركزي التابع لمصلحة الجوازات (مقره جدة)، نفى ذلك، وقال لـ"لنداء"، إن عمل المركز يقتصر على التحقق من أن طالب الجواز ليس موضوعًا على قوائم المطلوبين الأمنيين، والتأكد من اكتمال بياناته وصحتها، وما إذا كانت لديه وثيقة سفر سابقة سارية المفعول أم لا، ومن ثم إعطاء الموافقة بطباعة الجواز إلى الفرع الذي أرسل البيانات، دون انتقاء بين مستعجل وآخر.

وأضاف المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويته: "عرقلة طباعة الجواز تقع في الداخل، وتحديدًا في قسم الطباعة. أحيانًا لعدم وجود دفاتر، وأحيانًا أخرى تكون هناك عرقلة مفتعلة من قبل سماسرة الجوازات، حتى يضطر المراجعون إلى دفع مبالغ غير قانونية للحصول على جوازاتهم دون تأخير".

 

إقرار بعمليات الاحتيال

تقر قيادة مصلحة الهجرة والجوازات والجنسية بوقوع عمليات نصب واحتيال طالت طالبي جوازات السفر، وتقول إنها تعمل على معاقبة مرتكبيها. ويؤكد وكيل المصلحة العميد عبدالجبار سالم، في حديثه لـ"النداء"، ضبط عدد من موظفي المصلحة، وكذا سماسرة من خارجها، وإحالتهم إلى الجهات المعنية بتهمة الفساد واستغلال حاجة الناس.

ويدعو عبدالجبار المواطنين إلى مساعدة المصلحة من خلال عدم التعامل مع السماسرة، والإبلاغ عن أية محاولة ابتزاز "لن نتهاون في حالة اكتشفنا أي شخص يحاول ابتزاز أي مواطن".

ويسترسل العميد عبدالجبار في الحديث عن الصعوبات التي تواجه عمل المصلحة، ويقول: الإقبال على المصلحة وفروعها في المحافظات المحررة، كبير، وهناك ضغط يتسبب ببعض الإشكاليات، ويتم استغلاله من قبل ضعاف النفوس من موظفين وسماسرة.  ويضيف: "بعد انقلاب الحوثيين قمنا بسحب قاعدة البيانات من صنعاء، وأعدنا بناء المصلحة من جديد بكل إداراتها، وأنشأنا 10 فروع في الداخل، و17 مركزًا في السفارات والبعثات حول العالم،  وأصدرت المصلحة أكثر من  8 ملايين جواز سفر خلال السنوات الماضية".

وعن غياب التنظيم الآلي والإصدارات الإلكترونية التي يمكنها تسهيل حصول المواطنين على الجواز دون عناء، قال سالم إن العمل جارٍ لإنجاز ذلك، وأن المصلحة تعمل حاليًا مع منظمة الهجرة الدولية على نظام التأشيرة الإلكترونية، كما تم إنشاء منظومة الرقابة الحدودية في جميع المنافذ في الجمهورية، لتنظيم حركة المسافرين وصولًا ومغادرة.

ويرجع عبدالجبار شكاوى المواطنين بتأخير حصولهم على جوازات السفر، إلى عدم توفر الأعداد الكافية من الجوازات خلال الفترة السابقة، الأمر الذي خلق مناخات للسماسرة لابتزاز الناس، ويقول إن المصلحة تغلبت على هذه الإشكالية، وأنها حاليًا بصدد طباعة الجوازات المتأخرة، داعيًا المواطنين للحضور إلى المصلحة وفروعها لاستلامها.

 

استنزاف الأموال والثقة

ما يقوم به سماسرة الجوازات، لا يقتصر ضرره على نهب الناس أموالهم بالباطل وحسب، بل يؤدي أيضًا إلى تقويض ثقة المواطنين في الجهات الحكومية. الأمر الذي يجعل الحكومة ملزمة بإصلاح وتحديث إجراءات إصدار الجوازات، وتطبيق الشفافية والمساءلة، وإحالة المتورطين إلى القضاء، وتنفيذ عقوبات رادعة. يجب تفعيل أنظمة العمل بما يمكن المواطنين من الوصول السريع والمنصف للجوازات كحق أساسي، لا يحتاج إلى كل هذه التعقيدات والعشوائية.